من الفرق المنحرفة والتيارات الفاسدة التي انتشرت في عصر الإمام الجواد (عليه السلام) وما قبله الغلو بأهل البيت (عليهم السلام)، وقد وقف الأئمة من أهل البيت الأطهار (عليهم السلام) بالمرصاد للمغالين فيهم، فردوهم وأفحموهم بالحجة والبرهان، وأمروا أتباعهم وأصحابهم بالابتعاد عنهم واجتنابهم.
وقد سار الإمام محمد الجواد (عليه السلام) على نهج آبائه في هذه المسألة، وكان حذراً من نشأة بذور الغلو، كما يظهر ذلك من خلال ترصده لبعض الممارسات، وحازماً ضد من يتبنى فكر الغلاة وعقائدهم.
ومن الأدلة على هذا الأمر، ما ذكره المؤرخون: فعن الحسين بن محمد الأشعري قال:
حدثني شيخ من أصحابنا يقال له عبدالله بن رزين قال: كنت مجاوراً بالمدينة، مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) وكان أبو جعفر (عليه السلام) يجيء في كل يوم مع الزوال إلى المسجد فينزل إلى الصخرة ويمر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليه، ويرجع إلى بيت فاطمة ويخلع نعله فيقوم فيصلي، فوسوس إليَّ الشيطان فقال: إذا نزل فاذهب حتى تأخذ من التراب الذي يطأ عليه فجلست في ذلك اليوم أنتظره لأفعل هذا.
فلما أن كان في وقت الزوال أقبل (عليه السلام) على حمار له، فلم ينزل في الموضع الذي كان ينزل فيه، فجازه حتى نزل على الصخرة التي كانت على باب المسجد، ثم دخل فسلم على رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم رجع إلى مكانه الذي كان يصلي فيه، ففعل ذلك أياماً.
فقلت: إذا خلع نعليه جئت فأخذت الحصا الذي يطأ عليه بقدميه.
فلما كان من الغد، جاء عند الزوال فنزل على الصخرة، ثم دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وجاء إلى الموضع الذي كان يصلي فيه ولم يخلعهما، ففعل ذلك أياماً.
فقلت في نفسي: لم يتهيأ لي ههنا ولكن أذهب إلى الحمام، فإذا دخل الحمام آخذ من التراب الذي يطأ عليه.
فلما دخل (عليه السلام) الحمام، دخل في المسلخ بالحمار، ونزل على الحصير، فقلت للحمامي في ذلك فقال: والله ما فعل هذا قط إلا في هذا اليوم فانتظرته، فلما خرج دعا بالحمار فأُدخل المسلخ، وركبه فوق الحصير وخرج، فقلت: والله آذيته ولا أعود أروم ما رمت منه أبداً، فلما كان وقت الزوال نزل في الموضع الذي كان ينزل فيه، قام يصلي[1] .
وبالإضافة لهذه القصة التي تشير إلى النهي العملي عن الغلو، فإن الإمام الجواد (عليه السلام) كان يذم الغلاة ويلعنهم ويحذر الأمة منهم، فعن إسحاق الأنباري، قال أبو جعفر الثاني (عليه السلام):
«ما فعل أبو السمهري (لعنه الله) يكذب علينا، ويزعم أنه وابن أبي الزرقاء دعاة إلينا، أشهدكم أني أتبرأ إلى الله جل جلاله منهما، أنهما فتانان يفتنان الناس»[2] .
وفي رواية أخرى يحذر الإمام الجواد (عليه السلام) من دعاة الغلو في أهل البيت، ويلعنهم ويأمر أصحابه بلعنهم، فقد روى علي بن مهزيار قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول -وقد ذكر عنده أبو الخطاب-: «لعن الله أبا الخطاب (إلى أن قال) هذا أبو الغمر وحفص بن واقد وهاشم بن أبي هاشم استأكلوا بنا الناس، وصاروا دعاة يدعون الناس إلى ما دعا إليه أبو الخطاب لعنه الله ولعنهم معه ولعن من قبل ذلك منهم، يا علي لا تتحرجن من لعنهم (لعنهم الله) فإن الله قد لعنهم؛ ثم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : من تأثم أن يلعن من لعنه الله فعليه لعنة الله»[3] .
وقد كان خطر الغلاة شديداً، لأنهم يضللون الناس عن الحق، وكانوا يُزوِرون الروايات عن الأئمة ويضلون بها الشيعة في مختلف البلدان، لذلك كان موقف الإمام الجواد (عليه السلام) حازماً ضدهم، داعياً إلى مقاطعتهم، واجتنابهم، ولعنهم لأنهم يمثلون رأس الفتنة، ومنبع الانحراف العقائدي والفكري.
وقد أشار العلامة السيد هبة الدين الشهرستاني إلى بلاء الغلاة من جهة تمسكهم بالأحاديث والروايات بظاهرها بخلاف المقصود منها، إذ يقول (رحمه الله):
«إن بلاء الظاهرية وأعني بهم الغلاة المتمسكين بالظواهر المأثورة ليس على الدين والمسلمين بأقل من بلاء الباطنية وأعني بهم الغلاة في التمسك ببواطن الآثار واعتبارهم ظواهر النقل العرفية قشوراً، وما هؤلاء وأولئك سوى طرفي إفراط وتفريط في الحقيقة، وأحرى بهم أن يعدلوا عن تطرفهم ويسلكوا مذهب التوسط والاعتدال، فإن للقرآن والحديث ظواهر مقصودة عند التخاطب مثل: ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾[4] و﴿أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾[5] إلى آخره مجمعاً عليها بالضرورة.
كما أن في القرآن والحديث ألفاظاً لا يراد منها معانيها اللغوية الأصلية المبذولة، وإنما قصد منها معان عرفية يتقبلها عرف التخاطب على سبيل التجوز والتشبيه كآية: ﴿يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم﴾[6] وحديث: «الحجر الأسود يمين الله في أرضه»[7] فلا ترى العقلاء إلا مجتمعين على صرف هذه الألفاظ عن مفاهيمها اللغوية الأصلية إلى معان تمثيلية رائجة الاستعمال في محاورات العرف من كل أمة»[8] .
فالغلاة أقسام ودرجات، كلهم في النتيجة واحد، فهم قد خالفوا الطريق المستقيم، وابتعدوا عن تعاليم أهل البيت، وانحرفوا عن جادة الصواب. لذلك حذر الأئمة منهم، وأمروا شيعتهم بمقاطعتهم وعدم مؤاكلتهم ومجالستهم، وعدم جواز الصلاة خلفهم؛ بل ولعنهم والتبرؤ منهم، وذلك لشدة خطرهم على الإسلام، وتشويه مدرسة أهل البيت ونهجهم وفكرهم الأصيل.
اضف تعليق