عرفت الأمم فكرة الانتظار لمواجهة المخاطر والتحديات في حياتها، ثم تحقيق التفوّق بوجود قوة قاهرة تبسط هيمنتها على الارض وتملك العالم وتسيّره وفق منهج معيّن، لذا نجد الرغبة الجامحة في كل أمة بأن يكون منقذ البشرية منها.
ولعل أول من حمل فكرة المنقذ؛ اليهود لدى نزولهم أرض الجزيرة العربية، فقد عرفوا من خلال كتبهم أن نبي آخر الزمان يظهر في هذه المنطقة، فبحثوا وتحققوا عن المكان الدقيق، وحسب الرواية الواردة عن الامام الصادق، عليه السلام، فان اليهود نزلوا بدايةً في فدك وخيبر ومناطق أخرى في المدينة ليكونوا أول من يشهد ظهور النبي الجديد، وأملهم الاول والاخير بأن يكون هذا النبي من بني اسرائيل، أي من ابناء النبي اسحاق ويعقوب، عليهما السلام، وكان اسم النبي الأكرم وصفاته موجودة في كتبهم، تقول الآية الكريمة: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ...} (سورة الاعراف، 157)، وفي آية أخرى يقول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ...}، (سورة الصف، 6)، وعندما كانوا يتعرضون للمضايقات والاستفزازات من الكفار آنذاك، كانوا يتوعدونهم بالنبي القادم وانه سينتصر لهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ}، (سورة البقرة، 89).
وهذا ماحصل؛ فعندما بُعث النبي الاكرم، وتبين لهم أنه من نسل اسماعيل، عليه السلام، تغير الموقف تماماً الى مائة وثمانين درجة، فأعلنوا الكفر به وخوض الحرب والقتال ضده.
السؤال: ما الذي يجعل هذه الأمم تتصرف بهذه الطريقة مع المنقذ الذي تنتظره؟
العلماء الكرام ممن بحثوا في شأن الانتظار والمنقذ، يشيرون الى غياب سنّة إلهية ثابتة تجعل الانسان يفكر ويقرر كيفما شاء، كما لو أن المنقذ صناعة خاصة، او نتاج مجتمع او قوم او شعب، كما يظهر القادة الابطال والعباقرة، بينما حقيقة الأمر أن المنقذ إنما هو هبة السماء لأهل الارض، بدليل عدم معرفتهم بوقت ظهور هذا المنقذ ومن يكون بين افراد المجتمع؟ وقد أشار القرآن الكريم الى هذه المعضلة النفسية لدى بعض الاقوام المعترضة على المواصفات الشخصية لأنبيائهم ورسلهم، فكانوا يتوقعون أن يكون من الاثرياء او صاحب جسم وعضلات مفتولة أو صاحب وجاهة وغير ذلك.
من أجل ذلك جاء التأكيد على مبدأ الطاعة غير المشروطة في مرحلة الانتظار، وأن المفترض منطقياً، القبول بالشريعة والمنهج الإلهي الثابت اساساً منذ بداية الخليقة، وانه الكفيل بمعالجة الازمات والانحرافات مهما كانت.
امتحان داخل امتحان!
انه الواقع الذي تعيشه الأمة حالياً، فهي تواجه منذ اكثر من ألف عام امتحان الايمان بالإمام الثاني عشر من خلفاء النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، وهو الغائب في قصته المعروفة في التاريخ، و انه المنقذ الحقيقي من كل المظالم والمفاسد، كما يعيشون امتحان الانتظار لهذا المنقذ، وكيف يجب أن يكون؟ وهل هو كما تملي علينا افكارنا وطريقة حياتنا وحتى انتماءاتنا؟
نحن لسنا أول من تعرض لهذا النوع من الامتحان المزدوج والعسير، فقد سبقونا من كانوا في مراتب عالية من العلم والمعرفة والوجاهة الاجتماعية وحتى الخصال الاخلاقية. فذاك "الشلمغاني"، وهو العالم المعروف في زمانه، وجاء في المصادر التاريخية ان كتبه كانت ملأ بيوت الشيعة، وكان قريباً من الامام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه، لذا توقع أن يكون أحد سفرائه، بيد ان المفاجأة باختيار شخص آخر جعله ينقلب على عقبيه ليخسر الدنيا والآخرة، فقد مات مصلوباً على يد أحد حكام زمانه بتهمة الارتداد!
بينما كانت ثمة شخصية أخرى بالمقابل، وكانت ايضاً في حالة انتظار للإمام الحجة، عجل الله فرجه، وهو "النوبختي"، وهو ايضاً من علماء عصره الأفذاذ، وكان الناس يتوقعون ان يكون السفير الثالث، ولكن لم يصدق هذا التوقع، فوقع الاختيار على الحسين بن روح، فجاءه الناس وسألوا عن السبب، وهو ربما يشكل موقفاً محرجاً للغاية امام المجتمع والرأي العام، بيد أن هذا العالم أجاب بما يُنبئ عن النجاح في الامتحانين معاً: "هم أعلم وما اختاروه".
إن امتحانات كهذه، هل هي مختصة بعلماء الدين والتُقاة والزاهدين وحسب؟ وهل ان هؤلاء هم الوحيدون الذين يفكرون بالانتظار ويعيشون هذه الحالة؟
بما أن انتظار ظهور الإمام، حالة عامّة في المجتمع والامة، فان الامتحان هو الآخر حالة عامة، فاذا كان الامتحان في علم العالم، فانه ربما يكون في أموال الثري، وفي الانتماء العشائري والحزبي والقومي والمصالح السياسية وغير ذلك مما يعتز به الانسان ويعده جزءاً من كيانه وشخصيته، وهذا يعني أن يكون جميع افراد المجتمع على أتمّ الاستعداد دائماً لكل الاحتمالات بأن لا تتقدم مصالحهم ومكاسبهم وعموم الوضع الذي يعيشونه على انتظارهم للإمام المنتظر، بل العكس، يكون العلم والمال والوجاهة الاجتماعية وكل القدرات المتاحة في خدمة هذه العقيدة الحقّة ويوظفها لنشر الوعي بالدين والاحكام والقيم، وتكريس الثقافة الاسلامية الأصيلة، ولعل هذا يكون تفسير الحديث الشريف: "أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج".
اضف تعليق