أن أبواب معرفة شخصية الامام الرضا كانت مفتوحة لجميع الناس في حياته، فان كذلك اليوم، وكل يوم، وليس معرفة الامام الرضا فقط، وإنما بسائر الأئمة وايضاً النبي الأكرم، والاسلام كدين ومنظومة قيمية وأحكامية، وهذا يحتاج بالدرجة الاولى الى تغليب لغة العقل في البحث المعرفي على لغة العاطفة...
"جئتك يا ابن رسول الله زائراً عارفاً بحقك".
من زيارة الإمام الرضا، عليه السلام، في روضته المقدسة
في وقت مبكر جداً من تاريخ العلم والمعرفة، شدد الأئمة المعصومون، عليهم السلام، على مركزية المعرفة في القاعدة الايمانية، ومن دونها لن يكون هنالك إيمان حقيقي وصادق، ولا التزامات بالاحكام والشريعة والقيم، فتحلّ محل العقل؛ العاطفة الجامحة، وينتج عنه الغلو في الحب والولاء، كما ينتج عنه النَصَب الشديد في العداء، ونقرأ في أول خطبة في نهج البلاغة: "أول الدين معرفته".
وأول من واجه هذه المعضلة الفكرية؛ أمير المؤمنين، ومن بعده أبناه؛ الحسن والحسين، ولاقا ما لاقا من محن، ومصائب من أهل زمانهما، ولعل واقعة الطف تكون المثال الصارخ للجهل وفقدان المعرفة الحقيقية المؤدية الى الخذلان والجُبن، ثم الاشتراك في قتل سبط رسول الله، وسيد شباب أهل الجنة.
واحياناً تكون المعرفة ظاهرية، من النوع الذي يعود بالفائدة على صاحبها في منصب أو حظوة بشيء ما، وربما تنطوي هذه المعرفة على الحب والودّ وإظهار الولاء، ولكن؛ ينتهي مفعول هذه المعرفة عند حافة الاختبار، كأن يكون تحمل مسؤولية التغيير بين أوساط الامة، او التصدّي لظلم وطغيان الحكام، مما يكلف الانسان الكثير، فيما احياناً أخرى تكون المعرفة عميقة تتجاوز المصالح والأنا، فالحب والودّ والولاء يحمل صاحبه على التضحية بكل شيء في سبيل محبوبه، و لا أروع مما يقدمه أمير المؤمنين من صورة لهذه العلاقة الصادقة في وصفه للمتقين بأنهم "عظم الخالق في أعينهم فصغر ما دون ذلك في أنفسهم"، وهكذا كان أصحاب الامام الحسين الخُلص ممن بقي معه في ساحة المواجهة الفاصلة بين الحق والباطل.
"أعرف إمامك"!
وبعد مرور حوالي قرنين من الزمن على الهجرة النبوية، ارتقى مستوى الوعي لدى الامة قليلاً بتولي الإمام الرضا، عليه السلام، زمام الإمامة والقيادة الدينية بسبب تغير الظروف السياسية بتولّي المأمون العباسي زمام الحكم (الخلافة)، والمعروف بتوجهه العلمي والمعرفي، واهتمامه بترجمة العلوم اليونانية، والفارسية وفي مقدمتها الفلسفة، وقد علل الباحثون عن تلك الحقبة التاريخية، بأن المأمون فكر في أخطاء الماضين ممن انهمكوا في الملذات والشهوات، وايضاً في تجاهل العلم والمعرفة، بل وقمع العلماء، لاسيما اتباع أهل البيت، فأراد سد الثغرة الفكرية والعلمية في كيان الدولة الاسلامية، في وقت كانت التلاقح الحضاري والثقافي بين الأمم على أشدّه في مطلع القرن الثالث الهجري نظراً لاتساع رقعة الدولة الاسلامية واحتكاكها بسائر الاديان والمذاهب، هذا الى جانب التيار الفكري الضارب لأهل البيت، عليهم السلام، ومعارضتهم السياسية التي شهدت تطوراً وتقدماً مذهلاً حتى حياة الامام الكاظم، وهذا كان يحدو ببعض المؤرخين والباحثين بوصف المأمون بالذكاء، بل "تصور أن ذكاءه تجسّد في تعيينه الإمام الرضا في ولاية العهد، ولكن فجأة وجد أن القضية تحركت بمنحى آخر، لم يكن يتوقعه، لذا قال له أحد المقربين يوماً: ماذا فعلت؟! بهذه الخطوة تخرج الخلافة من بني العباس إلى بني علي، فقال المأمون: أما و قد عملنا ما عملنا و أخطأنا ما أخطأنا و أشرفنا على الهلاك، فيجب أن نعالج القضية شيئاً فشيئاً، و خطوة خطوة، و نستأصل هذا الخطر الذي يمثله علينا" (من محاضرة لآية الله السيد محمد رضا الشيرازي).
الامام الرضا، عليه السلام، وبعد قبوله ولاية العهد كان أمام مهمة استثنائية بتعزيز أركان العقيدة في الامة، و بلورة رؤية شفافة للقيم الدينية والاخلاقية، في وقت كانت الساحة مشحونة بالافكار والرؤى البعيدة عن الأسس الدينية، وكان المأمون من بين المتحفزين فكرياً في هذه الساحة، وهو يقود مسيرة باتجاه يصب في مصلحته من خلال ترجماته، وايضاً فتح الابواب على مصراعيها على مختلف التوجهات الفكرية التي تجاوزت القرآن والسنّة النبوية وأهل بيت رسول الله، فظهرت مذاهب وعقائد جديدة في مقدمتها المعتزلة التي تبناها فيما بعد كمذهب رسمي للدولة الاسلامية،وقد تحدثنا عن علاقته بها في مقال سابق.
في مقابل مشاريع المعرفة المختلفة الاتجاهات، كان الإمام بحاجة الى كادر متخصص ورجال أفذاذ يعينوه على تثبيث أركان المعرفة الاسلامية الصحيحة ضمن مدرسة الوحي، كما كان الامام الباقر، والامام الصادق، عليهما السلام، رجال عظام في تخصصاتهم العلمية، مثل؛ الكلام، والفقه، فكانت تحيط به قامات شامخة مثل؛ هشام بن الحكم، وزرارة بن أعين، ومؤمن الطاق ومحمد بن مسلم.
ولا نجانب الحقيقة اذا قلنا أن الامام الرضا كان فارس الميدان الوحيد في تلك الساحة الصاخبة، يكفي الاشارة الى مثل واحد من أحد المقربين منه، عليه السلام، واسمه "نوفل"، كان حاضراً لدى وصول رسول المأمون يدعو الامام لحضور المناظرة المعروفة مع زعماء الأديان والمذاهب، وكان من المدعويين ليكون في مواجهة الإمام، شخصٌ معروف بالجدل يدعى "عمران الصابئي"، فتوجه نوفل الى الامام، وقال له: أن هذا الشخص جدلي وغير مريح –مضمون الرواية- فرأى الامام الخوف في وجه هذا "الصاحب" فتوجه اليه بالسؤال: "أتخاف أن يقطع عليّ حجتي"؟! ونفس هذا الجدلي انتهى به مطاف الحوار بينه وبين الإمام الرضا الى أن يعلن تراجعه عن كل افكاره ومتبنياته، ويعلن ولائه العميق للإمام، بل ويتحول من شخص جدلي ينكر الخالق، ويشيع الإلحاد أينما حلّ، الى أشد المناصرين له، عليه السلام، والمبلغين له الى جماعته الجدليين، ينقل لهم رؤى وبصائر الامام الحقّة في الدين والعقيدة والحياة.
مع ذلك، شكلت فترة إمامة الرضا نقطة تحول مفصلية باتجاه نشر المعارف والعلوم من مصادرها الحقيقية، فقد ظهر، عليه السلام، في الساحة بعد استشهاد أبيه الامام الكاظم، بتلك الصورة المفجعة والقاسية، وذهب علماء ومؤرخون الى أن الطريقة التي قتل فيها هارون الامام الكاظم، والظروف الاجتماعية والسياسية آنذاك، كانت شبيهة –الى حد ما- بظروف استشهاد الامام الحسين، عليه السلام، في كربلاء، حيث اتبع هارون اساليب التضليل والخداع مع الناس، واسلوب القمع والقسوة مع الامام، وايضاً مع شيعته والمقربين منه، ولعل الإمعان في التنكيل بإبقاء جنازة الامام الكاظم ثلاثة أيام على الجسر ببغداد، تكون صورة من صور الارهاب العباسي لضرب قواعد وأسس التنظيم والهرم القيادي للشيعة، حتى لا تقوم لهم قائمة فيما بعد، ولكن؛ ما حصل خيّب آمال هارون والعباسيين بشكل عام بظهور نجم ساطع آخر من نجوم الهدى، وهو الامام الرضا ليكون "رابع الأئمة المعصومين الذين تتسنى لهم فرصة نشر معارف الإسلام في الآفاق، بعد أمير المؤمنين، والامامين الباقر والصادق، عليهم السلام"، (الامام الرضا قدوة وأسوة، المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).
فكما أن أبواب معرفة شخصية الامام الرضا كانت مفتوحة لجميع الناس في حياته، فان كذلك اليوم، وكل يوم، وليس معرفة الامام الرضا فقط، وإنما بسائر الأئمة وايضاً النبي الأكرم، والاسلام كدين ومنظومة قيمية وأحكامية، وهذا يحتاج بالدرجة الاولى الى تغليب لغة العقل في البحث المعرفي على لغة العاطفة بما يجعل الأئمة الاطهار مصدراً لحل المشاكل، وشفاء المرضى فقط، بل نصل الى مرتبة نتجاوز فيها موقف ذلك الشخص الخائف على الامام الرضا من الاخفاق في المناظرة مع الآخرين! بما يجعلنا لا نخجل من ذكر الإمام الصادق، او الامام الباقر، او الامام الرضا خلال نقاشنا وحوارنا مع اصحاب النظريات والافكار المغايرة.
اضف تعليق