يناديهمُ يومَ الغديرِ نبيُّهم *** بخمٍّ وأسمعْ بالنبيِّ مُناديا
وقد جاءَه جبريلُ عن أمرِ ربِّهِ *** بأنّكَ معصومٌ فلا تكُ وانيا
وبلّغهمُ ما أنزلَ اللهُ ربُّهم *** إليكَ ولا تخشى هناكَ الأعاديا
فقامَ بهِ اذْ ذاكَ رافعَ كفِّهِ *** بكفِّ عليٍّ معلنَ الصوتِ عاليا
فقالَ: فمنْ مولاكمُ ونبيُّكمْ؟ *** فقالوا.., ولم يبدوا هناكَ التعاميا
إلهكَ مولانا.. وأنتَ نبيُّنا *** ولمْ تلقَ مِنَّا في الولايةِ عاصيا
فقالَ له: قُمْ يا عليُّ فإنني *** رضيتُك من بعدي إماماً وهاديا
فمنْ كنتُ مولاهُ فهذا وليُّه *** فكونوا له أتباعَ صدقٍ مواليا
هناكَ دعا: اللهمَّ والِ وليِّه *** وكُنْ للذي عادى علياً مُعاديا
فيا ربِّ فانصرْ ناصريهِ لنصرِه *** إمامَ هدىً كالبدرِ يجلو الدياجيا
من الضروري أن تتوفر في من أراد أن يؤرّخ للأدب العربي أو يحقق فيه وفق المفهوم العام للأدب، الشروط الكاملة التي يجب أن تتوفر في المحقق والشارح والدارس الأمين على التراث، الصريح في طرحه، الغير متزمّت في شرحه، كما يجب أن يكشف الدارس أو المحقق الستر عن كل أقوال وأفعال من يكتب أو يحقق عنه ولا يحذف منها، ولا يغطيها بظلال تخفي معالمها أو يزوّق لها مبررات وتمويهات تحرفها عن مقاصدها، فالأمانة الأدبية تُحتّم على كل من يريد طبع أو نشر أو تحقيق أي كتاب أو ديوان قديم أن لا يتصرف فيه بزيادة أو نقصان، إضافة إلى توفر الشروط الأخرى التي لا نريد هنا التوسّع فيها وبيانها فهي كثيرة وتحتاج إلى موضوع مفصّل وما يهمنا هنا هو بيان أهم هذه الشروط وهو الأمانة الأدبية لصلته بالموضوع.
عند ملاحظة الدارس لتاريخ الأدب العربي يجد أن أغلب المؤرخين والمحققين وفي جميع العصور قد جعلوا الأدب ظلاً لسياسة ذلك العصر، وإن السياسة كان لها دور كبير في إسقاط وتهميش الكثير منه، وبسبب هذه التبعية فقد ظلت في تاريخنا الأدبي العام مناطق كثيرة لم تصلها الدراسة بسبب تعارضها مع سياسة السلطة، فأصابها الكثير من التعتيم والتشويه والتزوير فبقيت من دون اهتمام من قبل مؤرخي السلطة على مدى التاريخ في حين أُبرز ما هو أقل أهمية منها وأعطي ما لا يستحق من الثناء.
لقد كبّلت الرقابة السياسية التاريخ الأدبي بقوانينها المجحفة وحاصرته بتأثير العوامل الرقابية، ولعل أفجع ما مُني به تاريخنا الأدبي وتراثنا الفكري هو عدم توفر الأمانة الأدبية في النقل، ولسنا في حاجة إلى القول إن الأمانة في النقل هي من أهم سمات المحافظة على التراث الديني والإنساني ومن أهم الصفات التي يجب أن تتوفر في المؤرخ والمحقق، فهذا من البديهيات، فالنقل (الأمين) للتاريخ الأدبي يشارك إلى حد بعيد في دراسة الواقع الاجتماعي والانساني للتأريخ، ويشخص طبيعة العلاقات وأشكال القيم التي كانت تسود تلك المجتمعات إلى جانب إبراز المفاهيم والحقائق التاريخية كما هي.
لذا كان على المحقق أو الشارح أن ينقل الأمانة كاملة ولا يترك شاردة أو واردة حتى ولو كان ما ينقله يتعارض مع توجّهاته، فالأمانة الأدبية لا تسمح بترك أو إسقاط قصيدة أو أبيات من ديوان شاعر لأنها لا تتلاءم مع توجّهات المحقق أو الشارح المذهبية، بل تقتضي له أن يقوم بذكرها وتحقيقها كما هي بدون إسقاط أو ترك، وأن يقوم بشرح ما أراد الشاعر بدون لبس أو تمويه، ولا تقوده أهواؤه العصبية والمذهبية إلى مجانبة الحقيقة وتهميشها و إبعادها عن مقصدها.
محاولات الاخفاء والتحريف
يستطيع القارئ هنا أن يستدل على المصادر الكثيرة والمعتبرة من السنة والشيعة التي ذكرها الشيخ عبد الحسين الأميني في موسوعته (الغدير) والتي روت أبيات حسان بن ثابت هذه في حادثة الغدير، ومع ذلك فإن القارئ يفاجأ حينما يجد أن ديوان حسان قد خلا منها، والأعجب من ذلك هو الجنف الذي أستبد ببعض المحققين والتعصّب الأعمى الذي أضلهم فحرفوا الحقائق التاريخية عن مجراها كما جرى لمحقق ديوان أبي تمام حينما قال عن حادثة الغدير بأنها واقعة جرت بين المسلمين والكفار!!! ومثل هذا الحال ينطبق على الكثير من المحققين والشراح لا يسع المجال لذكرهم.
كانت هذه من المحاولات الفاشلة التي دلت على مبلغ ما وصل إليه هؤلاء من الانحدار والاستخفاف بعقولهم قبل عقول الناس، ولنا أن نسأل الدارسين والمحققين والكتاب والمؤرخين وكل من له إلمام بتاريخنا الإسلامي: هل سمعتم بغزوة للرسول (صلى الله عليه وآله) اسمها (الغدير) !!
هكذا يقول الدكتور (إبراهيم ملحم الأسود) الذي حقق ديوان الشاعر العباسي أبي تمام (حبيب بن أوس الطائي) طبعة بيروت (1928) !!! ونقل قوله الشيخ الأميني فعندما يصل ملحم إلى قصيدة في مدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لأبي تمام يقول فيها:
أخوه إذا عُدَّ الفخارُ وصهرُه *** فلا مثله أخٌ ولا مثله صهرُ
وشُدَّ به أزرَ النبيِّ محمدٍ *** كما شُدَّ من موسى بهارونهِ الإزرُ
وما زال كشّافاً دياجيرَ غمرةٍ *** يمزِّقها عن وجههِ الفتحُ والنصرُ
هو السيفُ سيفُ اللهِ في كل مشهدٍ *** وسيفُ الرسولِ لا ددانٍ ولا دثرٍ
فأيِّ يدٍ للذمِ لم يبرَ زندُها *** ووجهُ ضلالٍ ليس فيه له أثرُ
ثوى ولأهلِ الدينِ أمنٌ بحدهِ *** وللواصمينَ الدين في حدهِ ذعرُ
يسدُّ به الثغرَ المخوفَ من الردى *** ويعتاضُ من أرضِ العدوِ به الثغرُ
بأحدٍ وبدرٍ حين ماجَ برجلهِ *** وفرسانُه أحدٌ وماجَ بهمْ بدرُ
ويومَ حنينٍ والنضيرِ وخيبرٍ *** وبالخندقِ الثاوي بعقوتهِ عمرو
سما للمنايا الحمرِ حتى تكشّفتْ *** وأسيافُه حمرٌ وأرماحُه حمرُ
مشاهد كان الله كاشفُ كربها *** وفارجه والأمر ملتبسٌ إمرُ
و(يوم الغدير) استوضحَ الحقَ أهلُه *** بضحيآء لا فيها حجابٌ ولا سترُ
أقام رسولُ اللهِ يدعوهم بها *** ليقربهم عرفٌ وينآهم نكرُ
يمد بضبعيه ويعلم أنّه *** وليٌّ ومولاكم فهل لكمُ خُبْر؟!
يقول الدكتور إبراهيم ملحم الأسود عند وصوله إلى (يوم الغدير) في قصيدة أبي تمام: (يوم الغدير واقعة حرب معروفة) !!!!! إذن فهي معروفة أيضاً أيها (الدكتور) !!
ثم يبدأ هذا (الدكتور) العبقري بشرح أبيات أبي تمام حول هذه (واقعة الحرب المعروفة) بقوله:
(يمد بضبعيه ويعلم أنه ......... ما يكشف عن أنها كانت من المغازي النبوية ومدّ بضبعيه يساعده وينصره والهاء راجعة إلى الإمام علي، أي: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينصره) ؟
جيد يا (دكتور) ولكن ليتك أفدتنا بمعلوماتك (القيمة) وعرفتنا متى كانت هذه الواقعة من (المغازي النبوية) ؟ وضد من ؟
جواب الشيخ الأميني
نترك الحديث لشيخنا الجليل الشيخ عبد الحسين الأميني (قدس سره) للإجابة على هذا (الدكتور)، يقول الأميني: (ألا مسائلٌ هذا الرجل عن مصدر هذه الفتوى المجردة ؟! أهل وجد هاتيك الغزوة في شيء من السير النبوية ؟! أو نص عليها أحد من أئمة التاريخ ؟! أم أن تلك الحرب الزبون وحدها قد توسع بنقلها المتوسّعون من نقله الحديث ؟! دع ذلك كله هل وجد قصّاصاً يقصّها ؟! أو شاعر يصورها بخياله ؟!.
ألا من يسائله عن أن هذه الغزوة متى زيدت على الغزوات النبوية المحدودة ؟! المعلومة بكمّها وكيفها، المدوّنة أطوارها وشؤونها، وليس فيها غزوة يوم الغدير، متى زيدت هذه على ذلك العدد الثابت بواحده ؟! فكان فيها علي والنبي يتناصران، ويعضد كل صاحبه، ويدفع كل عن الآخر كما يحسبه هذا الكاتب.
وإنك لتجد الكاتب عيّاً ـ إي عاجزاً ـ عن جواب هذه الأسئلة لكنه حبذت له بواعثه أن يستر حقيقة الغدير بذيل أمانته، وهو يحسب أنه لا يقف على ذلك التعليق إلا الدهماء، أو أن البحاثة يمرون عليه كراماً، لكن المحافظة على حقيقة دينية أولى من التحفظ على اعتبار هذا الكاتب الذي يكتب ولا يبالي بما يكتب، ويرى الكذب حقيقة راهنة).
قدس الله سرك الشريف يا شيخنا الأميني الفذ ورحم روحك الطاهرة وأنت تفحم هذا (الدكتور) بهذه الأسئلة المفحمة، ولكن كم من أمثال هذا (الدكتور) من يتصدّر القنوات الفضائية التي تحرف الحقائق وتحرض على الشيعة الآن ؟ كم من أمثال هذا (الدكتور) من يدير المواقع الالكترونية التي تدسّ وتدلّس بحقائق التاريخ ؟
فكم نحتاجك الآن يا شيخنا الأميني ونحن نرى ونسمع (دكاترة) التزييف والتدليس وهم يوغلون تلويثاً وتحريفاً وتزييفاً وتدليساً بتاريخنا ؟ كم نحتاجك الآن ونحن نسمع التهم الباطلة والادعاءات الكاذبة وهي تُلصق برموزنا الدينية والعلمية والفكرية والتاريخية ؟ نقول لا إله إلا الله وحسبنا الله ونعم الوكيل ..
مهزلة أخرى
وهذه (مهزلة) أخرى تلحق بالمهازل الكثيرة التي ألحقها أمثال الدكتور ملحم بتاريخنا الإسلامي ننقلها من موسوعة الغدير أيضاً، فقد روى الأميني في شعراء القرن الأول أبيات أمير المؤمنين (عليه السلام) والتي أرسلها إلى معاوية وهي:
محمدٌ النبيّ أخي وصنوي *** وحمزةُ سيّد الشهداء عمي
وجعفرٌ الذي يضحي ويمسي *** يطيرُ مع الملائكة ابن أمي
وبنتُ محمدٍ سكني وعرسي *** منوطٌ لحمُها بدمي ولحمي
وسبطا أحمدٍ ولدايَ منها *** فأيّكم له سهمٌ كسهمي
سبقتكمُ إلى الاسلامِ طُرَّاً *** على ما كان من فهمي وعلمي
فأوجبَ لي ولايته عليكم *** رسول الله يومَ (غديرِ خُمِّ)
فويلٌ ثم ويلٌ ثم ويلٌ *** لمن يلقى الإله غداً بظلمي
فلما قرأ معاوية هذا الشعر قال: اخفوا هذا الكتاب لا يقرأه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالب.
وقد روى الأبيات (11) من أعلام الشيعة في أصح المصادر منهم: الكراجكي، والنيسابوري، والطبرسي، وابن شهر آشوب، والمجلسي، كما رواها (26) من علماء السنة في المصادر المعتبرة أبرزهم: البيهقي، وياقوت الحموي، وسبط ابن الجوزي الحنفي، والكنجي، الشافعي، وأبو إسحاق الحموي، وأبو الفداء اسماعيل ابن كثير، وابن الصباغ المكي المالكي، وابن حجر العسقلاني، والمتقي الهندي، والحلبي الشافعي، والشبراوي الشافعي شيخ جامع الأزهر، والسيد محمود الآلوسي البغدادي، والقندوزي الحنفي، وأحمد زيني دحلان، والشنقيطي المالكي وغيرهم.
ثم يأتي من يلتزم بوصية معاوية في إخفاء هذه الأبيات ولكنه لا يستطيع إخفاءها لتواترها في المصادر فيعمد إلى تحريفها! وتحديداً عندما يصل إلى لفظة (الغدير) فإنه يحذفها من البيت كما في تعليقه على (معجم الأدباء) (ط مصر 1357 هـ ج 14 ص 48) من شعر أمير المؤمنين (عليه السلام) فينقله بهذا اللفظ:
وأوجبَ طاعتي فرضاً عليكم *** رسولُ اللهِ يوم غدا برحمي
وهذا المحرّف هو (دكتور) أيضاً وهو (الدكتور) أحمد رفاعي ذلك الأستاذ (الفذ) الذي جعل من قوله هذا أضحوكة من خلال تحريفه لهذا البيت فجعله ركيكا وغير متناسق، ثم من المستحيل أن يصدق القارئ أن سيد البلغاء والمتكلمين يجعل من كونه ابن عم النبي وجوباً لطاعته وإلا لكان ادعاها ابن عباس وغيره من أولاد عمومة النبي، ثم يرسم لهذا القول هذه الصورة الركيكة في الكلمات الثلاثة الأخيرة من البيت، وكان من الأولى (للدكتور) أن يستعين بشاعر لكي يجعل الألفاظ متناسقة أكثر، ولو استعان بشاعر لما وجد الشاعر غير لفظة (غدير خم) لتتناسق مع المعنى وتكمل الصورة.
والعجيب أنه جعل للكتاب فهرس البلدان والبقاع والمياه في (47) صحيفة وأهمل فيها غدير خم!! وقد ذكرت في عدة مواضع من المعجم فهل خفي على هؤلاء (الدكاترة) موضع الغدير في هذا اليوم أم أخفاه التعصب وقد أشار بعضهم إلى الأماكن التي عاشت فيها الأمم البائدة في القرون الغابرة كقوم عاد وثمود ولوط.
الغدير والشعر
كانت أبيات حسان بن ثابت التي ذكرناها في بداية الموضوع هي أول شعر قيل في حادثة وحديث الغدير الذي كان بعد رجوع النبي من حجة الوداع فنزل عليه جبرائيل (عليه السلام) بأمر الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)، فأقام النبي عليا خليفة من بعده بقوله (صلى الله عليه وآله): (من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله)، ثم أمر المسلمين بالبيعة له فبايعوه كلهم، عندها رفع حسان بن ثابت صوته وهو يدوّن ما جرى في ذلك اليوم بحضور النبي (صلى الله عليه وآله)، وأمام أكثر من مائة ألف من المسلمين حتى بارك قوله هذا النبي بقوله: (لا تزال يا حسان مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك)، ثم نزل قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) فتم الدين بولاية أمير المؤمنين في ذلك اليوم الذي أصبح ينبوعاً دافقاً بالعطاء فلم تتوقف مسيرة الشعر والشعراء منذ تلك اللحظة وحتى هذا اليوم.
لقد واكب الشعر العربي وغيره حديث الغدير مسجلاً أحداثه موثقاً تفاصيله فكان له دور كبير في رفد الكتب والدراسات التي اعتمدت عليه كمادة تاريخية إضافة إلى النصوص الشرعية والحقائق العلمية في الاستدلال على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)، والمطالع لهذا الشعر المخصص لهذا الموضوع يجد المساحة الكبيرة والحيز الواسع الذي احتلته هذه الحادثة أو (الحديث) في الشعر العربي على مدى التاريخ الإسلامي، ولا يسع الباحث في هذا الموضوع إلا الإشادة بالجهد العظيم الذي بذله العلامة الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي في كتابه الخالد (الغدير في الكتاب والسنة والأدب) في الاهتمام بالشعر والاعتماد عليه وجعله ركناً أساساً في موسوعته الخالدة بعد القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة بوصفه وثيقة تاريخية كبرى.
حقيقة أن المرء ليقف إجلالاً لهذا العمل الجبار الذي بذله الأميني في استقصاء شعراء الغدير وجمع أكبر عدد منهم حيث يدهش القارئ بمعرفته بالشعر حتى ليظن أنه لم يهتم في حياته بسوى الأدب فهو يبدأ رحلته مع الشعر في كتابه من الجزء الثاني فيبين منزلته في الإسلام من خلال استعراض موقف النبي (صلى الله عليه وآله) وتشجيعه لحركة الشعر المؤيد للعقيدة ثم يستعرض شعراء الغدير منذ القرن الأول معتمداً التحليل النقدي في دراسة الشعر موضحاً دلالته على الحديث أو الحادثة أو ما يشير اليها، وقد أحصى أكثر من مئة شاعر من شعراء العربية على مدى ثلاثة عشر قرناً، ويستطيع القارئ من خلال هذه التراجم لهؤلاء الشعراء أن يستدل على الثراء العلمي والأدبي الذي يتمتع به المؤلف. فلو تناول المؤلف المصادر الأدبية فقط وهي الأشعار التي قيلت في الغدير لكفى دليلاً وبرهاناً لإقناع من أراد أن يهتدي الى طريق الحق فكيف وقد عضد كتابه بالنصوص القرآنية والأحاديث الشريفة والمصادر التاريخية والأدلة العقلية والنقلية لإثبات حديث الغدير.
لقد انطلق المؤلف من أساس علمي ومسلمات شرعية يقينية في النص الإلهي لعلي بن أبي طالب، فحادثة الغدير أمر تشريعي من الله للرسول (ص) ليوقف أمته على وليها بعده. أن الجهود الجبارة التي بذلها المؤلف تدل على علميته الواسعة ومداركه العلمية والأدبية الفذة فالمادة التاريخية التي جمعها المؤلف - رحمه الله- في أسفاره كانت ضخمة ومتنوعة وقد بذل قصارى جهده في الحصول عليها حتى اخرج كتابه كنزاً من كنوز المكتبة الإسلامية والعربية، ولعل لدراسته في النجف الأشرف العلوم الفقهية وما ارتبط بها من دراسة علمية وبحثية قد زادت من تضلعه في آداب اللغة والشعر وعلومهما وصقل شخصيته الفكرية والأدبية والعلمية.
شعراء الغدير
الشعر جزء لا يتجزأ من تاريخنا العربي والإسلامي وقد واكب الشعر العربي أحداث الإسلام منذ بدء الدعوة المحمدية الشريفة مسجلاً أحداثها موثقاً تفاصيلها فكان له دور كبير في نشر الأفكار والمبادئ الإسلامية وأهدافها وقد شجع النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرون (عليهم السلام) الشعراء الذين انتصروا للحق والحقيقة ودافعوا عن روح الإسلام بشعرهم ومن هذا المنطلق فقد تتبع الشيخ الأميني شعراء الغدير حسب القرون فجمع ترجمة أكثر من مائة شاعر من قمم الشعر العربي الذين تزعموا الشعر في وقتهم من القرن الأول وحتى القرن الثاني عشر وهم:
أبو الوليد حسان بن ثابت (ت55هـ)، قيس بن سعد بن عبادة الخزرجي (ت59هـ)، أبو المستهل الكميت بن زيد الأسدي (ت126هـ)، إسماعيل بن محمد الملقب بـ السيد الحميري (ت173هـ)، سفيان بن مصعب العبدي المعاصر للسيد الحميري، أبو تمام حبيب بن أوس الطائي (ت231هـ)، دعبل الخزاعي (ت246هـ)، محمد بن علي العلوي، بقراط بن أشواط الوامق، ابن الرومي (ت 283هـ)، علي بن محمد المعروف بالأفوه الحماني (ت301هـ)، محمد بن أحمد المعروف بـ ابن طباطبا الأصبهاني (ت322هـ)، أحمد بن علوية الأصفهاني المعروف بـ ابن الأسود الكاتب (ت320هـ)، أحمد بن محمد بن الحسن الصنوبري (ت334هـ)، علي بن محمد المعروف بـ أبي القاسم التنوخي (ت342هـ)، علي بن إسحاق الزاهي (ت352هـ)، أبو فراس الحمداني (ت357هـ)، محمود بن محمد المعروف بـ كشاجم (ت360هـ)، علي بن عبد الله المعروف بـ الناشئ الصغير (ت365هـ)، الصاحب بن عباد (ت385هـ)، علي بن أحمد الجرجاني (ت380هـ)، الحسين بن الحجاج البغدادي (ت391هـ)، أحمد بن إبراهيم الضبي (ت398هـ)، أبو حامد الإنطاكي (ت399هـ)، محمد بن إبراهيم المعروف بـ أبو العلاء السروي، طلحة بن عبيد الله الغساني العوني، علي بن حماد العدوي العبدي، أبو الفرج الرازي، جعفر بن الحسين، شداد بن إبراهيم الملقب بـ الطاهر (ت401هـ)، الشريف الرضي (ت406هـ)، الحسين بن محمد الصوري (ت419هـ)، مهيار بن مرزويه الديلمي (ت428هـ)، الشريف المرتضى (ت426هـ)، أبو علي الحسن بن المظفر النيسابوري (ت442هـ)، أبو العلاء المعري (ت449هـ)، هبة الله بن موسى المؤيد في الدين (ت470هـ)، الجبري المصري (ت487هـ)، علي بن أحمد الفنجكردي (ت513هـ)، أحمد بن منير الطرابلسي (ت548هـ)، أبو الفتح جلال الدين بن قادوس (ت551هـ)، الملك الصالح طلائع بن رزيك (ت556هـ)، أبو المعالي سالم بن علي المعروف بـ ابن العودي النيلي (ت558هـ)، عبد العزيز بن الحسين المعروف بـ القاضي الجليس (ت561هـ)، سعيد بن أحمد بن مكي النيلي (ت565هـ)، الحافظ موفق بن أحمد المعروف بـ أخطب خوارزم (ت568هـ)، الفقيه نجم الدين أبو محمد عمارة اليمني (ت569هـ)، السيد محمد بن علي الأقساسي (ت575هـ)، قطب الدين الراوندي (ت573هـ)، أبو الفتح محمد بن عبيد الله المعروف بـ سبط ابن التعاويذي (ت584هـ)، المنصور بالله عبد الله بن حمزة (ت614هـ)، مجد الدين محمد بن منصور بن جميل (ت616هـ)، يوسف بن إسماعيل المعروف بـ الشواء الحلبي (ت653هـ)، كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي (ت652هـ)، المنصور بالله الحسن بن محمد اليمني (ت670هـ)، يحيى بن عبد العظيم الجزار المصري (ت672هـ)، قاضي القضاة نظام الدين ابن إسحاق بن المظفر الأصبهاني (ت678هـ)، شمس الدين محفوظ بن محمود بن وشاح الأسدي الحلي (ت690هـ)، بهاء الدين الأربلي (ت692هـ)، الحسن بن علي بن داود المعروف بـ (تقي الدين الحلي (ت741هـ)، علي بن عبد العزيز المعروف بـ جمال الدين الخليعي (ت750هـ)، السيد عبد العزيز بن محمد الحسيني البصري المعروف بـ السريجي الأوالي، عبد العزيز بن سرايا المعروف بـ صفي الدين الحلي (752هـ)، محمد بن أحمد الشيباني المعروف بـ الإمام الشافعي (ت777هـ)، شمس الدين المالكي الأندلسي (ت780هـ)، علاء الدين الشفهيني، ابن العرندس الحلي (ت840هـ)، مغامس بن داغر الحلي، الحافظ رجب البرسي (ت813هـ)، السيد جمال بن ضياء الدين الهادي إبراهيم (ت822هـ)، الشيخ حسن آل عبد الكريم المخزومي، الشيخ الكفعمي (ت950هـ)، حسين بن عبد الصمد الحارثي العاملي الجبعي (والد الشيخ البهائي) (ت984هـ)، داود بن محمد المعروف بـ ابن شافين البحراني (ت1001هـ)، بهاء الدين العاملي (ت1031هـ)، محمد بن علي الحرفوشي العاملي (ت1059هـ)، السيد نور الدين الجبعي (ت1068هـ)، الكركي العاملي (ت1076هـ)، القاضي شرف الدين اليمني (ت1079هـ)، السيد أحمد بن حمد الحسني الانسي اليمني (ت1079هـ)، شهاب بن أحمد الموسوي الحويزي (ت1087هـ)، علي خان المشعشعي الحويزي (1088هـ)، جعفر بن المطهر الحسني اليمني (ت1096هـ)، محمد طاهر بن محمد حسين القمي (ت1098هـ)، القاضي جمال الدين محمد بن حسن المكي (ت1012هـ)، أبو محمد ابن الشيخ صنعان، الحر العاملي (ت1104هـ)، أحمد بن حاجي البلادي، شمس الأدب اليمني (ت1119هـ)، صدر الدين الشيرازي (ت1120هـ)، عبد الرضا المقرئ، محمد بن محمد محسن بن مرتضى الكاشاني، علي العاملي الغروي، مسيحا الفسوي (ت1127هـ)، محمد علي بن بشرة الغروي (ت1038هـ)، إبراهيم بن علي البلادي البحراني، عبد الله بن محمد بن الحسين الشويكي الخطي، السيد حسين رشيد الرضوي، بدر الدين محمد بن الحسين الصنعاني اليمني (ت1063هـ).
الأسماء المخفية
هذه الأسماء التي تمثل قمم وأعمدة الشعر العربي عبر قرونه الطوال ذكرها الشيخ الأميني مع مئات القصائد الغديرية، ولكن هناك مؤشرات واضحة ودلائل تؤكد على هناك بقية لهذه الأسماء من القمم قد ضمت حادثة الغدير إلى شعرها ولكن يد السياسة قد أخفته، يقول السيد جواد شبر في موسوعته الخالدة (أدب الطف) (ج3ص7) مشيراً إلى جناية يد التعصب بحق الأدب الشيعي: (إن الكثير من تراثنا الأدبي ضاع وأهمل، وغطت عليه يد العصبية في الأعصر الأموية وتوابعها في عصور الجهل والعقلية المتحجرة). ثم يسوق شبّر بعض الأمثلة على ضياع الشعر الشيعي وتضييعه وإخفائه من قبل السلطات المعادية لأهل البيت (عليهم السلام)، وماجناه المؤرخون على الشعر الشيعي في إخفائه. ويذكر بعض الشعراء ومنهم المتنبي.
هذا التساؤل من قبل السيد جواد شبر يدعونا إلى البحث والاستقصاء عن شعر هؤلاء الشعراء الذين ذكرهم وهم من شعراء الشيعة كما دل على ذلك شعرهم، وكما دلت التواريخ على ضياع الكثير من الشعر الشيعي لهم ولغيرهم، والأمثلة على ذلك كثيرة لا تحصى.
فهل صحيح إن المتنبي اكتفى بمدحه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ببيتين فقط ؟ وهما:
وتركتُ مدحي للوصيِّ تعمُّداً *** إذ كان نوراً مستطيلاً شاملا
وإذا استقلَّ الشيءُ قامَ بنفسهِ *** وصفاءُ ضوءِ الشمسِ يذهبُ باطلا
وإذا كان كذلك فلم انفرد الواحدي بذكرهما في شرحه ؟ ولم لم ينقلهما البرقوقي ؟ ولكي لا يتحامل علينا الغير فإننا نقول لهم بأنه ليس كتاب الشيعة فقط من قالوا بضياع شعر المتنبي وغيره من شعراء الشيعة فهذا الدكتور علي شلق (وهو من أهل السنة) له نفس الرأي في كتابه: (المتنبي شاعر ألفاظه تتوهج فرسانا) حيث يقول في (ص14): (للمتنبي قصائد ضاعت، لكن ما بقي منها....)، كما ذكر بروكلمان في (تاريخ الأدب العربي): (أن الشيخ عبد العزيز الميمني الراجكوتي الأثري الهندي أحصى في رسالة جميع أشعار المتنبي التي لا توجد في ديوانه جمعها في أربع نسخ خطية من الديوان أهمها نسخة الشيخ حبيب الرحمن خان الشرواتي ومن طبعتين قديمتين من الديوان سنة (1257هـ وسنة 1261هـ) ومن سواهما).
ورغم أن البرقوقي قد اطلع على هذه النسخ وتأكد له أنها للمتنبي إلا أنه لم يضفها إلى ديوانه حيث يقول في تعليقه عليها: (إنها تبوح بروح المتنبي، لكنني بعد الإطلاع عليها، لم أستطع إلى الإطمئنان بصددها سبيلا)!!!
ومن الطبيعي أن القارئ سيعرف لِمَ لم يستطع البرقوقي الإطمئنان بصددها سبيلا رغم (أنها وجدت في رحله بعد وفاته) كما يعترف هو بذلك!! فبالتأكيد إنه وجد فيها ما لا يتلاءم مع هواه في عقيدة المتنبي الشيعية، ولكن رغم ذلك فإننا نستطيع أن نضم المتنبي إلى شعراء الغدير بالبيتين الذين ذكرهما الواحدي وبهذين البيتين الذين يطلق فيها لقب الوصي على أمير المؤمنين وهو ما عرف به شعراء الشيعة حيث يقول في مدح أحد العلويين:
هو ابن رسولِ اللهِ وابن وصيهِ *** وشبههما شبّهت بعد التجاربِ
فحييتَ خير ابن لخيرِ أبٍ بها *** لأشرفِ بيتٍ من لؤيِّ بن غالبِ
المسيرة الأزلية
ولا تنتهي مسيرة الشعراء الذين نهلوا من الغدير عند هذه الأسماء التي دونها الشيخ الأميني وذكر أشعارها في الغدير ومكانتها في عالم الشعر فقد تابعه في منهجه السيدان رسول كاظم عبد السادة وكريم جهاد الحساني فجمعا ما فات الشيخ الأميني من شعر الغدير وما كتب منه بعد وفاته (قدس روحه الشريفة) في كتاب ضم أسماء كثيرة من الشعراء تعطر شعرهم بنفائح الغدير وقد أسميا الكتاب (موسوعة شعراء الغدير المستدرك على كتاب الغدير للشيخ الاميني) وقد ضم الكتاب سبعة أجزاء ونشرته العتبة العلوية المقدسة عام (2010)، ولا يزال الغدير يروي شفاه الشعراء ولا يزال يتسلسل في شعراء لم يولدوا بعد.
اضف تعليق