عندما يخرج تقييم الاشياء من معيار العقل والحكمة يدخل بالضرورة الى معيار التطرّف والمبالغة فتكون النتيجة، جملة من الاستنتاجات غير المتوافقة مع فطرة الانسان وسنن الله –تعالى- في الحياة.
هذا المنحى من التفكير الذي يضرب بجذوره في تكوين الانسان، أخذ مسمّيات عدّة عبر التاريخ الانساني حتى وصل الى عصرنا الحاضر فاكتسى مصطلح "التطرّف" مختصّاً بمسائل العقيدة والرأي، فكان التطرف السياسي والتطرف الديني والتطرف الفكري، بيد ان الانسان ابتلي بما هو أخطر من هذا الداء، ألا وهو "الغلو" الذي أشار اليه القرآن الكريم في آيات عدّة تبين شمولية المصطلح لدلالات ذات تأثير على فكر وحياة الانسان والأمم، كونه لا يعبر عن مشكلة ذهنية بين الانسان ونفسه، إنما بين الانسان و انسان آخر في كثير من الاحيان، فكان اليهود ومن بعدهم المسيحيون أول من ارتكب هذا الخطأ في التاريخ البشري، وقد فضح القرآن الكريم في سورة المائدة التي يصفها أحد أبرز المفكرين الاسلاميين بأنها "سورة الحضارة"، بطلان معيار الغلو وأنه منحى لغير الحق: {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق...}.
لماذا الغلو؟
المبالغة في الحب إزاء الآخر يخلق "الغلو" المأخوذ لغوياً من "الغلاء" وارتفاع ثمن الشيء، فالمغالي في الشيء هو من قيمه بمثن عالٍ فهو مغالٍ فيه.
ولكن؛ السؤال الجوهري هنا؛ هل حقاً كل أولئك المغالين في الرموز الدينية ينطلقون من الحب والولاء والايمان؟
وهل إن اليهود الذين {...قالوا عزيرٌ ابن الله}، والمسيحيون الذين جعلوا نبيهم عيسى، عليه السلام، في مقام الربوبية، كانوا في قمة الحب والايمان بنبيهم وارادوا التعبير عن ذلك بهذا النمط من التفكير؟
وهذا السؤال ينسحب ايضاً على الغلاة في التاريخ الاسلامي، منذ أول ظهور لهم في عهد الامام علي، عليه السلام، ثم ظهروا مرة ثانية في عهد الامام الصادق، عليه السلام، فهل كانوا ينطلقون من ايمان حقيقي بهما؟
مراجعة بسيطة لتاريخ الأمم السالفة، وتحديداً اليهود والمسيحية، تبين لنا أن هذا "الحب الغالي"
بدلاً من أن يصل الى عزير او عيسى، عليهما السلام، كان بالحقيقة لصيقة برغبات وأزمات نفسية مثل التملّك والتسيّد والخوف من المسؤولية ومن الموت، فاذا كان عزير وعيسى مثل سائر الانبياء الذين بلغوا رسالات الله، فأوجدوا شريحة مؤمنة تنسلّ من المجتمع الفاسد والمصرّ على ضلاله وكفره، لكان عليهم الايمان الحقيقي برسالته ثم التضحية من أجلها كما فعلوا هم، وكما فعل تحديداً أصحاب الكهف الذين وصفهم القرآن الكريم بـ {إنهم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى}، فهم آمنوا برسالة النبي عيسى وبما جاء من عند الله من قيم ومبادئ، ولم يتوقفوا عند شخص النبي عيسى وهيئته وظاهره، وهو الذي خلقه الله –تعالى- كما خلق آدم من قبل.
وللتخلص من الازمة الفكرية والعقدية، أخرجوا النبي عيسى من كونه انساناً عادياً، وجعلوه ثالث ثلاثة، وهذا حصل تحديداً عندما تبنت الدولة الرومانية الديانة المسيحية، فتحول المثال والقدوة الحسنة من النبي المرسل من السماء الى الحاكم صاحب التاج والصولجان.
نفس المشكلة تكررت في عهد الاسلام، وتحديداً خلال تولّي الامام علي، عليه السلام، مقاليد الامور دينياً وسياسياً، فظهر على الساحة من يألهونه وينسبون اليه صفات الربوبية، في حين كان الى جانبهم اشخاص مثل مالك الأشتر ومحمد ابن الحنفية وصعصعة بن صوحان العبدي وميثم التمار وغيرهم كثير من رجال الحب والايمان العميقين، وممن كانوا يسترخصون الدماء بين يدي أمير المؤمنين في حروبه ويصبرون على ألمّ به من محن وأزمات، فهل كان المغالون أكثر حبّاً وإيماناً من هؤلاء؟!
وهذا ينسحب على سائر التابعين وأصحاب الأئمة المعصومين، عليهم السلام، مثل اصحاب الامام الحسين، عليه السلام، الذين نقف دائماً عند مراقدهم الشريفة، ونقول: "يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً"، كما ينسحب ايضاً، على اصحاب الامام الصادق، عليه السلام، وعلى ذلك الرجل الذي ازدلف في التنور المسجور بحضور ذلك الخراساني حامل رسالة من يدعون الثورة على العباسيين، والطاعة للإمام على أن يكون قائدهم، مما جعله ينسحب من عند الامام بهدوء ثم يتخلّى عن فكرة الثورة نهائياً!
هذه الازمة النفسية واللوثة الذهنية بلغت حدّاً خطيراً في عهد الامام الصادق، عليه السلام، لعوامل عدّة أهمها؛ الانفتاح الفكري والثقافي، ثم تبلور الشخصية العلمية الريادية والمكانة المعنوية السامية له، عليه السلام، في مقابل المدعين للشرعية السياسية مع وجود فضائح سياسية وجنسية ومالية مدوية ترشح بين فترة واخرى من داخل قصور العباسيين.
وفي كتابه "الامام الصادق من المهد الى اللحد" يعزو سماحة آية الله السيد محمد كاظم القزويني – طاب ثراه- استفحال الغلو في عهد الامام الصادق، عليه السلام، الى ثلاثة عوامل لها صفة موضوعية:
العامل الاول: فلسفة الحلول التي انتقلت من العهد الجاهلي ومن فلاسفة اليونان، ثم انتشرت في البلاد الاسلامية، وبمقتضى هذه الفكرة الفلسفية يعتقد البعض حلول الخالق – جلّ وعلا- في بعض الافراد، فيتحول بين ليلة وضحاها الى رب يعبد من دون الله! كما كان الجاهليون في الجزيرة العربية يعتقدون ان الله –تعالى- حلّ في الاصنام الحجرية التي يعبدونها.
العامل الثاني: الدسيسة والتآمر من قبل بعض الفاسدين لإلقاء الشبهات في المجتمعات الاسلامية بدافع التفرقة وهدم الكيان العقائدي والتلاعب بالمقدسات.
العامل الثالث: الفضائل التي اجتمعت وتوفرت في أئمة أهل البيت، عليهم السلام، من المعاجز والكرامات والتخلّق بأعلى درجات الاخلاق، فامتازوا عن سواهم بمزايا لا يحلقهم فيه لاحق، ولايسبقهم سابق.
ثم يردف سماحة السيد القزويني بالقول: "ومن الطبيعي أن المتّصف بهذه الصفات تكون له منزلة رفيعة في القلوب من المحبة والتقدير، وهذه الخصائص هي التي أجبرت النفوس ان تنحني لهم إجلالاً وتقديساً وتعظيماً على اختلاف وتفاوت في درجات المحبة والتعظيم، فهناك المعتدل وهناك المسرف". ثم يعزو سماحته مشكلة الغلو في الحب والتعظيم في "بعض ضعفاء العقيدة، وانتهاء أمرهم الى الانحراف والضلال والكفر".
ثم يتطرق سماحته الى مواقف الامام الصادق، عليه السلام، الحازمة والشديدة من الغلاة، "فكان يفند أباطيلهم ويزيف أدلتهم، ويجيب على أسئلتهم، ويدحض حججهم، فاذا لم يجد منهم التجاوب والتفاهم كان يقاوم ويكافح تلك الجهات بكل صرامة وخشونة وبلا هوادة ويعلن براءته منهم، ويتجاهر بلعنهم والدعاء عليهم، فيدمرهم تدميرا...".
علماء محبّون في مدرسة الإمام الصادق
من خلال قراءة سيرة الامام الصادق، عليه السلام، والظروف المحيطة بها، يمكننا القول أن المدرسة العلمية الكبرى التي أسسها، كان من أولى مهامها الخفيف من غلواء العاطفة والميوعة الذهنية وما يتسبب من اصابتها بملوثات فكرية وعقدية كما حصل في قضية التأليه والغلو في شخصه الكريم، وذلك من خلال التوجيه نحو طلب العلم وتحكيم العقل والحكمة والبحث في شتى المعارف بغية الوصول الى الحقائق فيما يتعلق بالحياة والوجود والخالق.
إن من نعدهم من عباقرة العلم والمعرفة في عهد الامام الصادق، عليه السلام، لم يكونوا علماء فقط، وإنما مفكرين ايضاً وبما يطلق عليهم اليوم صفة "المثقفين" الذين يتجاوزون هموم ذواتهم الى هموم الأمة والتفكير بالظواهر الاجتماعية والسياسية والبحث في سبل حلها، بل والتفكير في ايجاد أفضل السبل لحياة سعيدة للانسان.
وفي كتابه "الامام الصادق، قدوة وأسوة" يؤكد المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي هذه الحقيقة بأن "التاريخ أثبت أن الذين استقوا من أفكار هذه المدرسة مباشرة كانوا أربعة آلاف طالب، ولكن ذلك لا يهمنا بمقدار ما يهمنا معرفة ما كان لهذه المدرسة من تأثير في تثقيف الأمة الإسلامية التي عاصرتها والتي تلتها إلى اليوم ، وإن الثقافة الإسلامية الأصيلة كانت جارية عنها فقط ، حيث أثبتت البحوث أن غيرها من الثقافات المنتشرة بين المسلمين إنما انحدرت عن الأفكار المسيحية واليهودية بسبب الدَّاخلين منهم ، أو ملونة بصبغة الفلاسفة اليونان والهنود الذين ترجمت كتبهم إلى العربية ، فبنى المسلمون عليها أفكارهم وكوَّنوا بها مبادئهم.
ولم تبق مدرسة فكرية إسلامية حافظت على ذاتيتها ووحدتها وأصالتها في جميع شؤون الحياة كما بقيت مدرسة الإمام الصادق، عليه السلام، ذلك لثقة التابعين بها وبأفكارها ، مما دفعهم إلى التحفظ بها وبملامحها الخاصة عبر قرون طويلة ، حتى أنهم كانوا ينقلون عنها الروايات فماً بفم ، وإذا كتبوا شيئا لا ينشروه إلاّ بعد الإجازة الخاصة ممن رووا الأفكار عنه".
إن منهج التخصص العلمي الذي حظي به اصحاب الامام، عليه السلام، والرعاية الأبوية لهم، وما نتج عن ذلك آلاف الرسائل العلمية والمؤلفات والمكتشفات الباهرة التي يدين العالم اليوم اليها، وغيرها كثير، إنما كانت تمثل - فيما تمثله- رسالة حضارية من الامام الصادق الى الاجيال بأن تحقيق الاهداف الكبيرة في الحياة والوصول الى الحقائق لن يتم عبر الهواء الطلق، ولا بميول عاطفية بحتة، بقدر ما يكون من خلال تحكيم العقل والارادة وسائر القدرات التي وهبها الله –تعالى- للانسان.
اضف تعليق