نحمّل النظام السياسي الفاسد ذو النزعة الديكتاتورية مسؤولية ما يحدث من إراقة دماء كونه يواجه موجة رفض من الجماهير لما يرتكبه من فساد وظلم، وهذا صحيح من حيث الواقع، بيد أن الصحيح ايضاً إمكانية الالتفاف على السياسة القمعية والنهج الديكتاتوري من خلال منهجية سليمة للحراك...
لماذا يجب أن تدفع الشعوب ثمن المطالبة بحقوقها المشروعة، دماً وتضحيات جسام، ومواجهات عنيفة مع قوى الأمن، ويتسبب البعض بدمار للممتلكات العامة والخاصة، وغلق للشوارع وتعطيل للحياة العامة؟
للوهلة الاولى ربما نحمّل النظام السياسي الفاسد ذو النزعة الديكتاتورية مسؤولية ما يحدث من إراقة دماء كونه يواجه موجة رفض من الجماهير لما يرتكبه من فساد وظلم، وهذا صحيح من حيث الواقع، بيد أن الصحيح ايضاً إمكانية الالتفاف على السياسة القمعية والنهج الديكتاتوري من خلال منهجية سليمة للحراك المعارض تحقق أقصى نقطة من الغايات بأقل الخسائر.
الامن والاستقرار عكّاز الانظمة الديكتاتورية
الأمن والاستقرار، من أبرز الفوارق الظاهرية في الحياة بين نظام صدام والنظام الجديد من بعد 2003، وهو ما يتحدث عنه معظم العراقيون، بدءاً من حصر السلاح بيد الدولة، وعدم التجرؤ على انتهاك القانون، وبشكل عام؛ حالة من الانضباط تسود افراد المجتمع، وهو ما افتقدوه الآن، لذا نلاحظ الكثير يعيب على القائمين على النظام الجديد فشلهم الذريع في هذا المطلب الحيوي والأساس في حياة كل أمة وشعب، بغض النظر عن منهج الحكم، فهو مطلب انساني لا جدال فيه، ولذا اقترنت الديمقراطية اليوم في بلادنا، وتحديداً؛ العراق، بالفوضى وعدم الالتزام بالقوانين وحتى الاعراف الاجتماعية، وهذا ليس مقتصراً على العراق فقط، وإنما ينسحب على عديد الدول التي تشهد حراكاً مطلبياً ضد الانظمة السياسية الفاشلة في تحقيق الوعود بالانتقال من الاستبداد والحرمان، الى الحرية والعدالة والعيش الكريم، كما حصل في مصر وليبيا وسوريا.
في وقت متأخر أدرك المفكرون والنخبة المثقفة في المجتمع أن المفاهيم الديمقراطية ليست شعارات ترفع، ولا كلمات تكتب، بقدر ما هي ثقافة وقناعة في النفوس يترتب عليها سلوك اجتماعي، حتى يعرف الانسان ماذا تعني الحرية؟ -مثلاً- وما هي حدودها في إطار السلوك الفردي، وايضاً؛ السلوك الاجتماعي.
الانظمة الديكتاتورية في البلاد العربية والقائمة على ايديولوجيات شمولية، تعتقد بأفضلية الفكرة والنظرية على الانسان، وأن القيادة للأقوى وعلى الجميع الطاعة، ومن ثمّ يحظى الناس بالأمن والاستقرار بعد أن يتوفر للحاكم القوي أولاً، وإلا فلا أمن ولا استقرار ولا حياة طبيعية لأحد، وعندما اراد الناس الخروج من حالة الاستعباد وكتم الانفاس وسياسة {لا أريكم إلا ما أرى} –سورة غافر،29- حصل الانقلاب المريع على كل شيء، فسقطت الديكتاتورية وضاعت معه القوانين والاعراف والتقاليد.
من تجارب الماضين نستفيد
التهمة الجاهزة لدى الحكام العباسيين على الأئمة المعصومين في زمانهم، أنهم يجمعون الاموال والرجال ليفرقوا شمل الأمة ويحدثوا الفوضى طمعاً بالحكم، وهو ما كان يفنده الأئمة، عليهم السلام، بمصاديق واقعية، في الوقت نفسه، كانوا يضخون في الامة الوعي السياسي بأن يكونوا على مسافة بعيدة عن الفوضى والانفعال والصدام غير المبرر مع السلطة حتى لا يقعوا فيما هو مُعد لهم.
قبل فترة مرت علينا ذكرى استشهاد الامام الحسن العسكري، عليه السلام، وهو الامام الحادي عشر لأئمة الهدى من بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله، وقد تسلّم ، ليس المسؤولية الرسالية من أبيه الامام الهادي، عليه السلام، فقط، وإنما التركة الثورية للشيعة طيلة السنين الماضية، بدءاً من الحكم الأموي ومروراً بالحكم العباسي، عندما انفجرت انتفاضات شعبية مسلحة بوجه الظلم والطغيان، وقد خلّد التاريخ ملاحم بطولية لشهداء تلكم الانتفاضات، وفي سنة 254 للهجرة، عندما بويع الامام العسكري للإمامة، عمل على تكريس النهج الحضاري الذي مضى عليه أبائه بأن يكون الإصلاح في النظام السياسي والاجتماعي، أو التغيير الشامل، ثقافة في النفوس، وإيمان قلبي عميق، قبل ان ينطلق كشعارات على الألسن، ولا أن يكون وعوداً تنبعث من مشاعر وعواطف، ولعل أول مؤسس لهذا المنهج؛ الامام الحسين، عليه السلام، في نهضته المدوية، وما سطره من ملحمة بطولية يوم العاشر من المحرم.
وعندما نعرف حساسية المرحلة التي عاشها الامام العسكري، وأنه لا تفصله عن إمامة ابنه الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، سوى ست سنوات فقط كانت فترة إمامته، وأن عليه إنهاء كل التحضيرات والاستعدادات لمواجهة مرحلة الغيبة، وبقاء الامة دون إمام وقيادة ظاهرة في أوساطهم، سنعرف ايضاً حجم المهمة الكبرى التي نهض بها خلال هذه الفترة القصيرة من إعداد العلماء والفقهاء لقيادة الأمة في قادم الايام وحتى يومنا هذا، والى أمد غير منظور.
لأجل ذلك، حدد الامام العسكري مواصفات وبنود القيادة الرشيدة التي تقود الإصلاح الحقيقي في الامة مع أقل قدر ممكن من الخسائر والتضحيات، منها:
أولاً: تغليب العقل على العاطفة
كتب الى الامام بعض شيعته يعرفه اختلاف الشيعة، فكتب، عليه السلام: "انما خاطب الله العاقل، ليس أحد يأتي بآية او يظهر دليلا أكثر مما جاء به خاتم النبيين، فقالوا ساحر وكاهن وكذاب، وهدى الله من اهتدى، غير أن الأدلة يسكن اليها كثير من الناس، وذلك أن الله يأذن لنا فنتكلم ويمنع فنصمت"، بما يعني اعتماد الأدلة والبراهين العقلية في قيادة المجتمع لتكون حجة بالغة عليهم، ويكونوا مسؤولين عن قراراتهم ومواقفهم.
ثانياً: تجنب طلب الشهرة والتطلع الى الحكم
ركّز الأئمة الهداة على طول الخط مبدأ الفصل بين القيادة، والحكم، وكانوا يعملون ويوجهون رجالهم لنشر هذه الثقافة بين الناس ليعرفوا قادتهم الحقيقيين، حتى يتسنّى لهم اختيار الحاكم المناسب لهم، فجاء عنه، عليه السلام: "الناس فيّ على طبقات: المستبصر على سبيل نجاة متمسك بالحق، متعلق بفرع اصيل، غير شاك، ولا مرتاب لا يجد عني ملجأ، وطبقة لم تأخذ الحق من أهله فهم كراكب البحر يموج عند موجه، ويسكن عن سكونه، وطبقة استحوذ عليهم الشيطان شأنهم الرد على أهل الحق، ودفع الحق بالباطل حسداً من عند انفسهم، فدع من ذهب يميناً وشمالاً، فان الراعي اذا اراد ان يجمع غنمه جمعها بأهون سعي، وإياك والاذاعة وطلب الرئاسة فانهما يدعوان الى الهلكة".
ثالثاً: الصبر على الاستفزاز
طالما يواجه القادة حالات الاستفزاز من اطراف عدّة؛ سواءً بدوافع التنافس المحموم على الصدارة والوجاهة، أو ما يصدر من السلطات الجائرة، لذا يحذر الامام العسكري اصحابه من مغبة الانزلاق في تبادل الشتائم والتراشق بالاتهامات والحرب الكلامية، وبدلاً من ذلك؛ "اذا سمعت لنا شاتماً فامض لسبيلك التي أمرت بها، وإياك ان تجاوب من يشتمنا، او تعرفه من أنت"، وفي هذا تحذير من منزلق خطير طالما يقع فيه قادة الحراك المعارض في كثير من البلاد الاسلامية، فالفساد والظلم والطغيان، يكون مبرراً عندما يجد نظيره في الساحة، فتسقط الشرعية والمقبولية من اشخاص وتيارات تبادل العنف بالعنف، والاتهامات والفضائح بمثلها.
بالمقابل كان الأئمة يركزون اهتمامهم على الأهم في الامة، وهي المصلحة العامة، ومصير الدين والرسالة التي جاء بها رسول الله، صلى الله عليه وآله، ففي الوقت الذي كانوا يتعرضون لشتى صنوف الاستفزاز والضغوط والاعتقالات وحتى التصفية الجسدية، كانوا يعربون عن بالغ اهتمامهم بمصير الأمة وما من شأنه حفظ الأمن والاستقرار، ولا أدلّ على دعاء الثغور الوارد في الصحيفة السجادية، وهو صادر عن الامام السجاد، عليه السلام، الذي واكبت مشاهد عاشوراء الأليمة أيام حياته، وما فعله الأمويون، فجعلتها دموعاً ولوعة لم تتوقف حتى استشهاده، و وقوف الامام الصادق، عليه السلام، وبكل قوة، أمام التيارات الفكرية الوافدة، معززاً أركان العقيدة والايمان. ومن الامثلة الاخرى الخاصة بالامام العسكري؛ حادثة الاستسقاء وكيف استجاب لطلب المعتمد العباسي، مع طغيانه وجوره، بأن "انقذ دين جدك" فجاء وبين كذب رجل الدين النصراني بأنه أحب الى الله من المسلمين، فانتزع من بين اصابعه عضمة من رفات نبي لا تظهر تحت السماء إلا وتهطل بالغيث، ثم رفع الامام نفسه يديه، ومن دون عظمة أو أي شيء آخر، فتلاحمت الغيوم وانهمر الغيث ونجى المسلمون من فتنة وتشكيك عظيمين، كما نجوا من الجفاف والموت.
وقد حانت للأئمة العديد من "الفرص السياسية" لخوض المواجهة ضد الأمويين والعباسيين واستعادة حقوقهم، وفي مقدمتها الخلافة والحكم، ولكن كانوا يحذرون المقربين منهم والمعجبين بهذه الفرص من مغبة ركوب الأمواج، والتوسل بكل شيء لتحقيق اهداف معينة، كما حصل مع الدعاة للثورة في عهد الامام الصادق، عليه السلام، عندما جاؤوا اليه من خراسان واعدين إياه بآلاف الجند المجندة والمطيعة، وهم يرفعون شعار "يالثارات الحسين"، فسأل أحدهم ذات مرة عما اذا كان يعرف هؤلاء الذين يقول عنهم: "مناصرون"، فاجاب بالنفي، فقال له الإمام: إذن؛ كيف تريد الاعتماد على مثل هؤلاء؟!
علماً؛ أن الأئمة المعصومين، لم يكونوا يعارضون قرار الثوار بمواجهة الحكام الظلمة، وفي نفس الوقت لم يكن يتبنونها بالقيادة المباشرة في غياب شروط الثورة والتغيير الشامل الذي يستوجب توفر القدر الأكبر من الوعي والثقافة لدى الغالبية من جماهير الأمة بما يحصر المشكلة والداء في البلاط الحاكم لا غير، وتكون الأمة في مأمن من الفوضى وحمامات الدم.
ومنذ غياب الامام الحجة المنتظر، وحتى اليوم، تعرض الشيعة لمختلف ألوان الاستفزاز والاضطهاد ولكن؛ لم ينزلقوا يوماً نحو الرد بالمثل وركوب موجة العنف، إنما تمسكوا بالثوابت من القيم والمبادئ كما علمهم قادتهم من العلماء والحكماء، حتى أثاروا التساؤلات في فلسفة صمودهم بوجه كل تلك المجازر، وما عانوه من صعاب ومحن طيلة قرون من الزمن، ولم يتسببوا بفوضى او التأثير على الحياة العامة في الامة، بل كانوا يردون الظلم والقمع الوحشي بالكلمة والعمل للإصلاح الداخلي، والتربية والتثقيف ونشر قضيتهم العادلة في اوساط الامة.
ولم يسجل التاريخ، ولا الباحثون والمؤرخون، أن الشيعة تسببوا يوماً في إراقة الدماء في الشوارع، وسنّوا سنة التصفيات الجسدية لمواجهة الخصوم، او أنهم انزلقوا في متاهات الانتقام والثأر للدماء إلا ما يصدر بشكل فردي من هذا او ذاك، لأن الاطار العام للثقافة لا يرسمه إلا العلماء والحكماء من ذوي العقول الراجحة والأفق الواسع في التفكير، ولذا نقرأ في التاريخ أن الشيعة كعقيدة، كانوا بعيدين عن الحكم، وفي الوقت نفسه كانوا أقرب من غيرهم الى العلم والمعرفة والابداع والعمران، والتاريخ الحضارة تدين لهم بالمؤلفات الغنية، والمكتبات، والمدارس، ونجوم لامعة من علماء وأدباء وفقهاء يذكرهم بخير جميع العلماء، من مسلمين وغير مسلمين.
اضف تعليق