"إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم"، أي انسان اجتماعي يتطلع الى اكبر رقعة من الحضور بين الناس، في عطائه الفكري والمالي والعلمي و ايضاً الاخلاقي، ولذا نجد بعض الناس يشعرون بالفخر عندما يجدون الناس يتزاحمون على عياداتهم الطبية لغرض العلاج، او يتزاحمون على أبوابهم للحصول على المساعدات العينية او المالية، وكذا نجد هذه الحالة النفسية واضحة في اصحاب المواكب الخدمية على طريق زائري الامام الحسين، عليه السلام، وكيف انهم يتسابقون لتقديم انواع الطعام والشراب وسائر الخدمات مهما كلفهم ذلك.
وقد عبّر عن هذه الحالة النفسية، سماحة آية الله السيد محمد رضا الشيرازي في إحدى محاضراته، بــ "السعة الوجودية" في جانبيها المادي والمعنوي، ففي الجانب المادي لن يكون بوسع الانسان التوسع من اطار وجوده المادي طولاً وعرضاً، ولن يتمكن من أن يركب أكثر من سيارة واحدة في وقت واحد، ولا ينام على اكثر من سرير ويسكن أكثر من دار وهكذا سائر الامور في الحياة، وقد نبه الى هذه الحقيقة؛ القرآن الكريم وهو يذكر الانسان {إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا"، (سورة الاسراء، الآية37)، ولكن؛ بامكانه التوسع بعيداً جداً في الجانب المعنوي لما له من القدرات والمهارات في تقديم الكثير للآخرين.
وفي أيام الحزن التي نعيشها في ذكرى رحيل نبي الانسانية والرحمة؛ الرسول الأكرم، محمد، صلى الله عليه وآله، نقتطف هذا الجانب من سيرته العطرة عندما جسد "السعة الوجودية" بأروع صورها، تحولت فيما بعد الى منهج مضيء لمن يتطلع الى حضور فاعل ومفيد ومنتج في محيطه الاجتماعي وحتى على صعيد البلد الذي يعيش فيه، وقد أوصانا في هذا المجال "بأنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم"، بمعنى أن ليس بالضرورة امتلاك الجميع للقدرة المالية للانفاق، بينما بامكان الجميع تنمية مهارات وفنون التعامل مع الآخرين.
يقسم العلماء مجالات الحضور الفاعل في الحياة الى ثلاث ميادين في ضوء سيرة المصطفى محمد، صلى الله عليه وآله؛ الحياة الشخصية، والحياة الأسرية، والحياة الاجتماعية.
المجال الأول: الحياة الشخصية
كان النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله يعيش وبيده القيادة الدينية والقيادة الدنيوية (السياسية)، فالقيادة الدينية هي الحكم على القلوب، فيما القيادة الدنيوية هي الحكم على الأبدان، واليوم تعني القيادة؛ الزعامة السياسية في البلد، ولمن يصل الى هذه القمة بامكانه اتخاذ القرارات الكبرى والتصرف بالثروة والتحكّم بالقوانين وكل ما يتعلق بحياة الناس، ولكن؛ لن يكون بوسعه التحكّم بقلوب الناس، وقد اجتمعت القيادتان في شخص رسول الله، وهو النبي الخاتم المحترم بين قومه والمهاب بين سائر الاديان والشعوب في العالم، بيد أنه لم يستخدم هذه المكانة الرفيعة التي لم تكن لأي بشر قبله ولا بعده، لإرضاء نفسه وإنما إرضاء الآخرين في إطار الرسالة السماوية التي جاهد وضحى من أجلها، فالدنيا لم تكن عنده كل شيء، ولا آخر المطاف، ولا هي المساحة التي تقفز فيها الفرص بين حين وآخر ولابد من اقتناصها بكل الوسائل لتحقيق الربح والفائدة.
لقد كان في منتهى العفو والرحمة والزهد والتواضع مع علو الشأن والقدرة، لذا وردت التأكيد على "العفو عند المقدرة" وليس عند الضعف، على أنه يمثل خطوة ريادية متميزة. وذات مرة جاءت جارية الى النبي، صلى الله عليه وآله، وهي تحمل صاعاً من التمر أهداه رجل من المؤمنين، فجاءت الخادمة ودخلت بيت النبي، وبدأت تبحث في البيت الذي كان عبارة عن غرفة واحدة وحسب، لكي تجد إناءً أو شيئاً تضع فيه التمر، فلم تجد، فجاءت إلى النبي، وقالت: يا رسول الله؛ لم أجد شيئاً في بيتك أضع فيه التمر، فكنس النبي، الأرض بيده وقال: صُبي التمر في هذا المكان، أي على الأرض، ثم قال: صلى الله عليه وآله وسلم: "لو كانت الدنيا لها قيمة عند الله تعالى ما سقى كافراً ولا منافقاً شربة ماء"، وهذا تجسيد الزهد عند المقدرة وليس عند الضعف.
وليس المطلوب قطعاً؛ ان يكون الواحد منّا في بيت بغرفة واحدة، او يضع طعامه على الارض، او لا يمتلك الأواني في بيته، إنما يدرب نفسه على الاستغناء عن كثير من الامور التي لن تؤثر كثيراً على مجرى حياته الشخصية والعائلية والاجتماعية، بما يمكن وصفها بالكماليات، رغم قدرته على اقتنائها والتمتع بها، من اجل تقليل الارتباط بالحياة المادية الزائلة التي لا يعرف الواحد منّا كيف تتوقف فجأة ودون سابق إنذار ويتوقف معها كل شيء بالنسبة له.
المجال الثاني: الحياة الأسرية
كان بيت النبي الأكرم عبارة عن واحة خضراء فسيحة لا حدّ لها من التسامح والعفو والحلم وسائر المكارم والفضائل، فكل ما نقرأه ونسمعه عن التصرفات التي واجهها النبي من زوجاته، كان يذوب ويتلاشى في هذه الواحة رغم قساوتها وجرأتها، فلم ينقل لنا التاريخ أن النبي واجه الاساءة من بعض زوجاته بالمثل، او عاقبهن نكالاً لما فعلا، كما حصل في حادثة "التظاهر" التي يذكرها القرآن الكريم بالنصّ، ويصطلح عندنا بـ "التآمر" وكان الهدف إزاحة إحدى الزوجات من حياة النبي حسداً، والقضية معروفة ومشهورة، لمن يراجعها في كتب السيرة، وذكرها بالتفصيل الخطباء والعلماء الكرام.
المجال الثالث: الحياة الاجتماعية
كان عند النبي صلى الله عليه وآله الكثير من دواعي الترفع على الآخرين؛ فمن من ناحية الأسرة، فهو ينتمي إلى أشرف أسرة في العالم كله، فهي تمتد بجذورها الى الانبياء والمرسلين، ومن ناحية العلم، لا يوجد أعلم منه، ومن ناحية الفضائل الأخلاقية، لا أحد يفوقه في هذا الميدان، ولكن كلما زادت نقاط القوة في النفس الكبيرة، يزداد التواضع والخضوع، ولم يكن يتعامل مع الآخرين من وراء الحجب؛ لنتصفح كتب الروايات نلاحظ الكثير من صور التعامل للرسول الأكرم مع الناس، فقد كان يجلس ليُرقع ثوبه بالإبرة والخيط، وهذا ليس في مكان ظاهر حتى يعده البعض نوعاً من الرياء، وإنما في مكان غير ظاهر، وفي الوقت الذي كان الأفراد المهمُّون يركبون الخيل، كان النبي الاكرم، يركب الحمار تواضعاً؛ وكان يعلف الناضح، أي البعير، فيأخذ العلف بيده المباركة ويأتي به أمام البعير ليأكل؛ ويجيب دعوة المملوك وهو عبدٌ، كما لو أن خادماً قال لشخص ما: أنت اليوم مدعوٌ عندي في بيتي! ويحلب العنز بيده؛ ويُسلّم على الصبيان، وعندما سُئل عن ذلك، قال صلى الله عليه وآله: "...ليكون ذلك سنةً من بعدي"، بل ويكنس البيت بيده حتى يقتدي المؤمنون به إلى يوم القيامة.
هذه السعة الوجودية هي التي خلّدت النبي الاكرم وأبقته حيّاً نابضاً في القلوب، وجعلته يضيء، ليس للمسلمين وحسب، بل وللعالم أجمع، والقرآن الكريم هو الذي يؤكد هذه الحقيقة الانسانية؛ {ولو كنت فضاً غليظ القلب لانفضوا من حولك...}، فالذي يسع الناس بأخلاقه وروحه الشفافة، ليس فقط لن يخسر شيئاً من علمه وفضائله وقدراته، إنما يزداد نضارةً في القلوب والنفوس وتتعزز شخصيته في المجتمع، كانسان فاضل يتميز بالقدرة على مخاطبة الجميع كلٌ حسب مستواه وتوجهه، حتى وإن بعيداً عن الدين والاخلاق.
إن الضيق في النفس الانسانية هي التي تسبب المشاكل الأسرية والازمات الاجتماعية بل حتى الاقتصادية والسياسية، لان المتشبث بالأنا، يصعب عليه فتح ابواب قلبه على الآخرين والتحاور معهم والتعاطي مع افكارهم وثقافتهم وحاجاتهم، لذا نجد مختلف اشكال العلاقات في حياتنا اليوم تعاني الفشل ثم الانهيار، من علاقة الزوج بزوجته، او علاقة الفرد بسائر افراد المجتمع، وحتى علاقة الحاكم بافراد الشعب.
وقبل الختام؛ أستذكر آخر لحظات وجود النبي الأكرم بين افراد الامة، حيث كان يعاني الوعكة الصحية، وقد اجتمع عليه جمع غفير، فنادى في الناس أن من كانت له عليه مظلمة قصاصة فليتقدم يقتصّ او يأخذ حقه! فأجهش القوم بالبكاء، ولم يلبثوا إلا أن قام أحدهم مفاجئاً الجميع بأن له قصاصة من الرسول الاكرم، بأنه كان ذات يوم على ناقته فأصاب عصاه بطنه وكان قريباً من النبي، فدعاه النبي بالاقتراب منه ليقتصّ منه، والجميع في ذهول غريب لا يصدقون ما يحصل، فاقترب الرجل، ثم طلب من النبي الكشف عن بطنه، لان بطنه كانت مكشوفة حين تعرض لضربة العصا، فاستجاب له النبي، ولكن؛ قام الرجل وقبل بطن النبي الاكرم، وقال: اردت من ذلك الوصول اليك يا رسول الله، لأودعك بهذا الشكل وأحظى بتقبيل بطنك، ولا حقّ لي فيما قلت – مضمون القصة-.
لنتصور تعامل كهذا من مسؤول في الدولة او رب أسرة وايضاً سائر افراد المجتمع، كيف تكون حياتنا؟ وهل تظهر امامنا المشاكل والازمات التي نراها اليوم تشدّ الخناق حولنا؟
اضف تعليق