كان المجتمع في عصر الإمام علي زين العابدين (عليه السلام)، يعاني تداعيات أزمة حضارية عاتية في الجوانب الإيمانية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكان على الإمام (عليه السلام) الشروع باستراتيجية تغيير وإصلاح بأفق يشمل الحاضر ويستشرف المستقبل، ومن أولويات هذه الاستراتيجية، مواجهة الأفكار العاصفة بإيمان الناس، والطاردة لقيم العدل والفضيلة من وعي المجتمع وطباعه.
وكان عمله (عليه السلام) على أكثر من محور واتجاه، فإضافة إلى ما كان يجود به من دروس فكرية وفقهية وأخلاقية، رسمت الصحيفة السجّادية خارطة طريق لتقويم قيم المجتمع المشوهة، وشرائه العبيد وتربيتهم تربية إسلامية ثم عتقهم بعد ذلك، فضلاً عن إعداده الخواص من أهل بيته وأصحابه وتوجيه جهودهم نحو تغيير المجتمع وإصلاحه، فقد عاث الأمويون في الأمة ضلالاً وانحرافاً وفساداً وخراباً، بالتعاون مع فقهاء البلاط والدرهم، فالدولة تشهر سيفاً وظلماً، والفقهاء يشيعون تزييفاً وتحريفاً.
قبل عاشوراء
آنذاك، تعاونت السلطة السياسية مع فقهاء السلطان والدينار على صناعة "مجتمع القطيع"، فلقد اتبع معاوية سياسة الإرهاب والقتل والتجويع مع جميع الذين ليسوا معه. فقد قال لأحد قادة جيشه وهو سفيان بن عوف الغامدي: «إني باعثك في جيش كثيف ذي أداة وجلادة، فالزم لي جانب الفرات حتى تمر بهيت فتقطعها، فإن وجدت بها جنداً فأغر عليهم، وإلا فامض حتى تغير على الأنبار، فإن لم تجد بها جنداً، فامض حتى توغل في المدائن، ثم أقبل إليّ. واتق أن تقرب الكوفة، واعلم أنك إن أغرت على أهل الأنبار، وأهل المدائن، فكأنك أغرت على الكوفة، إن هذه الغارات يا سفيان على أهل العراق، ترعب قلوبهم، وتفرح كل من له فينا هوى منهم، وتدعو إلينا كل من خاف الدوائر، فاقتل من لقيته ممن ليس هو على مثل رأيك، وأخرب كل ما مررت به من القرى، واحرب الأموال، فإن حرب الأموال شبيه بالقتل وهو أوجع للقلب».
وقد استمر معاوية بهذه السياسة بعد شهادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، لكنها أخذت شكلاً أكثر عنفاً وشمولاً. جاء في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بدء عام الجماعة، يقول فيها:
«أن برئت الذمة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب وأهل بيته». واستعمل معاوية على الكوفة زياد بن سمية، لكثرة من بها من شيعة علي (عليه السلام)، وضم إليه البصرة، وكان يتتبع الشيعة، وهو بهم عارف، لأنه كان منهم أيام عليّ (عليه السلام)، فـقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم، وقطع الأيدي والأرجل، وسمل العيون، وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشرّدهم عن العراق، فلم يبق بها معروف منهم، وكتب معاوية إلى عماله في جميع الآفاق: «أن لا يجيزوا لأحد من شيعة علي وأهل بيته شهادة».
أما المؤسسة الدينية الأموية فقد افتتحت عهدها بترويج مذهب (الجبر) الذي يعني أنَّ الإنسان مُجبْر فيما يأتيه من أفعال، حسنها وقبيحها. وثقافة الجبر هذه بررت تولية يزيد بن معاوية ولاية العهد، حيث قال فقهاؤهم: «إن أمر يزيد قضاء وقدر، وليس للعباد الخيرة من أمرهم».
وسار الخلفاء الأمويون، من بعد ذلك، على اتخاذ أيديولوجية الجبر كقاعدة شرعية لحكمهم، فقد أحضر يزيد بن عبد الملك سبعين شيخاً يشهدون له أن ليس على الخليفة من حساب ولا عقاب، لأنه مجبور على تولي الخلافة من جهة، ومن ثم فهو مجبور على ما سيقترفه من أعمال في سبيلها من جهة أخرى!. وكان هدف الأمويين من وراء إشاعة القول بـ(الجبر)، التنصل من مسؤوليتهم عما ارتكبوه من جرائم وقبائح، ومنها إحراق الكعبة، واستباحة مدينة الرسول الأعظم ( صلى الله عليه وآله)، وانتزاعهم الخلافة، وتسلطهم القسري على الأمة، وتنكيلهم بالناس بأبشع طرق التعذيب والقتل.
بعد عاشوراء
في المجتمع آنذاك، كان هناك جانب آخر قد أفسدته الأيام، وهو انحراف بعض الشيعة، وقد برز هذا الانحراف بشكل واضح في عاشوراء، يقول المرجع الشيرازي (دام ظله): «لقد سقط في حادثة عاشوراء ويسقط فيها كثيرون، حتى ممن كانوا يُعدون من أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وأول طائفة سقطت في قصة عاشوراء هم أكثر من ألف شخص، دخلوا مع سيد الشهداء (عليه السلام) إلى كربلاء، وكانوا ممن يصلون خلف الإمام، ويقبّلون يديه، ويسألونه عن مسائلهم الشرعية، فكانوا على استقامة في الاعتقاد بالإمام الحسين (عليه السلام) إلى ليلة عاشوراء، إلا أنهم سقطوا في تلك الليلة بخذلانهم الإمام الحسين(ع) وتفرّقهم عنه، لأنهم لم يعاذوا من هذا الافتتان، فأخذوا ينفرطون من حوله جماعات جماعات».
وبعد شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) حامل راية الإسلام برفقة عمته السيدة زينب (عليها السلام )، من خلال خطبه الشريفة في المدن والأماكن المختلفة، خصوصاً في مجلس يزيد بن معاوية, قد ضمن استمرار تلك النهضة المقدسة، وتمكن من فضح يزيد، وكشف زيف فقهاء الدم والدرهم، وأيضاً من إثبات ظلامة أهل البيت (عليهم السلام). يقول الإمام الشيرازي(قده):
«وجّه الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنظار الناس إلى الهدف السامي الذي قام من أجله أبوه الإمام الحسين (عليه السلام)، وضحّى بنفسه وأولاده وأهل بيته وأصحابه الكرام في سبيله، وهو إحياء الإسلام، وأن ليس للإنسان إلا أن يعيش حراً كما خلقه الله، دون أن يستسلم لقهر الطاغية أو يخنع لبطش أنظمة الجور، وأن لا يكون مصير الشعوب بيد حاكم ظالم مستبد».
يقول حذام بن بشير: قدمت الكوفة سنة (61 هـ) عند مجيء عليّ بن الحسين من كربلاء إلى الكوفة، ومعه النسوة وقد أحاطت بهم الجنود، وقد خرج الناس للنظر إليهم، وكانوا على جمال بغير وطاء، فجعلت نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن، ورأيت عليّ بن الحسين قد أنهكته العلّة، وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة إلى عنقه، وهو يقول بصوت ضعيف: «إن هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا، فمن قتلنا؟». وأحاطت الجماهير بالإمام زين العابدين فقال (عليه السلام):
«أيها الناس، ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهود والمواثيق والبيعة، وقاتلتموه؟! فتبّاً لما قدّمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم، بأية عين تنظرون إلى رسول الله إذ يقول لكم: قتلتم عترتي، وانتهكتم حرمتي، فلستم من أُمتي». وبعد أن أعلنوا للإمام طاعتهم، رد الإمام عليهم قائلاً: «هيهات، هيهات، أيها الغَدرة المكرة، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم».
وخطاب الإمام (عليه السلام) هذا يؤكد أن بعض الذين قاتلوا الإمام الحسين (عليه السلام) كانوا من شيعته، وهؤلاء وإن كانوا يدّعون الحب لأهل البيت (عليهم السلام) أو هم فعلاً كانوا يحبونهم، إلا أن ضوابط قانون الحب والانتماء لم تقبل بهم، فجعلتهم من المطرودين، وما أوصل هؤلاء المطرودين إلى هذه العاقبة السيئة هو اتباعهم للشهوات، يقول الإمام الصادق (عليه السلام):
«ليس من شيعتنا مَن قال بلسانه وخالفنا في أعمالنا وآثارنا، ولكن شيعتنا مَن وافقنا بلسانه وقلبه، واتّبع آثارنا وعمل بأعمالنا، أُولئك شيعتنا».
وقال (عليه السلام): «شيعتنا من قدّم ما استحسن، وأمسك ما استقبح، وأظهر الجميل، وسارع بالأمر الجليل، رغبة إلى رحمة الجليل، فذاك منّا وإلينا ومعنا حيثما كنّا».
اضف تعليق