إن السؤال الواجب طرحه هو علاقة العنف بالطبيعة البشرية، حيث شغل بال المفكرين والفلاسفة، كمفهوم مهم يُكثر استخدامه ضمن محاولات صياغة نظرية السلوك الإنساني أثناء فترات الحروب والنزاعات، سواء لدى الأفراد أو الجماعات.
فالعنف يحتل مكانا مركزيا في هذا الإطار، لأنها تبرز أكثر في ظاهرتي الثورات والحروب، والتي لا يتوقف عند حدود الممارسة الفردية أو الموقف الشخصي الغريب، بل تكبر دائرة العنف لتتحول إلى فعل جماعي ضد جماعة أخرى في ظل الثورات خاصة المترافقة مع حالات الفوضى العارمة؛ لأن الفرد وكما يرى جون لوك يميل لأهوائه ورغباته أكثر من كونه يسعى لقانون الطبيعة، وفي ظل غياب القانون والسلطة التي تنظم الحياة والنزاعات بين الأفراد أثناء الثورات فإن أهم ما تفتقده الطبيعة بحسب لوك هي الحكم المنظم الساعي إلى فض النزاعات، فتؤول في نهايتها إلى صراعات ودمار وقتل… وهو ما يعني انعدام أي قيمة أخلاقية في فوضى الثورات، لدرجة أن العنف يتحول إلى حالة طبيعية، تشبه حالة استمرار الصيد، وجعل الصراع البشري ضمن الثورات وكأنه ناموس لصراع كلي.
إن دخول الغرباء إلى ثورات البلدان يُعتبرون كمرتزقة من جهة، ومن جهة أخرى فإن القتل وفقدان القيم الأخلاقية تصبح قانون لضمان البقاء والاستمرار. وهو ما يعني شرعنة العنف والقتل وتمجيده بشكل سافر. علماً أن فقدان القيم الأخلاقية في الثورات يجعل من العنف ذو وظيفة اجتماعية مشوهة، بحيث يغدو كل ذي قوة أو جماعة، واجهة لإصدار القوانين والفتاوى والتشريعات المزاجية، وربما يربط العنف بحالة الدفاع عن الطبقات الاجتماعية المسحوقة والمقهورة وأن كان كلام حق يراد به باطل.
الحرب والتوجه الإنساني
في الحروب الأهلية تتفجر عدوانية الإنسان وعنفه، آلاف الأبرياء يزهقون بسبب كلمة مسطورة على هويته الشخصية. في السلوك العنصري تظهر أقسى وأقصى درجات إبادة الإنسان. وما العنصرية إلا الخطاب أولاً وممارسة ثانياً، أو قل وحدة الخطاب العنفي مع الممارسة التدميرية، وليس نفي الأخر وقفاً على قتله جسدياً، أن القتل أعلى شكل من أشكال النفي الكثيرة، فلنتأمل بعض أشكال هذا النفي المنتشرة والمستمرة عبر التاريخ، لنرى كم هي مشابهة للقتل وإن بصور أخرى. فنفي الأخر هو في المحصلة قتلًا وعدوانية وانعدام للأخلاق ليس اقل درجة من القتل المباشر. وحين تنحرف الثورة عن مضمونها لن تنجح كل الجهود في لجم نزوع الإنسان لنفي الإنسان.
لذا لم تعد للثورات أي قيم أخلاقية خاصة مع اعتماد احد طرفي النزاع على القتل والتعذيب والتمثيل بالجثث، لدرجة أن كتب التاريخ تضم بين دفتيها حروب لبني الإنسان وما خلفته من مآسي هي للخيال اقرب، وإذا علمنا أن ابن الثورة المعارضة لنظام الحكم أو المؤيد للنظام هم نتاجات ذلك التاريخ ونتاجات المناهج المدرسية التي تشرح وبإسهاب القتل والسرقة والاغتصاب والتعدي على الأخر ونفيه…..الخ حينها عن أية قيم أخلاقية للثورة سنتحدث؟. إن كانت ثورة الميديا هي أحدى وسائل تنمية المجتمعات الغربية، هي لدينا وسيلة إطلاع على تاريخ وارث التنكيل والقتل لدرجة أن الشاشة الصغيرة في عصر ثورة الاتصالات تضعنا كل يوم أمام مشاهد ألفنا رؤيتها دون أن تثير فينا إحساساً بالضحية، وبخاصة إذا كانت المشاهد لا تعنينا مباشرة. فنغدوا غير مكترثين بها لكنها تغرس في داخلنا نمطية القتل على أنها حالة طبيعية.
أثر الموروث الديني في صناعة قيم الثورات
للفكر الديني اثر بالغ الأهمية في نشر أخلاقيات ايجابية أو سيئة في حالات الأزمات والثورة والاضطرابات خاصة من جهة الرغبة في السيطرة وبسط النفوذ على حيثيات الحدث. وهو ناتج عن وعي النخبة الدينية بفقدان هيبتهم وماضيهم، وضرورة استعادة السيطرة وإعادة الأمجاد بغض النظر عن المشروعية التأسيسية لرغبات السيطرة على الثورة ورغبتهم عدم فصل الدين عن الدولة وربط السلطة بالخلافة.
ارتبط مفهوم العنف في الثورات بالبعد الديني لدرجة اعتبار العنف خاصة أساسية من خصائص الإسلام السياسي واستدلوا على ذلك بمسلك جماعات الإسلام السياسي في مصر وسوريا في السبعينيات وفي إيران حتى بعد الوصول للسلطة ثم في الجزائر وأفغانستان في التسعينيات حتى مفهوم الجهاد وتحول من ممارسات الجهاد من الخارج إلى الداخل ورافقه انتفاء حالة التفكير والردة في ممارسة أقصى درجات العنف ضد الأنظمة أو الثورات أو بعض الفئات الاجتماعية والثقافية.
والواقع أن السلوك العنيف المرادف للثورات إنما يبنى على أساس تفسير معين أو خاص لآيات أو توجهات دينية. خاصة وأن الجهاد المتحول باتجاه الداخل أصبح هو نفسه الصراع الطبقي وحرب الشعب الطويلة الأمد.
في 26 كانون الثاني عام1095 ألقى البابا أوربان الثاني خطاب أمام الجموع المحتشدة دعا فيها إلى حمل السلاح ضد قبيلة الأتراك الفارسية التي ذبحت وأسرت كثيراً من المسيحيين، وإلى تحرير قبر السيد المسيح، وتحرير الأخوة العائشين هناك (أنا أقول هذا للحاضرين وأتكلف بإبلاغ الغائبين هكذا أمر يسوع المسيح) لم ينسى البابا أن يقول للجموع أن الرب سيغفر جميع خطاياهم إن هم قاتلوا الكفار، وسيثيبهم في الجنة الأبدية في السماء. كان الفرسان والإقطاعيون الفرنجة يعرفون ما وراء هذا الخطاب وراحوا يقاتلون من أجل بلاد العسل والثروة، فيما الجنود كانوا ينفذون إرادة السيد المسيح. المسيح الذي جاء ليخلص البشر من خطاياهم عبر فدائهم، يتحول إلى مبرر للقتل بسبب إيديولوجية خاصة وتبريرات تخص شخص معين.
في عام 1914 كتبت جريدة التايمز اللندنية في مقالها الافتتاحي: ليست هناك امة متحضرة، على وجه الكرة الأرضية، ترضى بأن تقصف المدن المفتوحة بالقنابل من الجو ولم تمضِ عقود قليلة من الزمن حتى كانت العواصم التاريخية الكبرى لأوربا، باريس وموسكو ولندن، تترنح تحت قصف القنابل، ثم لم تمض بضع عقود من الزمن حتى قضت قنابل ذرية تسقط من الطائرات على الحياة في هيروشيما وناكازاكي، ولم تمضي عقود قليلة حتى قصفت حلبجة بالكيماوي لتكون الوصمة الأكثر وحشية على جبين الإنسانية، أن يحرق الإنسان بالكيماوي ويدفن مئات الألف من الكورد أحياء تحت التراب ترى هل قتل الأخر وتعذيبه خصلة متأصلة في الإنسان إلى الحد الذي لا يمكن استئصالها هل هي صفة غريزية ثابتة فيه.
تأثير الموروث والايدولوجيا في الجيل اللاحق
إن انتشار قيمة السادية في الثورات هي من بين أهم ركائز انهيار تلكم الثورات. إن ساد الذي اشتقت من اسمه اللذة في تعذيب الأخر قد بين في قصصه جانباً من المتعة التي يشعر بها المُعذب. وأشار فرويد إلى وجود غريزة للتدمير عند بني البشر إلى جانب غريزة الحب. وقيل قديماً أن الظلم من شيم النفوس. إن غياب المفكر والمنظر الثوري لأي ثورة يُعلي من جانب انتشار ظواهر القتل والتعذيب والإذلال والانتقام والجرائم الفردية. وغياب القيم الأخلاقية عن الثورات وخاصة في بلدان الشرق وبالأخص البلدان العربية والتي تجعل من هذه الثورات آفة تطيح وتفتك بالمجتمعات. فالموروث الديني القائم على التفسيرات والتحليلات الخاطئة وطبيعة الحياة البشرية والاجتماعية والأسرية في فترة الجاهلية وما تلاها ونقل طبيعة هذه الحياة إلى الأجيال اللاحقة بما فيها الجيل الراهن عبر المناهج المدرسية أو الأعلام أو الأفلام و..غيرها قد خلقت وزرعت أيديولوجيا مخفية داخل كل فرد تابع هذه المناهج هي أيديولوجيا القتل أي التبرير الإيديولوجي لفعل القتل – قتل الأخر.
إن إيديولوجية الحرب في الثورات هي الشكل الفاقع لإيديولوجيا القتل. هذه الإيديولوجيا الثورية تقسم القيم إلى قسمين ظاهر وخفي، الظاهر هو الأهداف المعلنة الزائفة، والخفي هو الأهداف الحقيقية. وبالتالي نحن أمام إيديولوجيتين معاً، واحدة تضفي على الثورات دلالات أخلاقية وعقلانية وحقانية وهي الإيديولوجية العلنية، والأخرى هي الملوثة بكل الأهداف الدنيوية.
اضف تعليق