فالإمام يعدّ سلوكيات مواليه، مسؤولية ثابتة عليهم، فهم المرآة لمنهج مدرسة آل البيت والمصداق العملي لمتبنياتها السلوكية، وبخلافه لا ينالون شرف ولايتهم لآل البيت، مهما يصرحون بها بألسنتهم، ويدّعون المودة لهم أمام الناس، رياءً ومصلحة شخصية، كما أن الولاية لمدرسة آل البيت، لا تختص بالعاطفة...
اهتم الإمام جعفر بن محمد الصادق (صلوات الله عليه) بتقديم وصاياه، ونشر حِكَمِه ومتبنياته السلوكية والفكرية، باختلاف عناوينها، وتنوع موضوعاتها وأهدافها، والجهة أو الجهات التي يتوجه في الوصايا إليها، فتارة تكون لفرد من أهله، أو خليفته الذي ينص إليه بالمسؤولية من بعده، أو ليشهد الأمة على ذلك، كي لا تثار الخلافات حوله.
وقد يختص بوصاياه، أتباعه وأصحابه وشيعته، وأخرى يشرع بتعميمها على الأمة بجميع شرائحها، بهدف إصلاح المجتمع، وتحصينه ومنعته، وأخرى يخص بها أولي الأمر، بهدف تقويم الحكم وترشيده، ومنع الاستبداد والظلم والجور، وكان في توجيه وصاياه غير مميِّز، بين أتباعه ومواليه، ومن يتولى منهجه أو بين الآخرين ممن يجتهدوا بآرائهم، باختلاف مللهم وأهوائهم، لكنهم يختلفون إليه، ويحضرون مجالسه ودروسه، ولا يمنع وصاياه ونصحه، حتى المخالفين له.
كما تشمل وصاياه (عليه السلام)، طرائق الحكم الرشيد، والسياسة وأصولها، وحقوق الفرد والمجتمع والدولة فيها، وفي جميعها ينشر (ثقافة السلم الأهلي، والتسامح وقبول الاختلاف، ورفض العنف، والتمسك بالفضيلة ومكارم الأخلاق، والانسجام بين القول والعمل، وبين المعتقد والسلوك.
فالكلمة مسؤولية في رقبة قائلها، واستباحة دماء الناس، من أعظم الكبائر، فيؤكد الإمام أن (من أعان على قتل مؤمن، ولو بشطر كلمة، كتب بين عينه آيس من رحمة الله)، ويدعو الناس جميعاً الى (البر بالإخوان، ولو بحسن الجواب، ورد السلام)، ومن (صدق لسانه، زكا عمله).
وبذلك فالإمام يعدّ سلوكيات مواليه، مسؤولية ثابتة عليهم، فهم المرآة لمنهج مدرسة آل البيت (عليهم السلام)، والمصداق العملي لمتبنياتها السلوكية، وبخلافه لا ينالون شرف ولايتهم لآل البيت، مهما يصرحون بها بألسنتهم، ويدّعون المودة لهم أمام الناس، رياءً ومصلحة شخصية، كما أن الولاية لمدرسة آل البيت، لا تختص بالعاطفة فقط، بل تستوجب الاقتداء بهم، وخاصة في التدين الصحيح، وإقامة الفرائض، عن إيمان صادق، دون رياء أو تصنّع، فيقول الإمام لمواليه (لا ينال شفاعتنا مستخفّ بصلاة).
فيعظ الإمام مواليه قائلاً: (إن الرجل منكم قد ورع في الدين، وصدق الحديث، وأدّى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس، قيل هذا جعفري، وقيل هذا أدب جعفر، فيكون بين عشيرته أدّاهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، اليه وصاياهم وودائعهم). فالأهداف السلوكية التي يؤكدها الإمام، أن يكون موالي أهل البيت، قدوة ومثالاً في المجتمع الإسلامي، ليقدموا النموذج الأمثل فيه.
وقد ذكر الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار، أن من مكارم أخلاق الإمام، أنه رحّب بالشقراني، عند زيارته له، وقضى له حاجته، مع علمه بحاله، ووعظه على وجه التعريض، وهذا من أخلاق الأنبياء، وقال له (إِن الحَسَن من كلّ أحد حَسَن، وأنه منك أحسن، لمكانك منّا، وأن القبيح من كلّ أحد قبيح، وأنه منك أقبح، لمكانك منّا)، وإِنما قال له الإمام الصادق ذلك، لأنه كان وآبائه من موالي البيت الشريف.
وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يعامل الناس بالمودة وحسن الظن، فكان يستقبل القادمين إليه بالترحيب والتودد، وانبساط الوجه، والخلق الرفيع، لتقديم النموذج الإيجابي والتربوي، وتشجيع الآخرين، لإشاعة المحبة والمودة في المجتمع، وكذا جعلهم أن لا يترددوا أو يتحرجوا، بطرق بابه لطلب العلم، أو حضور دروسه ومباحثه، فضلاً عن أن الإمام في تبسطه وأريحيته، إنما يرفع الحرج عن الناس، عن المسألة والسؤال، في أية حاجة ليقضيها لهم.
في آخر حياة الإمام (عليه السلام)، شدد الطاغية المنصور من حملته عليه (عليه السلام)، بعد أن أحكم العباسيون سيطرتهم على البلاد، وكان الإمام توقع ذلك مسبقاً، وقد استعد له.
ولقد أخذ التضييق على الإمام صوراً متعددة، كاعتقال طلبته ومن يتصل به، بهدف عزل الإمام عن شيعته، وعن طلاب علمه ورواة حديثه، إذ استدعاه المنصور الى الكوفة عدة مرات، وهو شيخ كبير، ثم يرجعه الى المدينة، حتى يطلب من واليه عليها، أن يهجم على دار الإمام ويحرقها، ولكن الإمام يبقى صابراً محتسباً، ومستمراً بأداء الأمانة، بكل صدق وإباء، فكان صادقاً في قوله وعمله وجهاده.
فكانت صورة الهالة المجتمعية، والمكانة الاعتبارية للإمام، مدعاة للحسد عليه وغبطته، غير أن ما كان يمنع الخليفة عن التعرض إليه، هي هيبة الإمام، التي ترعبه كلما نظر إليه، وفي النهاية فقد أوعز لعماله للإجرام بحق الإمام، فصدقت مقالة الإمام أنه (ليس منا إلّا مقتول بالسيف أو السم)، و(سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار)(الرعد/24).
ليكمل الله تعالى فضله على عبده الصالح، صادق القول والعمل، بأن رزقه الشهادة، لتكون الفصل الأخير في سفر كراماته، ومنجزه الإنساني، وقامته العلمية، وعطاءاته الفكرية والمعرفية، ودوره التاريخي في حياة الأمة ومستقبلها وكينونتها، رحل الإمام مسموماً مظلوماً إلى رب كريم، وكُتبَ له الخلود في عقول العلماء، وضمائر الأحرار، وقلوب الطيبين، أما من ظلموه وقتلوه فنسياً منسياً.
اضف تعليق