مما لا شك فيه، أن المجتمع العراقي يتألف من مجموعة مكونات، تتوزع على قوميات وأديان ومذاهب مختلفة، وهذا التنوع كما وصفه أهل الاجتماع كان مصدر قوة للمجتمع، ولم يكن في أية مرحلة ماضية (إلا ما ندر)، عنصر تفريق او اثارة اضطرابات ومواجهات بين هذه المكونات، فهناك العرب وهم القومية الأكثر نسبة، تليهم قومية الاكراد، ثم التركمان وسواهم، وهناك المسلمون الأكثر نسبة وثمة المسيح وسواهم، ولدينا من الاثنيات ايضا والمذاهب، كأبناء المذهب الشيعي والسني.
كل هذه القوميات والاديان والمذاهب المتنوعة تمثل هويات فرعية لملايين العراقيين، والعراق الوطن هو الهوية الأكبر لهم، لا ضير في أن تظهر الهويات الفرعية، وليس هناك مشكلة في اظهار خصوصية كل هوية فرعية واعلانها على الجميع، وشرح مميزاتها وممّ تتكون وما هو تاريخها وخصائصها، وهو أمر كان ممنوعا في ظل الحكومات القديمة او السابقة لاسيما في ظل النظام السابق حيث كان يمثل إظهار الهوية الفرعية جريمة قد لا تغتفر، وربما يطول من يعلنها أو يتعامل بها على أنها حقيقة، عقاب ما.
بعد نيسان 2003 ظهرت الهويات الفرعية الى العلن، وبات الحديث عنها بصوت عال أمر متعارف، بل ذهب كثيرون الى تفضيل الهوية الفرعية على الهوية الأم (الوطن)، ومما زاد وضاعف في اهمية الهوية الفرعية (القومية، الديانة، المذهب، العشيرة، المنطقة)، اشتعال اوار الصراعات العرقية والطائفية وما شابه، بحيث بدأت تتبلور في العلن وفي عموم مساحات العراق بؤر للعنف هنا وهناك، مما زاد من حدة العنف في مساحات ومناطق كبيرة، ومنها العاصمة بغداد لاسيما في الاعوام 2005/ 2007.
اذاُ قادنا هذا النوع من الصراع الى صراعات اخرى اكبر وأخطر، وتشكلت بؤر عنف عديدة، وتضخمت، وصارت تفرز أشكالا عديدة من العنف، وانعكس ذلك على المجتمع، وعلى الطبقة السياسية، وبدأت تداعيات خطيرة تترك آثارها بين مكونات الطبقة السياسية، التي تحاكي بدورها المكونات الاجتماعية المتنوعة، وراح يطفو على السطح ما كان مكبوتا في ظل الحكومات السابقة، ومما زاد الطين بلة أن الطبقة السياسية التي تمثل هذه المكونات المتنوعة لم تستطع أن ترتقي فوق واقع الاختلاف بينها، وراحت تتعامل مع بعضها وفقا لمنطق القوة والضعف، مما انعكس ذلك على واقع المجتمع العراقي، وانحدرت تداعيات الاختلاف السياسي من قمة الطبقة السياسية العاملة في السلطة او خارجها، الى القاعدة الشعبية التي اختارت ممثليها من العاملين في صناعة القرار كالبرلمانيين او الوزراء والمسؤولين الآخرين من الدرجات الأدنى.
تأثير الصراعات السياسية على المجتمع
لاحظ المراقبون أن الطبقة السياسية التي تسللت الى العمل السياسي بعد نيسان 2003، وبعضها ليس له باع أو تخصص في السياسة، لم تضع مصلحة الشعب العراقي ضمن أولوياتها، بل كانت مصالحها الفردية والحزبية هي الأهم، وراحت بعض الاحزاب والشخصيات تعمّق سلطتها وتزيدها قوة وتشبثا بالسلطة وامتيازاتها، مع اهمال واضح لبناء الدولة ولمبادئ رعاية الشعب التي وعدوا بها، فصار الحزب أهم من الدولة، وصار المكسب المادي الفردي او الحزبي أهم من الشعب، وهذا المنهج مشت عليه معظم القوى السياسية في البلاد، الامر الذي قادها الى التنافس غير المشروع لتأكيد وضمان مصالحها على حساب مصالح الشعب.
وهكذا تحولت الهويات الفرعية الى أزمة حقيقية بات يعاني منها الشعب العراقي، ليس في المجال السياسي فحسب، انما نزل هذا الصراع الى الشارع العراقي، واندلعت صدامات ذات طابع طائفي خطير، لاسيما في سنوات 2005-2006-2007، حيث اندلعت مواجهات عنيفة في مناطق واسعة من البلاد وخاصة بغداد، وكانت بؤر العنف منتشرة على نحو شديد، ولاشك أن هناك من يحرك خيوط هذه الصراعات ويؤجج هذا العنف وفق اجندة خارجية وضعت في حساباتها تأجيج هذا النوع من الصراع كي تحصل على مآربها من خلال إضعاف الشعب، وإلهائه بالصراعات الطائفية والأثنية وسواها.
وهذا ما تحقق بالفعل في السنوات العصيبة التي مرت بالعراقيين، وجعلتهم وقود لحالة احتراب طائفي وأثني ما كان له أن يحدث لو لا تعميق فاعلية الهويات الفرعية على حساب الهوية الأكبر، فكانت بؤر العنف تتكاثر على نحو مخيف، وكانت ثمة جهات تعمل على زيادتها، وتقذف بالزيت على النار، وفي الوقت نفسه ترتب الأوضاع بما يضمن لها مصالحها، وهذا الكلام يشمل معظم الدول المحيطة بالعراق، فضلا عن الدول الكبرى التي كانت تتقاسم الكعكة العراقية عن بعد، فيما يحدث ذلك كله على حساب العراقيين وحقهم بالحياة الهادئة الكريمة.
لقد استثمرت تلك الجهات حالات الاحتقان الطائفي اقصى استثمار، وفعلوا ذلك من خلال تضخيم أزمة الهويات الفرعية، فصار العراقيون باحثين عن الهوية الأدنى ولائذين بها، هو ية العشيرة او المنطقة او الطائفة، في حين صارت هوية الوطن في حالة تراجع طردي مع التشبث بالهوية الفرعية، وهذا جل ما كانت تسعى إليه الجهات والدوائر والدول التي لها مآربها في العراق، وكل هذا حدث ولا زال يحدث على حساب الشعب العراقي.
على العراقيين أن يعيشوا بسلام
ما من شك أن قادة القوم، والشرفاء العراقيين، تنبّهوا الى ما أصابهم من حيف نتيجة للعنف، ونتيجة لمضاعفة بؤر التطرف، فصار لزاما عليهم مواجهة هذه الحرائق التي اندلعت في قلب العراق، وامتدت الى اطرافه، وصار لازاما على العراقيين لاسيما النخب أن يعالجوا أزمة صراع الهويات الفرعية بحنكة، وأن يتم التمحور حول الهوية الأم (الوطن) مع الاحتفاظ بالهوية الفرعية واحترامها والافتخار بها.
فما الضير من اعلان قوميتي أو ديني أو مذهبي، والتحدث عنه وإظهار خصائصه، وفي الوقت نفسه هناك هويتي الوطنية الأكبر والأهم مصانة وظاهرة بقوة، ما المانع من أكون مسلما عراقيا او مسيحيا عراقيا، وما المانع أن اكون شيعيا عراقيا او سنيا، ان زمن التخوّف من اعلان الهويات الفرعية ينبغي أن يكون في خبر كان، وعلينا التشبث بهويتنا الأم (الوطن) أولا، مع امكانية اعلان الهوية الفرعية، ما الضير من ذلك؟.
ان هذا الاعلان عن الهوية الفرعية بحرية لا يعني انتقاصا من الهوية الوطنية الكبرى، بل ينبغي أن يكون دليلا على المنهج الحياتي الجديد، ونعني به المنهج التحرري الذي لم يكن معمولا به في ظل الانظمة الفردية، قد يعترض آخرون على أن الهوية الفرعية تزيد من الاضطراب وربما تؤسس للاحتراب بين مكونات الشعب العراقي، وقد حدث هذا سابقا كما اشرنا الى ذلك، ولكن ينبغي أن نفادر هذا المنهج القديم، بمعنى علينا الاقرار بهوية بعضنا البعض واحترامها، وعلينا ان نجعل من حالة التعايش منهجا لنا.
فالتخلي عن الهوية الفرعية أمر مستحيل تماما، لذلك علينا التعامل مع هذا الواقع غير القابل للإلغاء، وقد جربت الانظمة الفردية محاولاتها المستميتة لقتل او تذويب الهوية الفرعية لكنها لم تستطع ذلك، لذا علينا الاعتراف بالهوية الفرعية ضمن حجمها واعطاء الهوية الأكبر (هوية العراق) الأولوية، مع ممارسة حق الاحتفاظ بالهوية الفرعية والاعلان عنها وعن خصوصيتها للملأ من دون تخوف، ويجب أن نتعلم التعايش في ظل وجود هذه الهويات الفرعية ضمن الحيز الأكبر للهوية الكبرى، وهي (العراق لجميع العراقيين بلا استثناء).
اضف تعليق