حياة الصديقة الزهراء، سلام الله عليها، كانت مشحونة بالاحزان والتحديات من نعومة الأظفار وحتى بيت الزوجية، والى آخر ساعة من حياتها الشريفة، وكانت مفعمة ايضاً بالحب والحنان والألفة والعطاء، وهذا ما جعلها نموذجاً يحتذى به لدى كثير من نسوة المدينة آنذاك، لامرأة تكسب عزتها وكرامتها من احترامها لأبيها وزوجها...
الحديث عن الصديقة فاطمة الزهراء، عليها السلام، يتفرع الى بعدين لهذه الشخصية العظيمة: البعد الأول: شخصية الفتاة التي وصفها أبوها رسول الله، بأنها "حوراء أنسية"، وأنها تذكره برائحة الجنة، وأنها الصديقة الطاهرة، و"أم أبيها"، ثم إنها زوجة أمير المؤمنين، بطل الاسلام الخالد، وأم الإمامين؛ الحسن والحسين، سيدا شباب أهل الجنة، وهي تلك المرأة العابدة، الزاهدة، والمحتشمة، صاحبة "تسبيح الزهراء" الذي علمها إياها رسول الله، ثم جرى ما جرى عليها من عسف وقمع بدأ عندها العد التنازلي لأيام حياتها لتمض شهيدة في مثل هذه الايام من شهر ربيع الثاني على رواية، فيما تذكر الرواية الاخرى تاريخ الثالث عشر من شهر جمادى الاول.
أما البعد الثاني: فهي فاطمة، تلك الفتاة القرشية التي ولدت في مكة، ونمت وترعرعت مثل سائر الفتيات، وربما كنّ يلتقين بها ويتبادلن اطراف الحديث، وكانت شديدة الحب لأبيها كما هو المعروف عن علاقة الفتاة بالأب، وكانت تحبّ، وتكره، وتغضب وترضى، وتقوم بكل أعمال البيت، كما كان معهوداً آنذاك، من غزل الصوف، واعداد الخبز والطعام وتنظيف البيت، فضلاً عن الاهتمام بالأولاد في بيت الزوجية.
إن الزهراء التي نعرفها اليوم بشخصيتها المقدسة وقامتها السامية، لم تكن معروفة بين الفتيات والنسوة في مكة والمدينة، لانها كانت مثلهن من حيث الظاهر، مع فارق الحاجز المعرفي بينهنّ في تلك الفترة، وبين النساء والرجال الذين يقرأون ويعرفون عن هذه الشخصية العظيمة اليوم.
هذا الحاجز، او الحلقة المفقودة في العلاقة بيننا وبين الصديقة الزهراء، بل ومع سائر المعصومين، هو الذي أوهم البعض بصعوبة الاقتداء بهم، والتعلم من سيرة حياتهم لما يفيدنا في حياتنا، وذلك لسببين: الاول: الفاصلة التاريخية الفاصلة بيننا و بين تلكم الرموز، لاسيما وأن الصورة الخاطئة التي وصلتنا من الثقافات الاخرى، تفيد بعدم امكانية الاقتداء بالرموز التاريخية مهما كانت بطولاتهم، وانجازاتهم العلمية والفكرية، فأولئك أبناء زمانهم، ولا يمكن النظر في سلوكهم وتصرفاتهم وطريقة تفكيرهم وتطبيقها على الزمن الحالي، نعم؛ نقرأ افكارهم، وحكمهم في حدود النظريات دون التطبيقات العملية، وتحويلها الى منهج في الحياة، فكيف كانوا يربون أبنائهم؟ وكيف كانوا يتعاملون مع الناس؟ تلك أمور ماتت مع اصحابها وصارت تحت التراب، فلابد من صياغة شخصية جديدة للانسان وفق افكار ونظريات مستحدثة للعالم المعاصر.
السبب الثاني: يعود الى شخصية المعصومين الاربعة عشر عند المسلمين، لاسيما في الوقت الحاضر، فثمة من يقول باستحالة الاقتداء بمن صاغت السماء شخصيته، وجاء النصّ في حقّه بالإمامة والولاية، كما هو الحال في النبوة، فهو معصوم عن الخطأ والزلل، وهذا يدفع البعض لاختيار شخصيات بارزة في التاريخ القديم او الحديث من المتفوقين علمياً وفكرياً ليكونوا القدوات لهم، وهو ما صرّح به أحد طلبة الجامعة لي عندما تحدث عن فيلسوف غربي، وقال انه متأثر بشخصيته وافكاره، فسألته عن رأيه بأمير المؤمنين، فقال: "كيف استفيد من شخصيته وهو انسان معصوم، بينما ذلك الفيلسوف انسان مثلي".
فاطمة الفتاة الحنون
كانت فاطمة في مقتبل العمر، ربما في الخامسة او السادسة من العمر وهي تستقبل أباها رسول الله وقد تعرض للأذى النفسي من مشركي مكة، فكانت تزيل الأوساخ عن رأسه وبدنه وهي تبكي بكاءً مراً، تعبيراً عن مدى حبها وإخلاصها لأبيها.
عملت بجدّ وبكل مشاعرها وقواها، على سد فراغ أمها خديجة، فكانت تواسي أباها وهو يواجه عناد المشركين وحربهم لرسالة السماء، وتضخّ في بيت النبوة الحنان والحُب بما يخفف عنه كل تلكم الضغوط الرهيبة من حصار، وتجويع، وتشريد، وتعذيب وتصفية جسدية.
هذه العلاقة الغريزية بين البنت والأب جسدتها الزهراء بشكل رائع ومميز بالايمان العميق والصادق بما كان يحمله أباه من رسالة عظيمة الى البشرية، وإلا فقد كانت فتيات أخريات في العرب يفتخرْن بآبائهنّ وإن لم يكونوا جديرين بالفخر والمديح، كما نُقل عن العجفاء بنت علقمة السعدي، تلك الفتاة التي اطلقت مقولتها وصار مثلاً وحكمة: "كلّ فتاة بأبيها معجبة"، وقيل في هذا السياق أن علقمة –والد العجفاء- كان بخيلاً وجباناً.
في بيت الزوجية
ومثل أي فتاة أخرى في الايام الاولى من الزواج، فان أحبّ ما تمتلكه الفتاة الثياب الجميلة، الى جانب الحُلي الذي لم يكن للصديقة الطاهرة منه نصيب، ولكن كان عندها "قميصاً" جميلاً من هدايا الزواج، وقبل ان يستقر هذا القميص في حجرة فاطمة طويلاً حتى طُرقت بابها، فسألت عن الطارق، قال: فقير. فراحت تبحث عن شيء تعطيه، فلم تجد سوى هذا القميص الجديد الذي يمثل ذكرى عزيزة على قلب كل فتاة، ولكن الحفاظ على قلب الفقير من التصدّع أعزّ على الزهراء من القميص الذي يبلى بعد حين، فيما تبقى ذكرى العطاء على مدى الازمان والدهور، ثم نأتي اليوم ونتحدث عنه، وستتحدث عنه الاجيال القادمة الى يوم القيامة.
فهل هذا يفسّر حالة اللااهتمام بالمسائل المادية في الحياة لدى الصديقة الزهراء، على أنها "حوراء إنسية"، وأنها فوق المظاهر التي يهتم بها سائر الناس؟
أرادت الزهراء ذات يوم استقبال أباها و زوجها من رحلة لهما، بأبهى صورة، تقول الرواية في بحار الانوار: "فصنعت فاطمة، عليها السلام، مسكتين من ورق وقلادة وقرطين وسترا لباب البيت لقدوم أبيها وزوجها"، ولم تكن الحُلي من الذهب او الجواهر الباهظة الثمن، وإنما من الفضة، فكانت سوار وحجل وقلادة وقُرط، الى جانب الستر وكان قماشاً ربما جميل المنظر على باب دارها، فبعد ان دخل عليها رسول الله، وخرج قرأت في وجهه العتب وعدم الرضى، وقبل ان يستقر في المسجد أرسلت الستر والحُلي اليه وقالت: لينفقها في سبيل الله، فقال، صلى الله عليه وآله، قولته المشهورة: "فعلتها فداها أبوها" ثلاث مرات أمام مرأى ومسمع من جموع المسلمين
وفي علاقتها بزوجها أمير المؤمينن، فهي كأي امرأة في المدينة ترغب أن ترسم على شفاه زوجها البهجة والسرور من خلال ما تقدمه طعام أو شراب يخفف عنه ما يبذله من جهود خارج البيت، هذا الى جانب الابتسامة الرقيقة والوجه المُنبسط، ولكن الصديقة الزهراء ضغطت على مشاعرها وأخفت حاجتها لبعض المواد الغذائية الاساسية في البيت، مثل الدقيق، او التمر، او السمن، او غيرها على زوجها أمير المؤمنين، حتى اذا جاء ذات مرة واستقر في مكانه ليستريح، وطلب من الزهراء أن تقدم له ما عندها من الطعام فكانت المفاجأة أن لا شيء في البيت من الطعام؟! فاستغرب الإمام، عليه السلام، وسألها عن السبب في عدم طلبها منه طيلة الفترة الماضية، أجابت: "امتثالاً لوصية رسول الله بأن لا تطلبي من زوجك شيئاً".
بالامكان استخراج عبرتين من وصية النبي الأكرم في عدم طلب الزوجة من زوجها شيء، العبرة الاولى: لتحميل الزوج مسؤولية تلبية احتياجات البيت، وبشكل ذاتي وطوعي، والعبرة الثانية: تكريم المرأة ورفعها فوق الطلبات مهما كانت، لنتخيل زوجة يأتي لها زوجها بكل ما تريد من ملابس ومواد اساسية من طعام وشراب ومستلزمات البيت دون أن تتكلف عناء الطلب والتذكير والإلحاح، في أي مرتبة تضع نفسها؟
لا ننسى، ولا تنسى المرأة المسلمة –والفتاة- أنها غير ملزمة بالمرة بأن تكون مثل الصديقة الزهراء، كما نفى ذلك أمير المؤمنين ذلك بالنسبة للرجال في كلمته الشهيرة الى عثمان بن حُنيف واليه على البصرة: "ألا وإن أمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه –قطعتين من الملابس- ومن طعامه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفّة وسداد"، ولكن؛ بنات حواء مدعوات جميعاً الى واحة السعادة والهناء من خلال سلسلة من الخطوات والبرامج الرائعة في الحياة اليومية.
ومن أروع البرامج؛ العلاقة مع الجيران فكانت تكثر من الدعاء لجيرانها، ولا نعلم هل يا ترى كانوا من الورع والتقوى والزهد مثلها؟! لا يُهم عند الصديقة الزهراء، فهي سلسلة الانبياء والمرسلين الذين يدعون لغيرهم قبل أنفسهم، على أمل الهداية والصلاح والسعادة، حتى سألها ابنها الامام الحسن عن سبب كثرتها للدعاء للجيران قبل الدعاء لهم، فقالت: "بُني الجار ثم الدار"، ويالها من كلمات تختزل دلالات ومعانٍ عظيمة، ليس أقلها التواصل، والتكافل، والمحبة، والتسامح، ومن ثم؛ توثيق العلاقات الاجتماعية.
حياة الصديقة الزهراء، سلام الله عليها، كانت مشحونة بالاحزان والشجون والتحديات من نعومة الأظفار وحتى بيت الزوجية، والى آخر ساعة من حياتها الشريفة، وكانت مفعمة ايضاً بالحب والحنان والألفة والعطاء، وهذا ما جعلها نموذجاً يحتذى به لدى كثير من نسوة المدينة آنذاك، لامرأة تكسب عزتها وكرامتها من احترامها لأبيها و زوجها، فيما تقذف بالغضب والمواقف الحازمة على الباطل والانحراف والطغيان، وهذا يبدو عين العقل والمنطق، ولمن يسأل عن دليل انعكاس الأخلاق الفاطمية على أخلاق المرأة العربية قبل ألف وأربعمائة عام يمكنه مراجعة محطات من احداث عاشوراء، وكيف أن زوجة زهير بن القين كانت الدافع الأساس للتحول نحو معسكر الامام الحسين، عندما ذكرته بأن "الدعوة جاءتك من ابن بنت رسول الله" -مضمون الرواية-، او تلك الأم التي شجعت ابنها على اللحاق بأبيه ليستشهد بين يدي الامام الحسين، وهي تقول: بيّض وجهي أمام الصديقة الزهراء، فهل نعتقد أن هذه النسوة وأخريات كُثر كُنّ بعيدات عن الصديقة الزهراء رؤية او سماعاً من الأمهات؟
اضف تعليق