لورينزو كامل
فرايبورج، ألمانيا ــ أثار سقوط مدينة حَلَب الشهر الماضي بين أيدي قوات الرئيس السوري بشار الأسد المدعومة من روسيا موجة أخرى من المناقشات حول احتمالات إنهاء الحرب الأهلية الدائرة في سوريا. فعلى الرغم من وقف إطلاق النار مؤخرا في عموم البلاد بين قوات الأسد ومعظم المجموعات المتمردة، والذي تكفله تركيا وروسيا، يبدو أن أغلب المراقبين يُجمِعون على أن الصراع لا يزال بعيدا عن نهايته. ذلك أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لم يوافق على أي شيء ــ ولن يفعل.
هؤلاء المراقبون محقون بشأن أمر واحد: فلن تنتهي الحرب في سوريا قبل إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش. ولكن الاعتقاد الذي يعتنقه كثيرون بأن سقوط الرقة ــ المدينة التي أعلنها تنظم داعش عاصمة له ــ كفيل بتحقيق هذه الغاية يجانبه الصواب بصراحة شديدة.
من المؤكد أن الرِقة، تُعَد على حد تعبير المؤرخ الفرنسي جان بيير فيليو، "مركز قيادة العمليات" للهجمات الإرهابية التي يشنها تنظيم داعش، مثل قتل 12 شخصا في أحد أسواق عيد الميلاد في برلين الشهر الماضي، أو قتل 39 شخصا في ملهى ليلي في إسطنبول في رأس السنة الميلادية الجديدة. ولكن الاستنتاج الذي توصل إليه فيليو وغيره بأن سقوط الرقة هو المفتاح إلى إنهاء الهجمات على أوروبا يخلط بين أسباب وأعراض وحلول الحرب الأهلية السورية. فعلى الرغم من الارتباط المؤكد بين آفاق تنظيم داعش في الأمد القريب ومصير الرقة، فسوف يتحدد مصير التنظيم وقدرته على البقاء والتأثير في الأحداث في الأمد البعيد على بُعد آلاف الأميال في الأرجح.
كانت المملكة العربية السعودية على أكثر من نحو المعين الذي يستمد منه تنظيم داعش قدرته على البقاء. إذ يشكل السعوديون ثاني أكبر مجموعة من المقاتلين الأجانب في سوريا والعراق، وهو ما يرجع إلى حد كبير إلى هوية تشكلت بفِعل اثنين من التطورات التاريخية الأساسية.
كان التطور الأول متمثلا في تبني محمد بن سعود، مؤسس الدولة السعودية الأولى، لآراء محمد بن عبد الوهاب الراديكالية "المتزمتة" في منتصف القرن الثامن عشر ــ وهي الآراء التي عُرِفَت باسم الوهابية والتي تستمر في تحديد السياسة السعودية وهيئة المجتمع السعودي. ويتلخص التطور الثاني في القرار الذي اتخذه الملك عبد العزيز في عشرينيات القرن الماضي بإضفاء الطابع المؤسسي على الرؤية الوهابية الأصلية. ويرى العديد من السعوديين أن صعود تنظيم داعش يمثل العودة إلى الأصول الحقيقية للمشروع السعودي الوهابي.
الواقع أن الوهابية تشكل نواة إيديولوجية تنظيم داعش وفِكره. ويوزع تنظيم داعش في واقع الأمر نسخا من نصوص كتبها محمد بن عبد الوهاب في المناطق الواقعة تحت سيطرة التنظيم في العراق وسوريا، وتعتمد على العديد من دروسه الأكثر أهمية. وعلى هذا فإن إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش يتطلب من المنظور الإيديولوجي معالجة دور الوهابية وإرثها في المملكة العربية السعودية.
ومن منظور التحرك الميداني، سوف يتقرر مستقبل تنظيم داعش إلى حد كبير في تونس، فهي الدولة التي أرسلت معظم المقاتلين الأجانب إلى سوريا والعراق، وهي مسقط رأس منفذ الهجوم الإرهابي في برلين. ويعكس هذا جزئيا فشل السلطات في خلق القدر الكافي من الفرص الاقتصادية لسكانها من الشباب، في وقت حيث أدى التحول الديمقراطي الناشئ في البلاد إلى رفع سقف التوقعات. وكما شرح لي في عام 2015 شمس الطالبي، وهو رجل في الخامسة والخمسين من العمر ويقطن مدينة القصرين المبتلاة بالفقر، "ينظر كثير من الشباب في منطقتنا إلى تنظيم داعش باعتباره وسيلة لاستعادة كرامتهم".
وعلى هذا، فإن الحد من أعداد المقاتلين الذين يتدفقون للانضمام إلى صوف تنظيم داعش يستلزم إدماج المناطق المهمشة اقتصاديا واجتماعيا. وإلا فإن الشباب التونسي (وغيرهم) سيستمرون في الاستسلام لليأس إلى الحد الذي يجعل الجماعات الإجرامية مثل تنظيم داعش تبدو وكأنها المعادِل الاقتصادي الاجتماعي الأكثر جدارة بالثقة.
كما يرتبط مستقبل تنظيم داعش إلى حد كبير بفرنسا، الدولة الأوروبية التي تمد المجموعة بأغلب المقاتلين ــ وهي الحقيقة التي تعكس في الأرجح هيئتها العلمانية العدوانية. ففرنسا واحدة من دولتين فقط في أوروبا (بلجيكا هي الدولة الأخرى) تحظران النقاب الكامل في المدارس العامة. وهي الدولة الوحيدة في أوروبا الغربية (عدا بلجيكا) التي لا تحصل على أعلى تصنيف للديمقراطية، وفقا لبيانات بوليتي. ذلك أن 70% من نزلاء السجون في فرنسا من المسلمين. وكل هذا يصب في يد القائمين على تجنيد المتطرفين.
يتمثل المحدد الأساسي الأخير لقدرة تنظيم داعش على البقاء في استعداد الدول، وخاصة في الغرب (والولايات المتحدة على وجه الخصوص)، للاعتراف أخيرا بأن الأنظمة القمعية كتلك في المملكة العربية السعودية ومِصر تمثل جزءا من المشكلة، وليس جزءا من الحل. وكما سأل جنرال إسرائيلي سابق في عام 2015 مايكل أورين، سفير بلاده السابق إلى الولايات المتحدة: "لماذا لا يواجه الأميركيون الحقيقة؟ لكي يتسنى لهم الدفاع عن الحرية الغربية، يتعين عليهم أن يحافظوا على الطغيان في الشرق الأوسط".
سوف يكون سقوط الرقة دليلا على انتصار كبير على تنظيم داعش. ولكن سقوطها لن يعني نهاية هذه الجماعة أو هجماتها العنيفة، والتي ستستمر بكل تأكيد، وربما في أشكال جديدة. ولإلحاق الهزيمة بتنظيم داعش إلى الأبد، ينبغي لنا أن نعترف بالمصادر العديدة التي تسمح له بالبقاء ــ ونقضي عليها.
اضف تعليق