ما الذي ينتظر سوريا الآن (واستتباعاً العراق ولبنان وكل المشرق العربي) من تطوراتٍ واحتمالات بعد الضربات العسكرية الروسية المتواصلة في بعض المناطق السورية، وهل ما يحصل هو مقدّمة لمواجهات عسكرية إقليمية ودولية أم أنه سيسرّع من خطوات التسويات السياسية لأزمات المنطقة؟! وهو الأمر الذي أرجّحه. ثمّ هل التوافق الأميركي – الروسي، المدعوم إقليمياً ودولياً، على أولويّة مواجهة "داعش" هو مجرّد تقاطع مؤقّت لمصالح هذه الدول التي تدير الأزمات وحلولها خلال هذه الفترة؟! وفي حال وجود توافقٍ بين هذه الدول على مواجهة "داعش" وأخواتها من الجماعات الإرهابية، ما الذي سيحصل بعد النجاح في هزيمة هذه الجماعات؟ وما سيكون بديلها على الأرض من حكومات ومعارضات إذا لم تتزامن العمليات العسكرية الجارية مع التسويات السياسية المنشودة؟!. وهل ستتّعظ القوى الإقليمية والمحلّية، التي راهنت على جماعات "النصرة" و"داعش" خلال السنوات الماضية، من هذه التجربة المُرّة في التحالف مع قوى شيطانية إرهابية لم ترحم أحداً من كلّ الطوائف والمذاهب والإثنيات؟!.
تساؤلاتٌ عديدة جاريةٌ الآن دون قدرةٍ على حسم الإجابة بشأنها، فمحصّلة السنوات الماضية من هذا القرن الجديد لا تشجّع كثيراً على التفاؤل بمستقبلٍ أفضل، طالما أنّ البلاد العربية هي ساحات لمعارك وصراعات، وليست مصدر قرارات أو قدرة على الاعتماد على الذات من أجل تصحيح الواقع وتغيير مساره لصالح العرب أنفسهم أولاً. فهناك مشروعية للمخاوف الروسية والمصرية وغيرها من أن يتكرّر في سوريا ما حدث في العراق (عام 2003)، وفي ليبيا (عام 2011)، من إسقاط أنظمة، فإذا ببديلها على الأرض ميليشيات مسلّحة على أسس طائفية وقبلية وإثنية أطاحت بكل مقوّمات الدولة الواحدة، وأضعفت الولاء الوطني والقومي، وغيّبت أي ممارسة سليمة لمفهوم المواطنة. فالخوف هو قائمٌ إذن من حالتين: حالة عدم المواجهة الفعلية الجادّة لجماعات الإرهاب، أو حالة إنهاء "داعش" ومثيلاتها من دون ترافق ذلك مع تسويات سياسية شاملة، ممّا قد يكون مقدّمة لتكريس انقسامات أهلية لها جذورها الآن نتيجة ما حدث في السنوات الماضية، فأنتج واقعاً مريراً بين أبناء الوطن الواحد، وأقام حواجز من الدم والكراهية للشريك الآخر في الوطن والمواطنة، بل كرّس أيضاً انقساماتٍ جغرافية تهدّد الآن وحدة الكيانات والأوطان.
فالحذر مطلوبٌ الآن من المستقبل، كما هو مطلوبٌ رفض الحاضر وتداعيات الماضي. إذ أنّ الوعد بمستقبلٍ أفضل يفترض وجود عناصر لم تزل مغيّبة حتّى الآن، وتحتاج إلى مراجعات كثيرة مع النفس لدى كل الأطراف العربية والإقليمية المعنيّة بالأزمات الراهنة. ولعلّ أولى هذه المراجعات هي وقف المراهنة على "شيطان الداخل"، المتمثّل الآن بجماعات الإرهاب، من أجل تحقيق مصالح فئوية لهذا الطرف أو ذاك، كما هو مهمٌّ أيضاً الآن الاعتماد على الذات العربية لبناء مستقبلٍ عربيٍّ أفضل، بدلاً من تكرار انتظار الترياق من الأجنبي الإقليمي أو الدولي، وهو ما يحدث على مدار قرنٍ من الزمن، ولم ينتِج إلاّ المزيد من المآسي والأزمات في المنطقة العربية.
لقد خرج النفوذ الأجنبي من باب المنطقة في منتصف القرن الماضي بفعل ثوراتٍ تحرّرية عربية، لكنّه عاد الآن إلى المنطقة من نافذة المعاهدات أولاً مع إسرائيل، ثمّ من خلال نتائج الحروب العربية- العربية، وخطايا بعض الحكّام الذين استباحوا أوطاناً عربية أخرى أو حقوق مواطنين عندهم. لكن ذلك كلّه ما كان ممكناً أن يحدث بهذه الصورة الدموية التي نراها الآن في المجتمعات العربية لولا أيضاً وجود تخلّف فكري يسمح بالمتاجرة بالدين والطوائف، كما الانحطاط حاصل في مفاهيم وممارسات معاني الهُويّات الوطنية والقومية.
ونرى في هذه الصورة الدموية التي تسود المشرق العربي الآن، طائرات الناتو وروسيا في السماء.. بينما تزداد على الأرض قوى الإرهاب!. أليس هذا ما حدث ويحدث الآن في سوريا والعراق واليمن وأفغانستان ودولٍ أخرى أيضاً؟!. فلا "القنابل من السماء"، ولا "إجرام الإرهاب على الأرض"، هو الذي سيبني أوطاناً عربية موحّدة، أو مستقبلاً زاهراً لمن هو آتٍ من أجيال.
فعلى الرغم من التّحديات والمخاطر الكبرى التي تتعرّض الآن لها الأوطان العربيّة، متفرّقةً أو مجتمعة، فإنَّ الإجابة عن سؤالين: "ما الحلّ" و "ما العمل" ما زالت متعثّرة على المستويين الوطني الداخلي، والعربي العام المشترك.
ربّما المشكلة هي في الفصل الحاصل بين السؤالين، وليست بالإجابة عنهما. فسؤال: "ما العمل"، داخل الوطن أو الأمّة، يقتضي أولاً الاتفاق على فهمٍ مشترك للمشكلة والواقع، ومن ثمّ تحديد الهدف المراد الوصول إليه، وهنا أهمية سؤال: "ما الحلّ؟". وبسبب غياب الرؤية المشتركة (أي الحلّ) التي منها تنبثق برامج "العمل" ومراحله التنفيذيّة على المستويين الداخلي والعربي العام، يتعذّر أيضاً معرفة من هم المعنيّون بتحقيق المرجو من الحلول والأهداف.. وللأسف ليس هناك بعدُ إجابات عربية واضحة عن كلّ هذه القضايا.
ولعلّ أسوأ ما في الواقع العربي الرّاهن هو حال التمزّق على المستويات كلّها، بما فيها المسائل التي لا يجوز الفصل أصلاً بينها. فشعار الديمقراطيّة أصبح نقيضاً لشعار التحرّر الوطني أو مقدّمةً لحروبٍ أهلية! والولاء الوطني أصبح يعني تنكّراً للعروبة وللعمل العربي المشترك! والاهتمامات الدينيّة أصبحت مدخلاً لصراعاتٍ طائفية ومذهبية!.
ربّما المدخل المدني الصحيح، في البلاد العربية، للتعامل مع هذه القضايا والمشاكل هو تحقيق تآلف وتنسيق بين المثقّفين العرب الذين يعتقدون بمفاهيم فكريّة تنطلق من القناعة بوحدة الهويّة العربية، والذين يشتركون في توصيف الواقع وإدراك أسباب مشاكله، ثمَّ الذين يسعون لوضع رؤية فكريّة مشتركة لمستقبلٍ عربيٍّ أفضل بناءً على صورة "الحلّ" المنشود والبديل المرغوب للواقع المرفوض. ربّما عند ذلك، يمكن لهؤلاء "المثقّفين العرب" أن يضعوا الإجابة السليمة عن السؤالين: "ما الحلّ" و"ما العمل".
المشكلة هنا أيضاً هي في غياب التنسيق والتواصل الدوري والتفاعل المشترك بين من هم فكريّاً في موقعٍ واحد لكنّهم عمليّاً وحركيّاً في شتات، بل في تنافسٍ أحياناً!.
لذلك فإنّ توفّر القيادات والطلائع السليمة، المنزّهة عن الغايات الشخصية والمنافع الخاصة، سيكون الأساس للحركة السليمة التي تنطلق أيضاً من فكرٍ سليم... لكن للأسف هناك "أدوار" عربية كثيرة تبحث الآن عن "أبطال"، بينما نجد على أرض الواقع "أبطالاً" كثيرين يبحثون عن "أدوار" لهم!.
صحيحٌ أنّ العرب لم يصلوا بعد إلى قاع المنحدر، وبأنّه ما زال أمامهم مخاطر كثيرة قبل أن تتّضح صورة مستقبلهم، لكن رغم وجود هذه المخاطر فعلاً، فإنّ ما تشهده الآن بلاد العرب من أفكار وممارسات سياسية خاطئة باسم الدين والطائفة أو "الهُويّات الإثنية" يمكن أن يكون هو ذاته، خلال الفترة القادمة، الدافع لتحقيق الإصلاح الجذري المطلوب في الفكر والممارسة، في الحكم وفي المعارضة. فقيمة الشيء لا تتأتّى إلاّ بعد فقدانه، والأمّة هي الآن عطشى لما هو بديل الحالة الراهنة من أفكار وممارسات سيّئة.
لكن من المهمّ الاتفاق أولاً على ضرورة نبذ أسلوب العنف المسلّح في أي عملية تغيير سياسي أو اجتماعي، إذ في غياب توفّر مقوّمات نظام سياسي ديمقراطي، فإنّ أيَّ أسلوبٍ عنفي لتحقيق التغيير سيتحوّل إلى أداة تفجير للمجتمع وللأوطان نفسها. فالصراعات الصحّية في المجتمعات تحتاج لضمانات التغيير الديمقراطي السلمي من قِبَل الحاكمين والمعارضين معاً.
اضف تعليق