ان ما يجري اليوم في الدول العربية والإسلامية يؤكد أن قادة اليوم والمسؤولين وأصحاب المناصب الحساسية وقعوا في محذوريْن، فأما هم لم يطلّعوا أصلا على سيرة النبي وحياته وتجاربه ومواقفه ومبادئه، وأما أنهم اطلعوا لكنهم لا يؤمنون بهذه التجربة العظمى ومخرجاتها...
في مثل هذه الأيام وقبل ما يربو على الألف وخمسمائة سنة، ودّع النبي محمد صلى الله عليه وآله البشرية إلى بارئه، تاركا لها إرثا عظيما من الأفكار والمبادئ والتعاليم وخرائط العمل التي ما أن يتمسك بها الإنسان، أمة أو فرداً، حتى يصل إلى ما يبتغي من سموّ الروح وعلوّ الشأن والتحلي بسماحة القلب وإنسانية الفكر والسلوك في تداخله مع الأعمال والأفعال والنشاطات التي يحتك فيها مع الآخرين.
ومن المبادئ التي رسخها (ص) في أمتهِ، الثبات على المبدأ، والإخلاص في العمل، والانضباط والتعاون، ورفض العنف والعفو، وإبعاد الأحقاد جملة وتفصيلا، أما من لا يتّصف بهذه الصفات فهو إما غير مخلص لتعاليم نبيّه، أو أنه يجهل كيفية تطبيقها، وفي كلا الحالتين هناك حالة من الانقلاب والتخلي عن الالتزام والعهود.
جاء في نص قرآنيّ كريم: "ومـا محمَّدٌ إلاَّ رسولٌ قد خلت من قبلِـهِ الرُّسُـلُ أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يَضُرَّ اللّه شيئاً وسيجزي اللّه الشَّاكرين" (آل عمران/الآية 144).
الذي ينقلب على عقبيْه لا يضر الله تعالي ولا للنبي (ص)، إنه يلحق الضرر بنفسه أولا، والخسائر التي (يقطفها) هي الدليل على أن المنقلِب لا يضرّ إلا نفسه، لأنه يتهاون ويفشل في الوفاء لتعاليم ومبادئ الرسول الذي أفنى حياته وهو يقدم الدروس الأخلاقية والفكرية والعملية، كي ينحت الروح بأروع أشكالها بما يجعل من الفرد والأمة في كامل الالتزام والوفاء للمواقف والأفكار والمبادئ التي غرسها الرسول (ص) في تربة الأمة الإسلامية، لاسيما أن جميع الأديان السماوية ركّزت بما لا يدع مجالا للتشكيك على أن الإنسان له القيمة العليا في الوجود، وأن الله سبحانه وتعالى فضله على المخلوقات كافة، وأعطاه مكانته العظمى بين المخلوقات الأخرى، لكن في مقابل ذلك أصبح الإنسان مسؤولا أمام الله تعالى في سلوكه (الفكري والعملي) في آن واحد، وتحددت هذه المسؤولية بوجوب السلوك الإنساني الأمثل مع النفس ومع الآخرين كي يتم تعمير الأرض بما هو صالح من النفوس والأعمال وهذا لا يتحقق بالقمع وتدمير دولة العدل، وزج العقل في دوامة الصراعات الفردية والجمعية، وترك النفس تحت رحمة الملذات والمحرّمات.
الإنسان يميل بالفطرة إلى التعلّم
المبادئ التي أظهرها الرسول الكريم إلى الوجود، لم تكن معتمدة في مجتمع الجزيرة، فهنالك الرحمة والحكمة والرأفة والعفة والزهد والعدل والمساواة والتواضع وقوة الإيمان والخصال الأخرى التي صارت في عهد محمد (ص) توجه السلوك الإنساني وصولا إلى بناء المجتمع المطلوب، ولأن الإنسان يميل بالفطرة إلى التعلم والتأثر بالنموذج القيادي له، لذا فهو دائم البحث عن السبل المناسبة التي تحقق له غاياته وتشبع رغباته في المعرفة، وهذا ما يقودنا إلى سيرة نبينا الكريم محمد بن عبد الله (ص) وعظمتها وغناها، لدرجة أن عشرات المفكرين العباقرة والمؤرخين من أغلب الأمم المتحضّرة درسوا تجربة النبي الأكرم (ص) وأظهروا فحواها، واكتشفوا تفرّد هذه الشخصية النبوية على المستوى السياسي القيادي المبدئي المحاط بإطار إنساني لا يُبلى ولا يُخطئ.
وقد تنبّه المفكرون والمؤرخون من الأمم الأخرى إلى الملَكات والصفات التي تختص بها شخصية الرسول (ص)، فهو ما كان رجل دين فحسب كما يرى بعض المفكرين والمتابعين الغربيين، بل هو رجل حياة مليئة بالتفاصيل العملية الدقيقة، فمثلما كان النبي (ص) يكد ويجد في ترسيخ المبادئ الإسلامية في النفوس كان يعلِّم الآخرين، أو هم يتعلمون منه سبلا وطرائق عملية ومعنوية لتسيير حياتهم اليومية، فسمة التواضع التي كانت تسم شخصية الرسول (ص) تتيح للجميع أن يتعلموا منه المنهج الإنساني القيادي القويم في السياسية والاقتصاد والإدارة، ما جعل في إمكانية قادتنا اليوم تبصّر هذه التجربة وهضمها وفهمها وتطبيقها واقعيا.
صنعَ الدولة الوحيدة في السماء
ولكي تستفيد الأمم الأخرى من التجربة النبوية في إدارة الدولة، وصنع الشخصية القيادية النموذجية، قدم العديد من المفكرين والمؤرخين، دراسات وبحوث ومؤلَّفات تخصصت بدراسة شخصية الرسول الكريم (ص)، وبحثت في خصاله الفذّة والعادلة.
إذ جاء في كتاب المستشرق المعروف إميل ديرمانجم الذي يحمل عنوان (حياة محمد): (إن محمدا رسول الإسلام - ص- قد أبدى في أغلب حياته بل طوال حياته اعتدالا لافتا للنظر، فقد برهن انتصاره النهائي على عظمة نفسية قلّ أن يوجد لها مثيل في التأريخ، إذ أمر جنوده أن يعفوا عن الضعفاء المسنين والأطفال والنساء، وحذرهم من أن يهدموا البيوت أو يسلبوا التجار أو يقطعوا الأشجار المثمرة، وأمرهم أن لا يجردوا السيوف إلاّ في حالة الضرورة القاهرة، بل قد بلغنا انه كان يؤنّب بعض قوّاده ويصلح أخطاءهم إصلاحا ماديا).
هذه التعاليم العادلة، كان قائد المسلمين ونبيّهم يوصي بها معاونيه ورجاله بالتعامل في ضوئها مع أعدائه، فكيف إذا يتعلق الأمر بأمته وشعبه؟، هكذا كان الرسول (ص) في حياته، فالمنحى الإنساني قائم ومتواجد على الدوام في عموم تفاصيل السلوك والكلام معا، ولا يُستثنى احد من هذا الوجوب، فكما يتطلب من الإنسان البسيط حسن السلوك وتوافر النزعة الإنسانية فيه، فهو أمر مطلوب من المسؤولين والقادة من أصحاب المناصب الحساسة.
هذا الدرس يجب أن يتعلمه قادة اليوم في الدول العربية والإسلامية، بل يجب أن يتعلّمها ويؤمن بها ويطبقها جميع من يقول بأنه مسلم، ويعلن انتماءه إلى النبي محمد (ص) وآل بيته، وهو درس عظيم لأصحاب المناسب الحساسة اليوم، ورؤوس السلطة الذين يتمتعون بالسلطة والمال والقوة، هؤلاء عليهم أن يدرسوا جيدا تجربة الرسول (ص) مع السلطة، والطريقة التي كان يسوس بها دولة المسلمين الكبرى.
المؤرخ الانكليزي المعروف وليم موير يقول في كتابه (حياة محمد): (امتاز محمد عليه السلام بوضوح كلامه ويسر دينه، وقد أتم من الأعمال ما يدهش العقول، ولم يعهد التأريخ مصلحا أيقظ النفوس وأحيا الأخلاق ورفع شأن الفضيلة في زمن قصير كما فعل نبي الإسلام محمد...).
ويذكر التاريخ كثرة أعداء الرسول منذ أن أعلن رسالته، ويذكر التاريخ بدقة تلك الحروب التي شُنَّت ضد الرسول (ص) كي تطفئ شعلة المبادئ الإنسانية العظيمة التي أوقد نورها في ذلك المحيط البشري المتردي، ما حدا بـ (السير جلال الدين برنتون) الذي درَّس في جامعة أكسفورد وكان من أشراف الانكليز ومشاهيرهم، إلى هذا الاعتراف الذاتي: لقد (شعرت أن لا خطيئة أكبر من إنكار هذا الرجل الرباني، بعد أن درست ما قدمه للإنسانية).
في حين يقول الروائي والكاتب الروسي الشهير ليو تولستوي: (مما لا ريب فيه إن النبي محمد - ص- كان من عظماء الرجال المصلحين الذين خدموا المجتمع الإنساني خدمة جليلة، ويكفيه فخرا إنه هدى امة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح إلى السكينة والسلام، وتؤثر عيشة الزهد، ومنعها من سفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقي والمدنية).
أما الفيلسوف الفرنسي الشهير (لامارتين) فيقول: إنّهُ (الرسول، والمشرِّع، والقائد وفاتح أقطار الفكر، ورائد الإنسان إلى العقل، وناشر العقائد المعقولة الموافقة للذهن واللب، ومؤسس دين لا وثنية فيه ولا صور ولا رقيات باطلة، ومُنشئ عشرين دولة في الأرض، وفاتح دولة واحدة في السماء من ناحية الروح والفؤاد، ذلكم هو محمد-ص-، فأي رجل لعمركم قِيس بجميع هذه المقاييس التي وضعت لوزن العظمة الإنسانية، كان أعظم من محمد، وأي إنسان صعد هذه المراقي كلها فكان عظيما في جميعها غير محمد - ص-؟؟).
الخلاصة.. إنّ الأمة التي قادها نبيّ من هذا الطراز الأعظم، والذي أورثها دروسا وتجارب لا تحصى في القيم والأخلاق والنتائج الشاخصة على مر التاريخ، حريّ بها وبقادتها أن يكونوا أوفياء لهذا الفكر الخالد وهذه المبادئ الإنسانية العظيمة، لاسيما أن ما يجري اليوم في الدول العربية والإسلامية يؤكد أن قادة اليوم والمسؤولين وأصحاب المناصب الحساسية وقعوا في محذوريْن، فأما هم لم يطلّعوا أصلا على سيرة النبي وحياته وتجاربه ومواقفه ومبادئه، وأما أنهم اطلعوا لكنهم لا يؤمنون بهذه التجربة العظمى ومخرجاتها!!.
اضف تعليق