تبين مما سبق إن الإرهاب المتمثل بالقاعدة ولاحقاً تنظيم داعش قد مارس منذ نشوءه في العراق استراتيجية تمزيق النسيج الاجتماعي العراقي من خلال إثارة النزاعات والحروب الطائفية ونشر الفكر التكفيري وتحريف العقائد وتهجير المكونات على أسس أثينية وطائفية للوصول إلى هدفه وهو الحصول على موطئ قدم وتوفير بيئة خصبة...
بقلم: علي صادق
ان الاستراتيجية التي تبنها ابو مصعب الزرقاوي كانت تهدف إلى اشعال حرب طائفية عن طريق ضرب الشيعة سواء كانوا مدنيين أو عسكريين بأسم اهل السنة، وفي تاريخ 12 فبراير عام 2004 نشرت صحيفة الحياة اللندنية بعض النصوص من رسالة الزرقاوي كان قد ارسلها إلى قادة التنظيم في أفغانستان وهم اسامة ابن لادن وايمن الظواهري لكن الرسالة لم تصل فقد ضبطت من قبل الأجهزة الأمنية العراقية بعد اعتقال حاملها.
بين الزرقاوي في الرسالة طبيعة التقسيم الأثيني والطائفي في العراق فقد قسمه الى (شيعة وسنة وأكراد) واخذ الزرقاوي يصف الشعب العراقي بأوصاف تنم عن النظرة الحاقدة لهذا الشعب، ثم يذكر الزرقاوي بإن الشعب العراقي فيه طوائف متناثرة ومتعددة ولا يمكن قيادتها إلا بسلطة مركزية قوية وسلطان قاهر، فقد اعترف الزرقاوي بصعوبة عمل القاعدة في العراق في ظل تعدد المكونات العراقية ولم يجد فصيل مسلح ينسجم مع عمل وعقيدة القاعدة في العراق بعد عام 2003، ثم يبدأ الزرقاوي الحديث عن التركيبة العراقية وقد وصف المكونات الثلاثة بالآتي:
أ_ وصف الزرقاوي الأكراد بأنهم عملاء للأمريكان وفتحوا إرضهم لليهود كما أنهم "أعطوا صفقة إيديهم وثمرة قلوبهم للأمريكان" وقد خبا صوت الإسلام عندهم وخفت بريق الدين في ديارهم. وهكذا دون تمييز يهاجم الكرد. وعندما يكتب عن خطة القاعدة لضرب الأكراد فإنّه لم يحن وهم في أخر القائمة. إلا إن الزرقاوي دعاء إلى اغتيال أهم رموز الأكراد إن أمكن ذلك
ب_ كما وصف الشيعة بأنهم العقبة الكؤود والأفعى المتربصة. وهم العدو الرئيسي في معركته في العراق وهم الخطر والتحدي الحقيقي والداهم والمهدد الأكبر لمشروع القاعدة في العراق. في أشارة من الزرقاوي لبث التفرقة تخدم مصالح القاعدة على الأمد البعيد.
ج_ صنف الزرقاوي السنة في العراق إلى ( عامة، علماء، مشايخ، إخوان المسلمين، مجاهدين) فعوام السنة في العراق عند الزرقاوي "همج رعام أتباع كل ناعق لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأو إلى ركن وثيق" أما المشايخ والعلماء فهم "في غالبهم هلكى حظهم من الدين مولد ينشدون ويرقصون فيه على حداء الحادي مع وليمة في الختام" وهؤلاء حقيقة أفيون مخدر واردة كذبة لأمة تتحسس سبيلها في ليل بهيم" ويتابع الزرقاوي ويذكر الأخوان المسلمين في العراق ويقول عنهم "يمتهنون التجارة بدم الشهداء ويبنون مجدهم الزائف على جماجم المخلصين، وقد أذولوا الخيل ووضعوا السلاح وقالو لا جهاد" كل سعيهم لبسط السيطرة السياسية والاستحواذ على مناصب التمثيل لأهل السنة في كعكة الحكومة المزمع انشاوءها بعد سقوط نظام صدام حسين وهم "ليست لهم أصول ثابتة ولا ينطلقون من قواعد شرعية" وفي الاخير تطرق الزرقاوي الى المجاهدين الذين يأيدون ويناصرون تنظيم القاعدة ويقومون بعمليات عسكرية ضد القوات العراقية والقوات الأمريكية ويصفهم الزرقاوي بإنهم "خلاصة أهل السنة وعصارة الخير في هذا البلد وهم ينتسبون إلى عقيدة أهل السنة والجماعة وإلى المذهب السلف".
ويعترف الزرقاوي في رسالته بأن رقعة العمل في العراق بدأت تصغر وأن الخناق بدأ يضيق على اتباعه مع انتشار الشرطة العراقية واصبح مستقبل عمل القاعدة في العراق صعباً، لكن يكمن تخوف الزرقاوي بأمر أثر سلباً على عمليات القاعدة في العراق وهو ليس فقط انتشار القوات العراقية بل خوفه ينبعث من عدم القدرة على استمالة جميع السنة وكسبهم للقتال إلى جانبه وتحقيق ما يصبو إليه وهو خلق عمق استراتيجي للقاعدة في العراق، لذلك اقترح الزرقاوي على قادة القاعدة إلى تشديد الحرب على الشيعة وقتلهم عسكريين ومدنيين بأسم اهل السنة قد يدفع ذلك الشيعة إلى الانتقام من السنة هذا ما كان يخطط إليه الزرقاوي فالحرب الطائفية والاقتتال الداخلي يستطيع من خلالها الزرقاوي وتنظيمه تأسيس أرضية خصبة لهم في العراق بحجة الدفاع عن أهل السنة.
فهو يقول في ذلك "إذا نجحنا في جرهم إلى ساحة الحرب الطائفية أمكننا من إيقاظ أهل السنة الغافلين"، ثم اخذ الزرقاوي بعد ذلك بتطبيق هذه الاستراتيجية في العراق وقام باستهداف الشيعة والذين يشكلون أكثر من 65% من سكان الشعب العراقي فقام الزرقاوي وتنظيمه بتفجير مساجدهم وأضرحة أئمتهم وأغتال الكثير من علمائهم وعامة الناس منهم. ونفذ عمليات كبرة استهدفت زوار عاشوراء. ومن ثم اغتيال العالم الشيعي السيد محمد باقر الحكيم عام 2003. وقد كان تفجير ضريحي (الإمامين العسكريين) من أئمة الشيعة في مدينة سامراء العراقية في فبراير عام 2006 الأثر الواضح في إثارة النزعة الطائفية في العراق، والتي كادت أن تؤدي إلى نشوب حرب أهلية في العراق، وتولد على أثر ذلك ضغطاً كبيراً على القوات الأمنية لضبط الوضع الأمني.
بعد ذلك قام الزرقاوي وتنظيمه بالإيحاء للمواطنين والرأي العام بأن القوات الأمنية العراقية لا تستهدف المسلحين بقدر ما تستهدف المواطنين المسالمين في مناطقهم، مما ولد لدى المواطن العراقي اعتقاداً بأن القوات الأمنية، تهدف إلى تعذيب وقتل أبنائهم وزجهم في السجون والمعتقلات ولأسباب طائفية وإن تلك القوات تدين لأحزابها الطائفية وليس للعراق.
سبب ذلك عزوف المواطنين في عدة مناطق عن التعاون مع القوات الأمنية سواء بالمعلومة الأمنية أو في التطوع في سلك الجيش والشرطة والأمن، أخذ الوضع الأمني بعد ذلك بالتدهور، إذ أخذت حواضن الإرهاب تتوسع في المناطق العراقية وظهرت ما يسمى (بالمناطق الساخنة) وهي المناطق التي تكون فيها قدرة التنظيمات الإرهابية على العمل والاتصال بالمواطنين وحواضن آمنة، واستغل تنظيم الزرقاوي تلك المناطق وشوارعها الرئيسية لينفذ فيها العمليات الإرهابية ضد المدنيين الشيعة وضد المواكب والإرتال العسكرية العراقية والأمريكية وقد شهد ما يسمى (بطريق الموت) الذي يربط جنوب بغداد بالمناطق الشيعية (كربلاء والنجف) اكثر حوادث قتل المواطنين الشيعة على أساس الهوية الطائفية.
ولدت تلك الأحداث التي قام بها تنظيم الزرقاوي بمسمياته المتعاقبة العنف المتبادل وردود الفعل هو ما عزز استراتيجية الزرقاوي الطامحة إلى الحرب الطائفية، وقد كثرت حالات عزل المناطق على أساس طائفي وازدادت حالات النزوح والتهجير القسري كما ازدادت حوادث الجثث المجهولة الهوية
سيطرة تنظيم داعش على المناطق العراقية
في 10 يونيو عام 2014 قام تنظيم داعش بالسيطرة على عدة مدن وقرى في شمال وغرب العراق بضمنها مدينة الموصل، وقد قام بارتكاب جرائم إرهابية ضد الأقليات السكانية العراقية (قتل، اغتصاب، اختطاف، تهجير، هدم دور عبادة ومقامات أولياء وأنبياء، سرقة آثار وتهجير سكاني على أساس عرقي وطائفي) وقد نشر التنظيم أغلب جرائمه على مواقع الاتصالات العالمية وفي موقعه الرسمي وقد ارتفعت جراء تلك الاعمال الإرهابية أعداد النازحين العراقيين لتصل إلى مليونين نازح لتسجل أعلى نسبة نزوح جماعي وهجرة داخلية في تاريخ العراق.
سعي داعش لتقويض عملية التعايش في العراق
تبين مما سبق إن الإرهاب المتمثل بالقاعدة ولاحقاً تنظيم داعش قد مارس منذ نشوءه في العراق استراتيجية تمزيق النسيج الاجتماعي العراقي من خلال إثارة النزاعات والحروب الطائفية ونشر الفكر التكفيري وتحريف العقائد وتهجير المكونات على أسس أثينية وطائفية للوصول إلى هدفه وهو الحصول على موطئ قدم وتوفير بيئة خصبة، وأن يديم هذه الحالة ما استطاع، لأن في ديمومة النزاع الطائفي استمرار وتطور لتنظيم داعش، حيث يخلق هذا النزاع نوع من الحروب الأهلية، التي تولد حالة من الاستقطاب والتطرف.
وقد سعى تنظيم داعش إلى تعقيد عملية إعادة التعايش السلمي من خلال إطالة أمد الحرب الطائفية، وترسيخ الهوية الإثنية بدلاً من الهوية الوطنية الموحدة للمجتمع، وبذلك يحول التنوع الإثني من عامل إبداع ودافع إنتاج وتطوير إلى عامل تناحر وتصارع وعنف داخلي يمزق النسيج الاجتماعي ليجعل الحل السلمي والتعايش المجتمعي بعيد المنال، فيتطور الصراع وأشكاله ليمتد إلى الأجيال القادمة، وبذلك يكون البلد مهيأ للتقسيم إلى دويلات على أساس أثني وطائفي وهذا من أكبر المهددات التي تواجه الدولة وأمنها القومي.
بالإضافة إلى ذلك إن أنشطة داعش ساهمت في التحول الفكري الحاصل في سلوك المجتمع العراقي المتجه نحو الإحباط كلما استمرت وتنوعت جرائم وأنشطة داعش، مما أفضى إلى بلورة اتجاه نقدي حاد من قبل المجتمع يحمل التراث (الديني) مسؤولية الانهيارات الحاصلة في نسيج المجتمع العراقي، بدا هذا الاتجاه واضحاً في أوساط الشباب العراقي وعزوفهم باتجاه الفكر الغربي وتجربته، وهذا ما تسعى إليه دوائر المخابرات الغربية، فقد وجدت تلك الدوائر الفرصة في أخذ دورها في توجيه الشباب وإقصاء وتهميش التوجيه الوطني المحلي ، وهذا ما سيحدث تغيراً في السلوك والعادات والتقاليد المحلية وتبديل في القاعدة الفكرية للمجتمع العراقي في المستقبل.
اضف تعليق