ضرب الإمام الرضا أروع الأمثلة في التواضع، وهذه الصفة من ذاتيات الإمام التي لا تنفك عنه بحال، وتواضع الإمام لم يكن عن تكلف أو مباهاة، بل هو جزء من تكوينه الذاتي والشخصي، كما أنه ممزوج بالتقوى والورع. فالإمام يتعامل مع الناس من منظور الحفاظ على...
ضرب الإمام الرضا (عليه السلام) أروع الأمثلة في التواضع، وهذه الصفة من ذاتيات الإمام (عليه السلام) التي لا تنفك عنه بحال، وقد أورد التاريخ العديد من الأمثلة الدالة على تواضعه فقد أخرج الشيخ الكليني بسنده: ((إن الإمام الرضا (عليه السلام) في سفره إلى خراسان فدعا يوماً بمائدة له فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم، فقلت: جعلت فداك لو عزلت لهؤلاء مائدة فقال: مَهْ، إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال))(1).
وروى الشبلنجي: أن الإمام الرضا (عليه السلام) دخل يوماً الحمام، فبينما هو في مكان من الحمام، إذ دخل عليه جندي فأزاله عن موضعه، وقال: صب على رأسي، فصب على رأسه، فدخل من عرفه، فصاح: يا جندي هلكت!! أتستخدم ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأقبل الجندي يقبل رجليه، ويقول: هلا عصيتني إذ أمرتك؟
فقال الإمام: إنها لمثوبة، وما أردت أن أعصيك فيما أثاب عليه(2).
وعن إبراهيم بن العباس: أنه كان إذا خلا ونصبت الموائد أجلس على مائدته مماليكه ومواليه حتى البواب والسائس. وعن ياسر الخادم: كان الرضا إذا خلا جمع حشمه كلهم عنده الصغير والكبير فيحدثهم ويأنس بهم ويؤنسهم(3).
وتواضع الإمام الرضا (عليه السلام) لم يكن عن تكلف أو مباهاة، بل هو جزء من تكوينه الذاتي والشخصي، كما أنه ممزوج بالتقوى والورع.
قال له رجل: أنت والله خير الناس.
فقال له: لا تحلف يا هذا، خير مني من كان أتقى لله عز وجل وأطوع له، والله ما نسخت هذه الآية ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾(4).
وقال له آخر: والله ما على وجه الأرض أشرف منك أباً.
فقال: التقوى شرفتهم، وطاعة الله أحظتهم(5).
فالإمام الرضا (عليه السلام) يتعامل مع الناس من منظور الحفاظ على كرامة الإنسان وحفظ حقوقه حتى وإن كان من المستضعفين أو المحرومين أو الفقراء أو العبيد والخدم.
فقد روى ياسر الخادم ونادر جميعاً قالا: قال لنا أبو الحسن (صلوات الله عليه): إن قمت على رؤوسكم وأنتم تأكلون، فلا تقوموا حتى تفرغوا، ولربما دعا بعضنا فيقال: هم يأكلون، فيقول: دعوهم حتى يفرغوا.
وعن نادر الخادم قال: كان أبو الحسن (عليه السلام) إذا أكل أحدنا لا يستخدمه حتى يفرغ من طعامه (6).
وفي هذه الأمثلة من الدروس والعبر ما يجب الاقتداء به (عليه السلام)، فالمعاملة مع الخدم والخادمات يجب أن ينطلق من التعامل الإنساني، والإحسان إليهم، والعفو عن أخطائهم كما كان يفعل الإمام (عليه السلام).
ونموذج آخر للتواضع يقدمه لنا الإمام الرضا (عليه السلام) في خدمة الضيوف، فعن عبيد بن أبي عبدالله البغدادي عمن أخبره قال: نزل بأبي الحسن الرضا (عليه السلام) ضيف وكان جالساً عنده يحدثه في بعض الليل فتغير السراج، فمد الرجل يده ليصلحه، فزبره أبو الحسن (عليه السلام) ثم بادره بنفسه فأصلحه ثم قال: إنا قوم لا نستخدم أضيافنا(7).
وينفي الإمام الرضا (عليه السلام) عن نفسه وباقي الأئمة الأطهار ادعاء البعض أن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) يرون أن الناس لهم عبيد، إذ أن الأئمة (عليهم السلام) ينظرون إلى أن الناس سواسية إلا في منزلة العصمة والعلم والولاية العامة، يقول أبو الصلت الهروي:
سألت الإمام الرضا (عليه السلام) فقلت له: يا ابن رسول الله ما شيء يحكيه عنكم الناس؟ قال: وما هو ؟ قلت: يقولون أنكم تدعون أن الناس لكم عبيد، فقال: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت شاهد بأني لم أقل ذلك قط، ولا سمعت أحداً من آبائي (عليهم السلام) قاله قط، وأنت العالم بما لنا من المظالم عند هذه الأمة، وأن هذه منها، ثم أقبل عليّ، فقال لي: يا عبد السلام إذا كان الناس كلهم عبيدنا على ما حكوه عنا فممن نبيعهم ؟ قلت: يا ابن رسول الله صدقت، ثم قال: يا عبد السلام أمنكر أنت لما أوجب الله تعالى لنا من الولاية كما ينكره غيرك؟ قلت: معاذ الله، بل أنا مقر بولايتكم (8).
فالإمام الرضا (عليه السلام) ينظر إلى الناس باحترام، ويحفظ للجميع حقوقهم المعنوية والمادية، ويرون أنهم لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى والعمل الصالح.
ونختم الحديث عن تواضع الإمام الرضا (عليه السلام) بما كتبه السيد محمد جواد فضل الله عن سلوك الإمام في التواضع إذ يقول: ((وحينما نرى الإمام يجلس إلى مائدته، ومن حوله مماليكه، وبوابه، وسائس دوابه، فليس إلا ليعطي الأمة درساً في الإنسانية الفاضلة التي تؤمن بكرامة الإنسان، وليعرض نظرية الإسلام عملياً في طبيعة السلوك الذي يجب أن يعتمده الإنسان، فرفعة المقام وسمو المركز لا يستدعيان أن يحتقر الإنسان من دونه في ذلك، أو يشعر بوضاعة شخصيته، ولو كان ذلك الإنسان عبداً مملوكاً، ليتبين من ذلك عقدة تباين الطبقات فتتسع الهوة بين أفراد الأمة، ويتوزع كيانها في فضائل متنافرة يمزقها الحقد وتنهشها البغضاء))(9).
وخلاصة القول: إن تواضع الإمام الرضا (عليه السلام) يجسد مفردة من مفردات الأخلاق الإسلامية، والتواضع صفة ملازمة للأنبياء والأئمة والأولياء.. فلنقتدِ بالإمام في تواضعه لمكل الناس، ولنكن مثالاً للتواضع والأخلاق الحسنة.
زهد الإمام الرضا (ع)
جَسَّد الإمام الرضا (عليه السلام) مفهوم الزهد بمعناه الحقيقي، وهو الابتعاد عن كل بهارج الدنيا وزخارفها، والانقطاع التام إلى الله عز وجل، وقد تحدث عن مظاهر زهده (عليه السلام) محمد بن عباد الذي قال:
كان جلوس الرضا (عليه السلام) على حصير في الصيف وعلى مسح في الشتاء، ولبسه الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزيا.
ولقيه سفيان الثوري في ثوب خز فقال: يا ابن رسول الله لو لبست ثوباً أدنى من هذا، فقال: هات يدك، فأخذ بيده وأدخل كمه فإذا تحت ذلك مسح. فقال: يا سفيان الخز للخلق والمسح للحق.
وهذا يشير إلى أن الإمام (عليه السلام) كان يلبس للناس الملابس الجيدة، لأن الناس ينظرون إلى الشخص من خلال ملابسه، حتى قيل: كل ما تشتهي نفسك والبس ما يشتهي الناس. لكن الإمام (عليه السلام) كان يلبس لباساً آخر لله عز وجل، وفيه تقشف ورياضة للجسد حتى يبقى الزهد والتواضع ماثلاً أمام نفسه في كل لحظة من لحظات حياته.
وبقي الإمام الرضا (عليه السلام) محافظاً على زهده حتى عندما أصبح ولياً للعهد؛ إذ يجمع مؤرخو سيرته المباركة على أنه لم يحفل بأية مظاهر أو أبهة كما يعتاد عند أهل الحكم والبلاط، خصوصاً وأن مظاهر الارستقراطية كانت بارزة في البلاط العباسي، إلا أن الإمام الرضا لم يكن يقيم للمظاهر ولا الدنيا بما فيها من زخارف وبهارج أية قيمة، بل المهم عند الإمام (عليه السلام)
هو القيم والأخلاق والمثل العليا.
اضف تعليق