سعى البعض خلال القرن الماضي لخلق حالة نفسية لدى الانسان بأنه قادر عن صياغة شخصيته الذاتية بنفسه، انطلاقاً من قدراته على التفكير الحر، ولا حاجة له للنصيحة والتبليغ والارشاد، بل ولا حاجة له بماضيه، وما يحمله من تجارب وعبر، فهو ابن اليوم، وليس ابن مجتمعه...
أمعن النظر في قائمة الوافدين عليه من اليمن، وكلّهم يدّعون التشيع والولاء، تدرجت عيناه على الأسماء حتى وصلت الى: عبد الرحمن بن ملجم المرادي، فرفع رأسه وسأل عن صاحب الإسم، فامتثل أمامه، قال له: أ أنت عبد الرحمن بن ملجم، قال: نعم، ثم أعاد عليه السؤال لمزيد من التحقق، فكان الجواب بالتأكيد مع شيء من اللهفة والاعجاب، ولكن! تغيّر وجهه، وبدت عليه علامات الحزن والأسى، ثم أردف: "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
استغرب الحاضرون، ومعهم عبد الرحمن، مستفهمين الأمر، فقال له، ومن دون أية مقدمات: أنت قاتلي!!
كانت الكلمة مثل وقع الصاعقة على عبد الرحمن بن ملجم، فاستغرب وقال: كيف يكون ذلك يا مولاي، وأنا من محبيك ومواليك...؟!
قال: إنه القدر المحتوم.
ثم تكاثرت من حوله الاستشارات بأن يلقي القبض على عبد الرحمن، او يتجنبه، او يبعده، او يتخذ أي إجراء وقائي، فكان، الامام أمير المؤمنين، عليه السلام، بنفس أعصابه الهادئة ونفسه المستقرة، حيث كان طيلة أيام حياته، لم يتغير طرفة عين، ذكرهم بأن "لا قصاص قبل الجناية"، ثم إذا أبعده؛ على يد من يجري القدر؟!
دين القشور
نعم؛ كان عبد الرحمن بن ملجم، من محبي أمير المؤمنين، عليه السلام، ذلك الحب الذي كان سائداً بين كثير من الناس، فهم يحبون الامام كونه الخليفة الرابع المشتمل على صفات القيادة وما يطلق عليه اليوم بالكاريزما، الى جانب الشرعية السياسية التي تؤهله لتسيير الجيوش وإعلان الحرب، او إقرار السلام، والتصرف ببيت المال وغير ذلك.
فهل كان الامام علي، ضمن هذا الاطار المحدود؟
علماً؛ أن من الطبيعي ان يكسب الامام ودّ الناس، لاسيما أهل الكوفة، الى جانب سائر الامصار، بعدالته وانسانيته وحرصه على الحقوق والكرامة، رغم بعض المنغّصات من لدن شريحة الجبناء والانتهازيين، فقد ذكرت لنا المصادر التاريخية أنه، عليه السلام، قضى على البطالة وأزمة السكن في الكوفة، مع توفير أكبر قدر ممكن من الخدمات، وكانت حينها عاصمة الدولة الاسلامية، بعتداد سكاني يربو على مائة ألف نسمة، فكانت ترفل بالرفاهية والاستقرار، فحتى الزوجة المأزومة مع زوجها، لم يكن الامام ليتركها مع مشكلتها في قارعة الطريق، إنما يسارع لحل المشكلة ويعيدها الى بيتها وزوجها.
بيد أن علي بن أبي طالب، لم يكن في دكّة القضاء، وعند بائع التمر، وفي الاسواق وبين الاطفال وافراد المجتمع، فقط، وإنما هو موجود ايضاً مع طلحة والزبير عندما جاءا اليه طلباً للمناصب والامتيازات فأطفأ السراج التابع لبيت المال كون الزيارة شخصية، ولا علاقة لها بالشأن العام، كما هو موجود عندما قرّب الحديدة الساخنة الى يد أخيه البصير؛ عقيل، وكان يعرف بفقره المدقع، ليس لمنكر فعله، وإنما لطلبه المزيد على حصته من بيت المال، وهو "صاع" كما جاء على لسان عقيل نفسه، وهو نفسه ايضاً؛ عندما وقف بين افراد جيشه يدعوهم للالفاف حول القرآن الناطق، وعدم السقوط في خديعة ابن العاص، الذي أوهم الجهّال بأنه يحمل كتاب الله في الرماح، وقد اكدت المصادر التاريخية بان لم تكن ثمة مصاحف في الأمر مطلقاً إنما هي اقتاب الأبل، ليخيّل الى أهل الكوفة بأنها مصاحف، ومن يحملها مسلمون لا يجوز قتالهم.
كان الامام علي مع جمع من اصحابه في احدى طرقات الكوفة، فسمعوا قارئاً للقرآن يتلو بصوت شجيّ أخّاذ، فاعجب أحدهم بالصوت، فما كان من الامام إلا أن كشف له بأن صاحب هذا الصوت من أهل النار، وكان ابن ملجم المرادي نفسه.
من المؤكد أن الاخير وكثير من اهل الكوفة، بل وعامة المسلمين آنذاك، لم يحفظوا الدعوة المدوية له، عليه السلام، والتي جاءت ضمن رسالته الشهيرة الى عثمان بن حنيف، واليه على البصرة، وهو يدعوة الى الزهد والترفع على الولائم الخاصة، بأن "...وأنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن؛ أعينواني بورع واجتهاد وعفّة وسداد". كل شيء كان موجوداً بين المسلمين وبين إمامهم، إلا هذه الدعوة البليغة المكونة من أربع دعائم يستند عليها الايمان؛ الورع، والاجتهاد، والعفّة، والسداد، وإلا لما كان يواجه النكوص والخذلان في ساعة النفرة الى حرب جماعة متمردة وقليلة في العدة والعدد قياساً بالكوفة وامكاناتها وامكانات الدولة الاسلامية آنذاك، كانوا يتعللون بالحر تارةً، وبالبرد تارة اخرى.
إن الدين الذي كان تريده الغالبية العظمى من المسلمين آنذاك، هو قضاء اكثر الاوقات في المسجد، لأداء الصلوات وقراءة القرآن الكريم، ثم استذكار بعض الاحاديث المروية عن النبي الاكرم، حتى وإن كانت مكذوبة، وبعدها الخوض في غمار التجارة واقتناء الإماء والتلذذ بما طاب من الطعام والشراب، والخلود الى الاسترخاء والنوم، أما سائر الفرائض، فهي تأتي ضمن طقوسها، مثل أيام الحج، او شهر رمضان، فيما يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إجازة!
ابن ملجم، هاجس العدمية أدى به للانتحار
سعى البعض خلال القرن الماضي لخلق حالة نفسية لدى الانسان بأنه قادر عن صياغة شخصيته الذاتية بنفسه، انطلاقاً من قدراته على التفكير الحر، ولا حاجة له للنصيحة والتبليغ والارشاد، بل ولا حاجة له بماضيه، وما يحمله من تجارب وعبر، فهو ابن اليوم، وليس ابن مجتمعه، ولا ابن حضارته وتاريخه، بدعوى أن هذه النظرية من شأنها حمل الانسان من حالة العدمية –التي يفترضونها- الى الظهور بقوة على مسرح الاحداث.
شبيه بهذه الحالة سبق وأن جربها الانسان في العقد الرابع من الهجرة النبوية، بما يوافقه من القرن السابع للميلاد –تقريباً- حيث كان الامام علي، عليه السلام، هو الحاكم الشرعي والسياسي للأمة على رقعة واسعة وبالغة الاهمية في العالم.
الحروب المفروضة والمرفوضة في آن؛ بدءاً من حرب الجمل، ثم حرب صفين، ثم النهروان، وما حصدته من عشرات الآلاف من القتلى والجرحى، كانت بمنزلة الريح الصفراء العاتية التي عصفت بإيمان الكثير آنذاك، وأنهم انما تحولوا الى وقود للحرب، في وقت كان الامام علي، عليه السلام، يبين لهم مراراً وتكراراً أنهم في جبهة الحق، وأنهم منصورون بإذن من الله –تعالى- وتسديد منه، وذلك بناءً على السنن الإلهية الواردة بكل وضوح في القرآن الكريم: ((إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم))، وهم إنما يقاتلون في جيش يقوده انسان، طالما أعلن النبي الأكرم مراراً أنه صنو القرآن، والايمان، والعدل، والصدق، والى آخر القائمة الطويلة من الفضائل والخصائص التي لن تكون لغيره الى يوم القيامة.
لم يترك الامام علي، عليه السلام، فراغاً نفسياً إلا وملأه بالحجج البالغة والادلة المنطقية والعقلية بأنه على حق وأن جيش معاوية على باطل، وأنه الفئة الباغية التي حذر منها رسول الله، صلى الله عليه وآله، إنما المشكلة الدائمة في الانسان، وجود عامل آخر يزاحمه في التوصل الى النتائج المطلوبة، وإلا لو كان العقل وحده صاحب القرار لدخل الناس في الجنة أجمعين، وهذا المزاحم او العقبة الكأداء، ما يسميه القرآن الكريم بـ "الهوى" وهي نفسها التي تجعل من النفس الانسانية تأمر بالسوء، بدلاً من أن تكون "لوامة" ومذكّرة بالهُدى والصلاح، ومتى ما رجحت تلك النفس بدافع الهوى والميول الغرائزية، من حب المال والجنس والشهرة والبقاء، تعتري الانسان مشاعر رهيبة من عدم الاستقرار، والشعور بأن كل شيء من حوله يهدده وينال منه، ولذا يكون الانسان أمام طريقين: إذا كان ذو مِكنة ومقدرة، يسعى لإلحاق الضرر بمن حوله، بدعوى تحقيق الذات الضائعة وصناعة هوية جديدة، وإن كان عاجزاً وسط قيود وضوابط المجتمع، فانه يلجأ الى الانتحار كما نشهد هذه الظاهرة في الوقت الراهن.
إن عبد الرحمن بن ملجم، لم ينفذ عملية اغتيال الامام علي، عليه السلام، فقط؛ وانما قام بمحاولة انتحار جعلته يكون أكبر قاتل في التاريخ كون الشخصية المستهدفة "ما رأى الكون مثله آدميا"، كما يقول الشاعر بولس سلامة في ملحمته الغديرية، ثم يعترف بعظمة لسانه بأنه من أهل النار، لانه مدرك منذ البداية، وقبل ان يرفع سيفه على الامام، بأنه صار طعماً للفكر الانهزامي في المجتمع آنذاك.
وكيف لنا أن نصف مدى حرص الامام، عليه السلام، وهو ساعاته الاخيرة بعد تلك الضربة الغادرة، على وعي الناس وثقافتهم ومستقبلهم، عندما لا يبقي أمراً إلا ويوصي به، من الايتام (اجتماعياً)، والقرآن (عقائدياً)، والنظام (حضارياً) وغيرها من الوصايا التي تجعل النفوس عامرة بالايمان؟
من يقرأ وصايا الامام، ودعوته المتكررة والعجيبة التي يتوقف عندها التاريخ والحضارة والانسانية: "سلوني قبل تفقدوني"، تؤكد لكل ذي لُب، انه، عليه السلام، يريد تحقيق إضاءة الطريق الى حياة آمنة وسعيدة ومتقدمة للجميع.
اضف تعليق