أصيب الأردنيون بصدمة نتيجة أحداث الكرك الأخيرة التي عصفت بمقولة الأردن "الآمن المستقر" ونـَقـَلـَتـْهُ من ذلك الواقع إلى واقع الأردن "المشكوك بأمنه وإستقراره". وفتحت تلك الشكوك الباب على مصراعيه أمام تساؤلات بعضها بديهي أو مشروع وبعضها الآخر كان نتيجة حتمية للغموض والتخبط الذي رافق مسار ومجريات العمليات الدموية التي رافقت أحداث القطرانه والكرك.

يتساءل الأردنيون عن ما جرى وقـَلـَبَ واقع حال الإستقرار والأمن والطمأنينة التي تمتعوا بها في الوقت الذي كانت فيه معظم دول الاقليم والجوار تنهار أمام أعينهم. هل كان الأمر مفاجئة باغتت البلد والمسؤولين أم كان نتيجة حتمية لسياسات وممارسات ساهمت في إشعال نار الغضب الصامت بين أوساط الكثير من الأردنيين نتيجة لتفاقم البطالة والغلاء والفساد مما دفع العديد إلى إعتبار الوضع القائم متناقضاً مع آمالهم ومصالحهم، الأمر الذي أدى إلى توجيه عواطف البعض نحو التنظيمات الدمويــة المعارضة مثل داعش. وهكـذا، إستندت قوى الإرهاب في جهودها لإستقطاب المؤيدين إلى القصور الواضح في أداء النظام على مستويات مختلفة قد يكون الإقتصاد وفرص العمل والغلاء وإستشراء الفساد أهمها، ناهيك عن الفشل السياسي والجنوح نحو التحالف مع دول وقوى بعيدة عن نبض الشارع الأردني.

السعي إلى البحث عن مبررات وأعذار أو السعي نحو إختراع "كبش فداء" لتبرير ما جرى ويجري من أخطاء أو كوارث هي صفة تلازم العديد من الأنظمة العربية في سعيها المتواصل لإحتكار السلطة وتجنب اللوم أو الإدانة في الوقت نفسه. فنهج الإستبداد والمغالاة في إستعمال سطوة السلطة وجبروتها كان يصطدم في أحيان كثيرة بحائط المحاسبة وحتمية تحمل المسؤولية، الأمر الذي كان يُغضب المسؤول المستبد في سعيه إلى السلطة المطلقة خالية من المسؤولية وإمكانية المحاسبة. فتلازم السلطة مع المسؤولية هي أمر بعيد عن تفكير أؤلئك الحكام.

إن غياب الشفافية والمحاسبة والمسؤولية قد فتح الباب على مصراعيه أمام الفساد الكبير الذي جعل من التعدي على المال العام أمراً سهلاً خصوصاً مع توفر الحماية الخفية ولكن الملحوظة، من قبل السلطة لذلك الفساد، وتورط العديد من كبار المسؤولين في ذلك الفساد بإعتباره فرصة متاحة ومن ثم حقاً مكتسباً لهم. وأصبح المال العام بذلك مستباحاً في الوقت الذي تضاءلت فيه قدرة الدولة على حمايته إلى الحد الذي أصبح فيه التطاول على المال العام نهجاً مـُعـْتـَرَفاً به بصمت، وفي بعض الأحيان مدعاة للتفاخر العلني والمفاخرة بين اللصوص. وقد رافق ذلك تفاقم ملحوظ في حالات الفقر والمعاناة بين المواطنين الأمر الذي ساعد على زيادة الفجوة بين الحكم والشعب.

إن نهج "النظام الأبوي الرعوي" التي اتبعها النظام الأردني مثلاً والذي يوفر لجزء من المواطنين على حساب باقي المواطنين، الوظيفة والتعليم والرعاية الصحية والتقاعد بهدف إستقطاب ولائهم خصوصاً ضمن التجمعات العشائرية، أصبحت قضية شائكة وغير مقدور عليها مالياً، وأصبحت موارد الدولة عاجزة عن تمويل هذا "النظام الرعوي". وعوضاً عن إعادة النظر في هذا النهج وإعادة هيكلته ليناسب إمكاناتها، لجأت الحكومات الأردنية المتعاقبة إلى الضغط على المواطنين من خلال سياسة جباية ضرائبية جائرة فاقت حدود المعقول وقدرة المواطن على الدفع دون أي محاولة جدية لقطع دابر الفساد الكبير وإستعادة المال العام المنهوب. و

هكذا تم ذبح جزء من الشعب لتمويل الجزء الآخر، والهدف لم يكن دولة الرخاء ولكن شراء الذمم والولاآت. وتطورت الأمور إلى ما يشبه الدائرة الجهنمية المفرغة بعد أن تمت قسمة الشعب إلى قسمين: متلقي الدعم وممول الدعم، وكلاهما غاضب. فمتلقي الدعم غاضب لأن الدعم أخذ في التناقص مع فقدان الدولة المتزايد لمواردها، ودافع الضريبة غاضب لأن الضرائب أصبحت فوق قدرته على الدفع، مع بقاء طبقة المسؤولين الفاسدين آمنة وفي معزل عن كل ذلك. ووقع النظام في فخ فقدان القدرة على السيطرة على قوى الدفع السلبي بين كلا الطرفين من المواطنين. ونشأ فراغ وتـَبَاعُدْ بين الشعب في واقعه المرير المتفاقم وبين السلطة، وكان من المُحَتـﱠم أن تقوم قوى أخرى بتعبأة هذا الفراغ. وإنقضـﱠتْ داعش ذات الخلفية الإسلامية المزعومة على ذلك الفراغ في محاولة جادة لتعبئته مستغلة بذلك خلفيتها الدينية التي جعلت من قبولها بين أوساط الجماهير البسيطة أمراً أكثر سهولة من تنظيمات أخرى ذات خلفية سياسية أو فكرية عقائدية.

إن قبول الأنظمة العربية المستبدة بتوجيه اللوم في تفشي "الإرهاب" وإستفحاله إلى قوى أخرى مُبْهـَمة، وحصر معظم الأسباب بالإسلام المحافظ والمتزمت عموماً والمسلمين العرب خصوصاً هي محاولة بائسة لابعاد اللوم عنها وعن سياساتها والاكتفاء بلوم الآخرين الأمر الذي لن يؤدي بالنتيجة إلا إلى مزيد من الأخطاء القاتلة التي تؤدي إلى إستفحال التأييد للمنظمات الإرهابية كوسيلة لتنفيس الضغط وكقناة للتعبير عن الغضب والرفض لتلك الأنظمة التي يعتبرها الكثيرون مسؤولة مسؤولية مباشرة عن واقعها السيء.

"الإرهاب" إصطلاح غربي له مدلولات محددة تشير معظمها بأصبع الإتهام إلى الإسلام والمسلمين وإلى حد ما إلى العرب، وهو إصطلاح عنصري في أصوله وإقصائي دموي في أهدافه. والأنظمة العربية بحكم واقعها المستبد إختارت القبول بذلك المفهوم للإرهاب بإعتباره وسيلة للنجاة ومدخلاً لتجنيبها أي مسؤولية في المساعدة غير المباشرة على إنتشار التأييد للمنظمات "الإرهابية" مثل داعش كنتيجة حتمية لإستبدادها وفسادها. وقد تـرافق ذلك كله مع تجاهـل تام للإرهـاب الإسرائيـلي ضد الفلسطينيـين والـذي يمتد لـعقـود طويلة، فإسـرائيل ومن قبلها التنظيمـات الصهيـونية المسلحة مثـل المـاباي والايرجـون (Mapai and Irgun) هم أول من أدخل الإرهاب إلى منطقة الشرق الأوسط. وإسرائيل ما زالت تمارس هذا الإرهاب ضد المجتمع المدني الفلسطيني، ومع ذلك فإن المجتمع الدولي مازال يتفادى الاشارة إليها وإلى دورها كمنبع للإرهاب وقد يكون في إنحصار دورها الإرهابي بالفلسطينيين والعرب ما يدفع الغرب إلى تجاهل هذا الإرهاب. وفي كل الأحوال، فإن سياسات إسرائيل الإرهابية والعنصرية والدموية ضد الفلسطينيين قد دفعت العديدين إلى إعتبارها الكيان الإرهابي الأكبر وإلى إعتبار من يدعمها ويؤيدها عدو يستحق المطاردة والعقاب.

لم تـُعِرْ الأنظمة الحاكمة أي إهتمام لمصالح الأمة والدين، وإعتبرت أن مصالحها وسلامتها هي الهدف الأهم. ولم يَخـْفَ هذا الأمر عن القوى الكبرى التي استغلته لإجبار تلك الأنظمة على تقديم المزيد من التنازلات القومية والوطنية والدينية ثمناً للقبول بالتفسيرات الصادرة عنها، وتبرئتها من أي مسؤولية في تفشي الدعم للمنظمات الإرهابية نتيجة لسياساتها تلك. وهذه السياسة بالطبع انتقائية وليست مبنية على أسس متكافئة بالنسبة لجميع الأطراف. ففي حين يتم توجيه الإتهام للنظام الإيراني "الملـﱢلي" بدعم الإرهاب وتسهيل مهمته، يتم تجاهل الدور المتزمت للحركة الوهابية في السعودية وأثره على انتشار الإسلام المتزمت الدموي والتنظيمات الدموية المرافقة له مثل "القاعدة" و"داعش". ولولا سطوة الإعلام في الأنظمة الغربية الديموقراطية لـَماَ سَمِعَ أحد بدور "الحركة الوهابية" والسعودية مثلاً طالما كان ذلك في مصلحة الدول الكبرى وإسرائيل ولتم حصر الأمر بأعداء الدول الكبرى وإسرائيل مثل إيران وحزب الله.

إن عدم الفصل بين العروبة والإسلام من جهة و"الإرهاب" من جهة أخرى كان يهدف في الواقع إلى إعتبار مكافحة الإرهاب مسؤولية عربية وإسلامية تهدف إلى وضع العرب والمسلمين في خط النار وفي موقع المذنب بالإضافة إلى تسهيل مهمة الدول الغربية وإسرائيل الساعية إلى تدمير العالم العربي.

إن خلق ظاهرة "الإرهاب" من خلال إما تسهيل مهمة بروز تنظيم مثل داعش ومن قبله "القاعدة" أو المساعدة في ظهوره أو التغاضي عنه في مراحل التأسيس، يشير إلى أن ظاهرة "الإرهاب" وتضخيمها كانا جزأ ً من مخطط مقصود لتبرير العدوان على العالمين العربي والإسلامي تحت شعار "مكافحة الإرهاب"، وتنفيذ مخططات تنسجم والأهداف الأمريكية والإسرائيلية. وعند القول بوجود دور لأمريكا مثلاً في إنشاء أو نشوء تنظيم مثل داعش، فإنه لمن السذاجة الإفتراض بأن ذلك يعني وجود قرار حكومي أمريكي بإنشاء داعش مثلاً كتنظيم إرهابي أو وجود علاقة عضوية تنظيمية معها، بقدر ما يعني أن نشأة ذلك التنظيم ومساره ينسجم مع الأهداف الأمريكية إلى الحد الذي يـُفتـَرضْ فيه أن أمريكا لن تألوا جهداً في الحفاظ على ذلك التنظيم وإستمراريته.

إن قدرة الدول الكبرى على التلاعب بالمصالح العربية والإسلامية وضعف الأنظمة الحاكمة في تلك الدول وإبتعادها عن شعوبها قد ساهم في تدويل المعركة ضد "إلارهاب" وعليه وتحويلها في معظم الحالات إلى وسيلة وعذر للعدوان على سيادة وأراضي العديد من الدول العربية والتمهيد للإعتداء على بعض الدول الإسلامية. وهذه المعادلة العدوانية الظالمة ساهمت في تدمير بعض الدول العربية مثل سوريا وليبيا واليمن والعراق وأعطت المبرر القانوني وليس الأخلاقي للإعتداء عليها وتفتيتها.

الإرهاب هو واقع مفروض على المنطقة وليس بالضرورة إفرازاً مباشراً لـِقـَيمِها ودينها. إن طرح رؤيا أمريكية مثل "الفوضى الخلاقة" (Creative Chaos) كوسيلة ومَعـْبَر للتغيير في المنطقة ترافقت مع ربطها بموضوع الإرهاب وإعتباره تطوراً حتمياً بإفتراض أنه ينبع من داخل المنطقة وليس، كما هو عليه الحال، بإعتباره رؤيا مفروضة من خارجها تعمل على إستغلال أدوات وظروف محلية تسمح بإلصاق تهمة "الإرهاب" بها. فالإرهابيون منها، والضحايا منها، والتدمير فيها والتهجير لأبنائها والتفتيت لدولها. والمسار الإعلامي الصادم الذي إختطه الإرهاب من خلال ارتكاب جرائمه عَلنـَاً على وسائل الإعلام المتلفزة كان يهدف في حقيقته إلى خلق شعور بالصدمة والخوف داخل المجتمعات الغربية ساهمت في إعطاء التبرير لحكوماتها لإستعمال القوة العسكرية ضد دول المنطقة وأبنائها بحجة احتواء ذلك الإرهاب والقضاء عليه، الأمر الذي لم يتـم فعـلاً، ليس لقصور في قوة الغرب، ولكن لعدم الرغبة في القضاء النهائي على التنظيمات الإرهابية نظراً لأن دورها في تدمير دول المنطقة لم ينتهي فعلاً، اللهم إلا إذا تغيرت الأهداف الأمريكية ووسائلها بعد مجئ إدارة دونالد ترمب إلى الحكم وأصبح القضاء على التنظيمات الإرهابية هدفاً أهم من تدمير دول المنطقة، أو إذا ما تم الاكتفاء بتدمير ما تم تدميره مفعلاً من دول المنطقة، والقول الفصل في سياسة أمريكا في منطقة الشرق الأوسط يبقى في نهاية الأمر مرتبطاً بمصالح إسرائيل.

* مفكر ومحلل سياسي
lkamhawi@cessco.com.jo

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق