حينما نستذكر شخصية ملهمة كأمير المؤمنين علي بن ابي طالب وما قام به من أدوار مهمة سجلها لنا التاريخ، فإننا نشعر بالفخر والاطمئنان لوجود هذا الرقي والعظمة والإنسانية والحلم والعطاء والعلم والشجاعة في مسيرة التاريخ، مثلما نشعر بالذهول والخوف من وجود تاريخ لا انساني مليء بالحروب والاستبداد...

لدى معظم الناس الاستعداد الفطري والقدرة للتفاعل مع أي عملية إصلاحية (التغيير او التطوير) تساهم في رفع قابلياتهم النفسية والروحية بصورة إيجابية في حال وجدت عوامل نجاح هذه العملية مثل:

1. القدوة او الاسوة او المصلح

2. البيئة الصالحة

3. عامل الزمن والمكان

4. الرسالة الانسانية

ان التفاعل بين هذه العوامل وغيرها ينتج مجتمع صالح قادر على الوصول الى اعلى درجات المثالية للمجتمعات المتطورة في مختلف المستويات الأخلاقية والاقتصادية والسياسية والتعليمية والثقافية، لأنه مجتمع إيجابي قادر على خلق أجيال خالية من العقد والتعقيدات، مجتمع مستقل ومتوازن يستطيع تجاوز العقبات ولا يقف عند المشكلة بل يكون قادراً على إيجاد الحلول المناسبة لها، وهذا ما سعى الإسلام الحنيف الى تأسيسه في مختلف المجتمعات الانسانية التي وصلتها رسالة الإسلام.

ولعل اهم عوامل النجاح في اصلاح أي مجتمع انساني هو وجود القدوة او المثل او المصلح او الاسوة الحسنة التي يمكن ان يتبع ويكون قادر على احداث التغيير نتيجة لتمتعه بصفات داخلية وخارجية تؤهله للنجاح في مهمته الإنسانية الصعبة، وهو ما حدث في زمن النبي الاكرم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه واله وسلم) عندما رفع راية التغيير والاصلاح في المجتمعات الساكنة التي حكمتها العصبية والتخلف والجهل لينجح في تحريك هذه المجتمعات نحو الانسانية والتعلم والوعي والاخلاق، لتكون قادرة على بناء حضارة إنسانية راقية شهد الجميع بمكانتها، ولقد كانت الكاريزما والصفات الأخلاقية والروحية التي تمتع بها رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) غاية في العلو والرفعة والسمو حتى استطاعت اختراق القلوب والعقول ووصل تأثيرها الى ابعد بقاع الأرض والى مختلف الأجيال المتعاقبة.

وعلى هذه السيرة الفذة لرسول الله (صلى الله عليه واله) ولد وتربى امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) في حجر الرسالة المباركة واخذ كل المعاني السامية والأخلاق العظيمة من فم رسول الله (صلى الله عليه واله)، وقد وصف امير المؤمنين (عليه السلام) هذا الاقتداء برسول الله (صلى الله عليه واله) بقوله: "وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه واله) بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد يضمني إلى صدره ويكنفني إلى فراشه ويمسني جسده ويشمني عرفه وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل، ولقد قرن الله به (صلى الله عليه واله) من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن اخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت اتبعه اتباع الفصيل إثر امه يرفع لي في كل يوم من اخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به"، لذلك كانت مهمة امير المؤمنين (عليه السلام) في الإصلاح كمهمة رسول الله (صلى الله عليه والله) في التغيير، ولم يكن الفارق بينهما الا في مقام النبوة والامامة: "انت مني بمنزلة هارون من موسى الا انه لا نبي من بعدي".

لقد سعى امير المؤمنين (عليه السلام) بما كسبه من معرفة أخلاقية وإنسانية وعلمية عظيمة من رسول الله (صلى الله عليه واله) الى:

1. ابراز المعاني السامية التي تضمنتها رسالة الإسلام الإنسانية الخالدة لكل البشر وتجسيدها بصورة حية واخراجها من اطارها الفكري والنظري الى واقع حي وملموس عبر سيرته واصحابه خلال حياته الشخصية والعامة.

2. محاربة الانحرافات الفكرية والعقائدية التي وقعت بعد وفاة النبي محمد (صلى الله عليه واله) ومحاولة البعض تحريف رسالة الإسلام بما يخدم مصالحهم الشخصية في تحصيل الحكم والمال والقوة ومصادرة حقوق الرعية.

3. السير على نهج رسول الله (صلى الله عليه واله) في صنع جيل من القادة والمصلحين المؤثرين (أمثال: ميثم التمار، المقداد، أبو ذر الغفاري، مالك الاشتر...الخ) في المجتمع ليكون لهم الدور في اكمال المسيرة ومنع عودة المجتمع الى حالته الساكنة وما يرافقها من تخلف وجهل وعصبية.

4. بناء حضارة إنسانية خالدة تضمنت المعاني الحقيقية للإسلام القائم على احترام الانسان وتقديس حقوقه وخصوصيته ومنع التجاوز او التعدي عليها مهما كان السبب او الدافع، وقد استطاع امير المؤمنين (عليه السلام) خلال فتره حكمه البسيطة تجسيد هذه الصورة بمعانيها الكاملة حتى أصبحت مثالاً لكل الأجيال اللاحقة.

وقد بعث امير المؤمنين (عليه السلام) في رسالة الى مالك الاشتر يبين فيها القيم العليا للتعامل مع الفرد والمجتمع بغض النظر عن اختلافهم معك ومدى قربهم او بعدهم عنك فيقول: "واشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم اكلهم فانهم صنفان أما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل ويؤتى على ايديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، ولا تنصبن نفسك لحرب الله فانه لا يدي لك بنقمته ولا غنى بك عن عفوه ورحمته".

والخلاصة اننا حينما نستذكر شخصية ملهمة كأمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) وما قام به من أدوار مهمة سجلها لنا التاريخ، فإننا نشعر بالفخر والاطمئنان لوجود هذا الرقي والعظمة والإنسانية والحلم والعطاء والعلم والشجاعة في مسيرة التاريخ الإنساني، مثلما نشعر بالذهول والخوف من وجود تاريخ لا انساني مليء بالحروب والاستبداد والنهب والفساد والعنف والجوع والقتل والجهل والعصبية خط على يد مجموعة ابتعدت عن معاني الاخلاق والفطرة الانسانية لتحقيق مصالحها الشخصية على حساب الآخرين مهما كان الثمن، وقد حول هؤلاء مجتمعاتهم الى مجتمعات ساكنة اشبه بالمجتمعات الداجنة التي لا نتاج لها ولا حقوق لتسهل السيطرة عليهم وتحريكهم بأي اتجاه يرغب فيه المستبدون، مثلما هو الحال في المجتمعات التي ترزح تحت حكم النخب الديكتاتورية.

* باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2021
http://shrsc.com

اضف تعليق