q
واجه الامام العسكري تحدياً فكرياً وثقافياً أوجدته السياسات القمعية للحكام العباسيين، بحيث بلغ التنكيل والقمع والانحراف عن قيم الدين ومبادئه أن يستغل اعداء الدين من المتأثرين بالفلسفة اليونانية، ويحاولوا تشكيك الناس بحقائق دينهم وكان بينهم الفيلسوف المعروف إسحاق الكندي، حيث أخَذَ في تأليف كتاب يظنُّ أنَّه يرد به على القرآن الكريم...

لمعرفة أئمتنا الهداة الاثني عشر، عليهم السلام، لابد من مراجعة التاريخ، ومطالعة صفحاته بكثير من التأني والدقّة فيما يتعلق بحياتهم، وبموازاة ذلك مطالعة ودراسة سيرتهم المضيئة والظروف التي عاشوها؛ الاجتماعية منها والسياسية وحتى النفسية، للوقوف على كل قامة من هذه القامات لنخرج بصورة متكاملة تؤكد أنهم، عليهم السلام، في مسيرة واحدة، وبرسالة واحدة تتوقف عند محطات عدة، فهم كالقمر الذي يشع ضيائه من مصدر واحد، ثم تطرأ عليه التحولات والتغيرات خلال أيام السنة وأحياناً يغيب عن الأنظار!

فالإمام الحسين الذي حمل رسالة الإسلام في كربلاء، وضمن بقائها حيّة نابضة إلى يوم القيامة بتضحيته الخالدة، إنما كان امتداداً لأخيه الإمام الحسن، وكذلك الحال عند الإمام الصادق، في ظروف تطور الحركة العلمية، أو عند الامام الرضا، في التجربة السياسية، فقد كان هدف الجميع واحداً وهو حمل الرسالة المحمدية إلى الأجيال، ومواكبة حياة الإنسان بالتذكير بحقيقته والهدف من خلقه، كما هي مهمة الأنبياء، إنما الاختلاف أو التباين في الظروف الاجتماعية والسياسية التي رافقت حياتهم.

ويختلف دور الأئمة الأطهار ومهمتهم عن مهمة معاشر العلماء في عالم المادة مثل الأطباء؛ فهؤلاء يحملون علماً واحداً بقوانين وأسس ثابتة ولشريحة معينة من الناس وهم المرضى، في حين يحمل الأئمة كل شيء، ولكل الإنسانية، فالتضحية الحسينية كانت عند كل الأئمة ولكل الإنسانية، كما هو الحال في العلم والمعرفة الجعفرية، وأيضاً كل ما قام به الأئمة الهداة في أزمانهم، ويبقى الإمام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، شاهداً ومراقباً عن كثب لكل الانحرافات والأزمات التي تعيشها الأمة الإسلامية حتى يأذن الله تعالى بالفرج ويتحقق على يديه ما كان يصبو إليه آباؤه وأجداده الهداة، بل حتى أهداف الأنبياء والرسل على طول التاريخ.

هنا نتخلص من الصورة النمطية التي حددناها لأئمتنا الأطهار، عليهم السلام، فبات الواحد منّا لا يعرف أمير المؤمنين إلا بالساعد المتين والسيف البتار، ولا الحسين إلا بمصيبة استشهاده، ولا الحسن إلا بأنه مسموم مظلوم، ولا السجاد إلا بالمرض والتهجّد، ولا الكاظم إلا بالسجن، وهكذا. في حين هم مدعاة للفخر والاعتزاز بقدر واحد. لأن أحد عشر إماماً معصوماً خاطبوا المجتمع الإسلامي على مدى مائتي وخمسين عاماً في كل ظروفه وتحولاته، بل أجزم بالقول إن ذكر الصديقة فاطمة الزهراء وابنتها العقيلة زينب، عليهما السلام، يجب أن يكون مدعاة للفخر والاعتزاز لنا جميعاً قبل أن تكون وسيلة وتشجيعاً على الاستعبار والبكاء لمظلوميتهما، لإنهما بحق النموذج الأكمل والأمثل للمرأة في العالم.

كان ما مرّ، مقدمة وإن طالت وجدت نفسي ملزماً بالإشارة إليها قبل الحديث عن الإمام الحادي عشر؛ الحسن بن علي العسكري، عليهما السلام، الذي يكون الثامن من شهر ربيع الأول ذكرى استشهاده، بل وجدتها ضرورية في وقت ما تزال مسألة زيارة المراقد المقدسة تتعرض للتجريح من قبل القريبين كما تتعرض للتهديد من البعيدين، فيما مواكب الزائرين تحثّ الخطى نحو هذه المراقد وقد تخرجت من مدرسة كربلاء وهي تحمل رسالة عاشوراء.

المدّ الشيعي في أوجه

تسلّم الإمام أبو محمد الحسن العسكري، عليه السلام، زمام الإمامة بعد استشهاد والده الامام الهادي عليه السلام مسموماً سنة 254 للهجرة، وكان الظلم والطغيان قد بلغ ذروته في الحكم العباسي، إذ كان ما يسمى بالخليفة هو المعتمد العباسي قد ورث الحكم من أبيه المتوكل، لكن بموازاة ذلك كان المدّ الرسالي الهادر يشقّ طريقه بقوة آخذاً بالاتساع في أوساط المجتمع، وحتى في داخل بلاط الحكم العباسي، ويذكر لنا التاريخ أن الثلاثة والثلاثين عاماً من إمامة الإمام علي الهادي، عليه السلام، أسفرت عن حالة نضج وتفاعل في المجتمع لاسيما في أوساط الموالين للأئمة المعصومين، حتى أضحت الحركة الرسالية من القوة أن تقوم بنشاطاتها بشكل مكشوف إلى حدٍ كبير دون الحاجة إلى اتّباع السرية والكتمان أو التقيّة كما كانت في السابق.

وفي كتابه "التاريخ الإسلامي"، يصف المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي، الامام الهادي عليه السلام بأنه "كان بمنزلة دولة داخل دولة في سامراء، يغادر أنّى شاء إلى المدينة المنورة ويعود إليها ثانية، علماً أن سامراء كانت المقرّ الجديد للخلافة الإسلامية من بعد بغداد وخراسان، وكان الإمام يراسل الوكلاء والنواب في مختلف المناطق والأمصار الإسلامية، كما كان يفد عليه الموالون من كل حدب وصوب دون خوف أو مهابة من حاكم ذلك العهد؛ المتوكل العباسي. لاسيما اذا عرفنا انه عليه السلام قضى فترة ثلاثة وثلاثون عاماً في مهمة الامامة وهي فترة لا بأس بها في مسيرة العمل الرسالي".

وفي عهد الامام الهادي، عليه السلام، عليه السلام انطلقت ثورات عدة منها في طبرستان شمال إيران والري والكوفة، وقد عدّ المرجع المدرسي الثورات المشتعلة في فترة حكم المتوكل بما يزيد على العشرين ثورة كلها كانت وليدة سياسات المتوكل الدموية وإيغاله في سفك الدماء، ويتضح بأن المتوكل الذي أراد منذ توليه الخلافة تضعيف الشيعة وإبعادهم عن أئمتهم وقادتهم، انقلب عليه الأمر حيث توزّعت أجنحة الحركة الرسالية في مناطق مختلفة من البلاد الإسلامية لتنطلق من هناك على شكل ثورات صاعقة ضد الحكم العباسي، وللعلم هنا بأن الشيعة آنذاك كانوا يحظون بقيادة ربانية متمثلة بالامام الهادي، عليه السلام، ومن بعده الامام العسكري، كما كانوا يحظون أيضاً بزخم معنوي هائل متمثل بثقافة عاشوراء، ويمكن القول بأن كل الفضل في إرساء دعائم شعيرة زيارة الإمام الحسين، يعود إلى أولئك الشيعة المضحين والمناظلين الذين تحدوا الصعاب وواجهوا المستحيل ولم يأبهوا بهدم قبر الإمام ولا حرث الأرض وإغراقه بالماء، بل أصروا على زيارة مرقد الإمام في كل المناسبات المؤكد عليها من قبل الأئمة المعصومين، لذا فقد هلك المتوكل فيما كان المدّ الشيعي في تصاعد ونمو ولم يتمكن من مجابهة الامام الهادي إلا بعد تسلمّ ابنه المعتمد الحكم حيث أقدم على دسّ السم إليه واغتياله في سامراء.

مدرسة للقيادة

من هنا فإن أول عمل قام به الامام الحسن العسكري، عليه السلام، هو إنشاء مدرسة للقيادة الرسالية لعلمه بأنه آخر حلقة في سلسلة القيادة الربانية الموجهة للأمة بشكل مباشر، فقد حدد ملامح هذه القيادة وصلاحيتها ومواصفاتها ومسؤولياتها والتفاصيل المتعلقة بها، وكان من أبرز أولئك القادة؛ محمد بن عثمان بن سعيد العمري، أحد سفراء الإمام الحجة المنتظر، كما كان أبوه عثمان أحد وكلاء الامام الهادي، عليه السلام، إذ لم يشأ الامام العسكري الرحيل عن الحياة الدنيا تاركاً شيعته في الامصار المختلفة من دون قيادة حكيمة تنوب عنه، وتكون مستعدة للنيابة عن ولده الامام المهدي المنتظر، عجل الله فرجه، فهو، عليه السلام، لم تدم إمامته سوى ست سنوات، فيما احيطت حياة ولده الامام المنتظر بظروف عصيبة وقاسية لعلم العباسيين بقرب مولده، فكانوا يراقبون ويتابعون زوجات الامام العسكري وجواريه في بيته، بل طالما تعرض بيته للتفتيش بحثاً عن المرأة الحامل بابن الامام العسكري الذي يخافونه على سلطانهم ومستقبلهم السياسي، لكن حصل ما كان يخشونه وهو انهيار حكمهم بفعل الانتفاضات والتحركات المعارضة للشيعة، وبات وهج الرفض للنظام الجائر والمنحرف عن الدين يقض المضاجع منذ تلك الفترة والى اليوم.

حصانة للفكر الاسلامي الاصيل

واجه الامام العسكري، عليه السلام، تحدياً فكرياً وثقافياً أوجدته السياسات القمعية للحكام العباسيين، بحيث بلغ التنكيل والقمع والانحراف عن قيم الدين ومبادئه أن يستغل اعداء الدين من المتأثرين بالفلسفة اليونانية، ويحاولوا تشكيك الناس بحقائق دينهم وكان بينهم الفيلسوف المعروف؛ إسحاق الكندي، حيث "أخَذَ في تأليف كتاب يظنُّ أنَّه يرد به على القرآن الكريم ويبيِّن تناقضاته! على طريقة الفلاسفة في الرَّدِ على بعضهم عبر بيان تهافت أفكارهم، فلمَّا انتهى الخبر إلى الإمام العسكري طلب بعض تلامذة الكندي وقال له: أمَا فيكم رجل رشيد يردع أستاذكم الكندي عما أخذ فيه من تشاغله بالقرآن؟! فلما سأله الرجل عن كيفية ذلك، قال له الإمام عليه السلام: أتؤدي إليه ما ألقيه إليك؟ قال: نعم. فقال عليه السلام: صر إليه، وتلطّف في مؤانسته ومعونته على ما هو بسبيله، فإذا وقعت الأنْسة قل له: قد حضرتني مسألة أسألك عنها، فإنه يستدعي ذلك منك. فقل له: إن أتاك هذا المتكلم بهذا القرآن، هل يجوز أن يكون مراده بما تكلم منه غير المعاني التي قد ظننتَها أنك ذهبت إليها؟ فانه سيقول لك: إنه من الجائز، لانه رجل يفهم إذا سمع؛ فإذا أوجب ذلك فقل له: فما يدريك لعله أراد غير هذا الذي ذهبتَ أنت إليه، فيكون واضعاً لغير معانيه.

فذهب الرجل إليه، وصنع مثلما أمره الإمام، فوقع الكلام في قلب الكندي، لأنّه - كما أشار الإمام- كان رجلاً ذكياً فهماً، وعرف أنَّ الاحتمال -مجرد الاحتمال- يُبطل الاستدلال - كما يقول الفلاسفة- وأنَّ هذا الكلام لو انتشر في تلامذته لم يصدِّقه أحد في كتابه فيكون قد حكم على نفسه بالسفه إذا هو أصرَّ في تأليف الكتاب، فارتدع عنه. ولكنَّه سأل الرجل وقال له: أقسمت عليك إلاَّ ما أخبرتني من أين لك هذا؟ قال الرجل: إنّه شيء عرض بقلبي فأوردته عليك. قال الكندي: كلاَّ، ما مثلك من يهتدي إلى هذا. قال الرجل: أمرني به الإمام أبو محمّد، فقال الكندي: وما كان ليخرج مثل هذا إلاّ من ذلك البيت. ثم عمد إلى كتابه فأتلفه".

هذه الرواية التي استشهدنا بها –من عشرات الروايات التاريخية في هذا المجال- تؤكد على هشاشة المنظومة المعرفية لبعض العلماء والباحثين عن دور في الساحة العلمية، وأنهم لن يصمدوا لحظة واحدة أمام المنطق والبرهان، فيبين أمرهم القائم على الحدس والتصورات الذهنية الخاصة بهم محاولين فرضها على الناس على أساس افتراضهم جهلة وبعيدين عن المطالعة والمعرفة، وهذا ما لم يكن يسمح به الامام الحسن العسكري، ولا غيره ممن سبق من الأئمة الاطهار، عليهم السلام.

اضف تعليق