وبما أن الايمان بالله وبكتابه وبما جاء من عند النبي الاكرم، بحاجة الى قلب مفعم بالحب والود، والى خلق رفيع، ونفس مطمئنة بالرضى، فان مساعي أهل البيت، عليهم السلام، كانت تتجه دائماً لاستيعاب أي حالة تنمّر او تطاول تظهر هنا وهناك، ومعالجتها فوراً باللين والرفق...
كان بإمكان الصديقة الزهراء، وأمير المؤمنين، عليهما السلام، الاقتصاص من ذلك الشخص الذي اقتحم الدار ودفع الباب بعنف فيما كانت الزهراء خلف الباب، وحصل ما حصل، فان كنّا نختلف اليوم بعد اربعة عشر قرناً على هوية الفاعل، فان الامام علي، وسائر الاصحاب والموجودين قريباً من تلك الواقعة يعرفون الفاعل الذي تسبب، ليس في إلحاق الأذى بالصديقة الطاهرة، بل وأزهق نفساً زكية وهو جنيناً ينبض بالحياة.
مع كل ذلك؛ لم تصدر أية دعوى من أهل البيت على الجاني او الجناة المشاركين في عملية الاقتحام والاعتداء، وهو حقٌ مشروع لا جدال فيه، فما السبب وراء ذلك؟
اذا لم أكن مغالياً في إصدار الاحكام، فان المؤرخين في طليعة من ظلموا أهل البيت، عليهم السلام، بتهميشهم حياة هؤلاء الصفوة مقابل الاهتمام بالحكام والامراء والاثرياء، وتدوين مجريات مجالس اللهو والطرب، ومن تكلّم، ومن مدح وأطرى، ومن حقق الانتصارات والبطولات، بينما غابت عن الامة والاجيال الكثير الكثير من المواقف في شتى نواحي الحياة، للنبي الاكرم وابنته الزهراء والأئمة المعصومين، عليهم السلام، فلا نعرف الكثير من ردود الفعل إزاء احداث اجتماعية وسياسية، إلا بعض النزر اليسير الذي يعود الفضل في وصوله الينا، الى نفس الأئمة المعصومين، عليهم السلام، باحاديثهم التي نقلها الاصحاب والمقربين ثم تناقلها العلماء والمؤرخون فيما بعد، وجاءت مختصرة –على الاغلب- من دون خلفيات للحدث او تفاصيل تبين الابعاد النفسية او الاجتماعية، لاسيما فيما يتعلق بالاساءات التي لحقت بهم من بعض افراد المجتمع، فما هي الدوافع، والغايات من وراء هذا الموقف او ذاك؟ وفيما يتعلق بقضية الزهراء، عليها السلام، ماذا كانت ردود فعل الشخصيات البارزة في المجتمع، وتحديداً الاصحاب المعروفين مما حصل؟ وما دار بينهم وبين أمير المؤمنين؟ وغيرها من الاسئلة الكثيرة.
بيد أن معطيات الاحداث فيما يتعلق بواقعة اقتحام دار الامام علي، وما جرى على الصديقة الزهراء، تؤشر الى تسامي واضح على الجراح وكظم للغيض عظيم، كون أهل البيت في خط الرسالة ذات الشوكة التي مضى عليها أول مرة رسول الله، صلى الله عليه وآله، وهو أول من واجه هذا النوع من العنف والقسوة، مع فارق الظروف والاساليب، ففي بداية الدعوة كان الرجل يأتي النبي الاكرم ويسحب رداءه بعنف من الخلف لمجرد إثارة انتباه النبي ليكلمه: "حدثني يا محمد..."!! ثم في وقت لاحق، وبعد تبلور شكل الدولة الاسلامية وظهور قائد وتشكيل قوة عسكرية، نلاحظ تعرض النبي للتشكيك تارة في قضية تأجيل النبي فتح مكة والاكتفاء بالصلح (صلح الحديبية)، بأنك "وعدتنا بفتح مكة..."! و القدح في مسألة الصلاة على ذلك المنافق، عندما جاءه ذلك الرجل ليقول للنبي بأن "ألم ينهك الله عن الصلاة على المنافقين"؟!! مع كل ذلك، كان النبي يبتسم لذلك الاعرابي مراعاة لجهله، ويصبر على الآخر لخبث طويته وإظهاره الايمان والاسلام، وحفاظاً على تماسك المجتمع الاسلامي الحديث النشوء.
وهذا يشير الى أن أهل البيت كانوا حريصين أشد الحرص على ان تكون معالجتهم لحالة القسوة والغلظة بطريقة غير مثيرة للنفوس، ولا تحسس الطرف المقابل وبشكل صادم بانه على خطأ، لاسيما اذا عرفنا ان هذه الحالة النفسية مما ورثه المجتمع الجاهلي في الجزيرة العربية من الآباء والاجداد، فانعدام الشفقة والرحمة واللين والمودّة، حالة يعدونها طبيعية، إلا اللهم يكون في الامر منفعة، ولعل ظاهرة وأد البنات، ودفن انسان حيّ تحت التراب، تكون أبرز الشواهد على تجذر هذه الحالة في النفوس.
وبما أن الايمان بالله وبكتابه وبما جاء من عند النبي الاكرم، بحاجة الى قلب مفعم بالحب والود، والى خلق رفيع، ونفس مطمئنة بالرضى، فان مساعي أهل البيت، عليهم السلام، كانت تتجه دائماً لاستيعاب أي حالة تنمّر او تطاول تظهر هنا وهناك، ومعالجتها فوراً باللين والرفق، وهذا بحاجة الى قدر غير قليل من الصبر على الجهل، وايضاً، الصبر مع القدرة، وهو ليس بالهيّن، لذا كانوا، عليهم السلام، يتعرضون اكثر من غيرهم للأذى، بينما كان السائد في المجتمع العربي في تلك الحقبة؛ الرد "الصاع بصاعين"، والغريب أن بعض الافراد في مجتمع اليوم يسترجع تلك الحالة القديمة التي تعود الى اربعة عشر قرناً من الزمن.
أما تطبيق الحدود الشرعية فقد كان اهل البيت يقرأون آيات الله الخاصة بها، غير قراءة سائر الناس، لان في الامر تشريعٌ وتفهيم و وضع منهج للحياة، فاذا اقتصّ الامام الحسن، عليه السلام، من ابن ملجم، لماذا لم يقتصّ هو من زوجته جعدة التي سقته السمّ، وهو يعلم علم اليقين بانها الفاعلة؟
لابد للعلماء والباحثين من رؤى وقراءات لهذه المواقف، منها؛ بأن حادثة اغتيال أمير المؤمنين، جاءت على مرأى ومسمع من الناس، والجاني متلبس بجريمته، كما كان، عليه السلام، يبعد ذلك الرجل المعترف على نفسه بالزنا، ويدعوه للانصراف، ولما كرر على نفسه الاقرار اربعة مرات، عدّها الامام اربعة شهادات وأقام عليه الحدّ، بمعنى أن الامام علي، وأهل البيت، عليهم السلام، يوجهون الناس نحو السلم الأهلي والتعايش بما لديهم من قدرات ذاتية على الاعتصام من الذنب والانحراف والتطاول على الحق والقيم، لا ما يريدونه هم، فالنبي الاكرم، قبلهم لم يُكلف من قبل الله –تعالى- بأن يفرض الايمان على الناس؛ {أفأنت تكره الناس ان يكونوا مؤمنين}، و الدور الرسالي للنبي: {إنما انت مذكر لست عليهم بمسيطر}، وفي نفس النهج، نرى أهل البيت ينشرون الوعي الامني بين اوساط المجتمع، وأن التماسك والانسجام وسائر القيم الدينية والاخلاقية، تمثل البنية التحتية في كيان المجتمع والامة، وذلك من خلال تطويق كل اشكال العنف والقسوة في السلوك البيني، وايضاً على صعيد العلاقات الاجتماعية.
واذا نلاحظ خلو التاريخ الاسلامي في مرحل التطور والصعود الحضاري، مما كان معهوداً في الجاهلية من حالات مثل الغارات الليلية بين القبائل، وحالات السلب والنهب، إلا بعض الحالات النادرة، فهذا يعود بالفضل الى المنهج الحضاري الذي أرسى دعائمه اهل البيت، عليهم السلام، بصنع السلم الأهلي وتغليب الأمن العام على الأمن الخاص والمصلحة الشخصية.
اضف تعليق