التربية باللاعنف هو منهاج الحكماء والعقلاء والاحرار حول العالم، وهو منهاج سماوي سار عليه الأنبياء واوصيائهم والمصلحون في الأرض، ولعل المسلمين مدعوون أكثر من غيرهم للمبادرة والتوعية والاتباع لهذا المنهاج الذي يشكل صميم اخلاقهم وحضارتهم وثقافتهم الإسلامية، وبأمس الحاجة إلى أن يعتمدوا اللاعنف منهجاً وسلوكاً في جميع أعمالهم...
لا يمكن تحقيق السلم والأمان والتعايش بين افراد المجتمع من دون وجود ثقافة اللاعنف التي يعتبرها الإسلام من الأساسيات التربوية والأخلاقية في منظومته الفكرية والعقائدية، ومنها يمكن ان يحقق الاستقرار في باقي مجالات الحياة، لأنها الركيزة التي ينطلق منها المجتمع في تربية وتحصين الأجيال للمستقبل الخالي من العنف وتبعاته المدمرة، في مقابل وجود من يؤمن بالعنف كطريقة لحل المشاكل وإزالة العقبات ولكن ذلك سينتج المزيد من الازمات التي تحتاج الى تفكيك ومعالجة وهو ما سيدخل المجتمع (افراد وجماعات) في دوامة لا تنتهي من الفشل والسلبيات والإحباط نتيجة للتخبط والعنف والعنف المضاد والدمار الذي ينتشر في كل مكان.
وفي عالم لا يكاد يخلو من العنف المفرط في اغلب مفاصله التربوية والاجتماعية والحقوقية والسياسية والاقتصادية، يمكن ان يقود هذا الوضع، في حال استمراره، الى كارثة تحول الأرض كمكان غير صالح للتعايش الإنساني مستقبلاً، خصوصاً لمن لا يستمع الى صوت العقل والمنطق والأخلاق، ربما باستثناء نداءات خجولة لا ترتقي لحجم المأساة التي تعيشها البشرية الان وفي الغد القريب.
لا مبالغة في القول ان العالم يعيش اسوأ مراحل ما انتجه الاستبداد والعنف والقسوة والمصالح والانانية من أنظمة وجماعات ومدارس ونظريات سلبت حقوق الانسان واحلامه وكرامته وامنه واستقراره وحولته اما الى آلة منتجة او مستهلك بلا حدود، وكلاهما يخشى ان يطالب بحقوقه او يطمح الى عالم الاخلاق او عالم بلا عنف واستغلال واحتكار، وهو عالم مليء بالثمار الإيجابية التي يعبر عنها الامام الشيرازي (رحمه الله) بقوله: "الثمار الإيجابية التي يجنيها الإنسان من سياسة اللاعنف في حياته هي محبة الآخرين والتفاف الناس حوله.
طبعا هذا الدور يقع على عاتق المصلحين او "الجانحون الى السلام" بحسب تعبير الامام الشيرازي (رحمه الله): "إن الجانحين إلى السلام بقوا أعلاماً في بلادهم وفي غير بلادهم، بينما الجانحون إلى العنف والخشونة والشدة والغلظة، ذهبوا ولم يبق لهم أثر، إلاّ آثار النفرة والابتعاد"، وهو خلاف دور المستبدين الذين يجنحون الى "أسلوب العنف" الذي يعتبره الامام (رحمه الله) بانه من: "المصاديق الظاهرية لتغلب القوى الشريرة في الإنسان على القوة الخيرة"، والفرق واضح بين التوجهين.
وقد يتبادر الى الذهن سؤال مهم يتمحور حول إمكانية اصلاح ما أفسده العنف في عالم عنيف نعيشه اليوم؟ وإذا أمكن ذلك فما هي الخطوات التي يمكن القيام بها لتحقيق هذا الامر؟
الحق يقال ان العالم يمكن ان يتغير نحو الأفضل لكن مع القيام بالخطوات الصحيحة نحو التغيير، واولى خطوات التغيير نحو تصحيح المسار العنيف الذي يعيشه عالم اليوم بالمنهاج السليم هو اتباع التربية باللاعنف التي يمكن ان تساهم بشكل محوري في اعتماد الأسلوب الأمثل في الحياة، وتستهدف هذه التربية الامة (المجتمع) بحسب ما يشخصه الامام الشيرازي (رحمه الله) لأنها السبب في زوال مسبب العنف وهو المستبد الذي يعتمد في بقاءه وقوته على بقاء العنف واستمراره: "من أهم طرق زوال المستبد، هو تربية الأمة وتوعيتها، ودعوتها إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحينها تصبح مرصاداً ترصد تحركات المستبد، بدل أن تكون مصفقه له".
وينطلق الامام الشيرازي في صياغة نظرية اللاعنف للوصول الى التكامل الأخلاقي والتربوي المبني على نبذ العنف وبناء المجتمع الصالح من خلال تحديد علاقات الانسان الاساسية:
1. علاقة الانسان مع ذاته والتي تستقيم بتربيتها وفق سلوك اللاعنف
2. علاقة الانسان مع الآخر مهما كان جنسه او دينه او لونه او معتقده
3. علاقة الانسان مع المجتمع وكيفية صنع التأثير الإيجابي
ولان الامام الشيرازي يرى ان اللاعنف هو علاج لأمراض قد تصيب الفرد او المجتمع نتيجة للعنف، فانه يشخص حالة أكثر خطورة تتجلى في تحول مختلف أنماط العنف المزمنة داخل المجتمع الى ثقافة راسخة يتربى عليها الافراد كبديل عن ثقافة اللاعنف، وبالتالي تحول المجتمع الى مجتمع عنيف تصعب معه عملية التغيير والإصلاح.
ويمكن علاج المشاكل الاجتماعية التي ينتجها العنف المزمن داخل المجتمع من خلال ممارسة "الرفق" و"اللاعنف": "الرفق وعدم العنف أحسن وسيلة لقلع جذور المشاكل الاجتماعية أو التخفيف منها، وأيضاً، تعويق الحركات المضادة أو المعادية"، لان هذا الأسلوب سيعود على البشرية بالخير والسعادة في الحياة مع تحقق:
1. انتشار الأمان
2. الطمأنينة
3. المحبة
4. التعاون بين الناس
وإذا تحققت هذا النتائج ستكون مقدمة لذوبان المشاكل التي تعاني منها البشرية وبالتالي النجاح للوصول الى المجتمعات السعيدة من خلال تعاونها ومحبتها واستقرارها وعيشها بعيداً عن العنف وما يولده من صراعات وكوارث لا تجلب سوى الشرور والدمار.
ان التربية باللاعنف تعتمد على ثلاثة اقسام رئيسية بحسب الدكتور سعد الامارة: "يقسم الشيرازي اللاعنف إلى أقسام بعد أن آمن به كمنهج وطريقة يعالج بها الإنسان الاشياء بكل لين ورفق، فهو يقسم اللاعنف:
القسم الأول من اللاعنف فهو: في اليد وهو انه لا يمد الإنسان يده نحو الاعداء ولو بالنسبة إلى أقوى خصومه ولو كان المد لرد الاعتداء، ويضيف السيد الشيرازي إن اللاعنف اليدوي سلاح يجلب إلى الداعية النفوس، ويؤلب على أعدائه.
القسم الثاني من اللاعنف فهو: اللاعنف اللساني، وهو انه يلزم الإنسان لسانه، ويلجم كلامه عن النيل من المعتدي وهو فضيلة كبرى.
أما القسم الثالث وهو: اللاعنف في القلب، وهو انه لا يملأ الإنسان الداعية قلبه بالعنف بالنسبة الى خصومه ومناوئيه".
ومع ان الامام الشيرازي يصنف اللاعنف بين (القسري) الذي يكره عليه الانسان، واللاعنف (العقلائي) الذي يوازن بين الأمور ويقدم الأهم، الا انه "يؤكد على اللاعنف الذي يجب أن يجعله الإنسان شعاراً هو اللاعنف الملكي (نسبة إلى الملكة -القدرة)"، لأنها الأهم والابقى خصوصاً مع تحولها الى ملكة داخل وجدان الانسان، ولا تأتي هذه الملكة الا من خلال التربية باللاعنف للفرد والمجتمع وصولاً على تجذرها في النفس.
والخلاصة ان "التربية باللاعنف" هو منهاج الحكماء والعقلاء والاحرار حول العالم، وهو منهاج سماوي سار عليه الأنبياء واوصيائهم والمصلحون في الأرض، ولعل المسلمين مدعوون أكثر من غيرهم للمبادرة والتوعية والاتباع لهذا المنهاج الذي يشكل صميم اخلاقهم وحضارتهم وثقافتهم الإسلامية، لذلك كان الامام الشيرازي من السباقين لدعوة المسلمين لاعتماد اللاعنف كأسلوب حياة لا غنى عنه: "إن المسلمين بأمس الحاجة إلى أن يعتمدوا اللاعنف منهجاً وسلوكاً في جميع أعمالهم"، مخالفاً بذلك كل من دعا الى العنف في حل قضاياه او المطالبة بحقوقه: "يتصور أنه يمكن إنقاذ بلاد الإسلام بالعنف، سوف يبرهن له الزمان عكس ذلك"، وهي حقيقه اثبتتها التجارب واعترف بها الجميع، لان العنف لا يولد سوى المزيد من العنف، اما اللاعنف والرفق والتربية التي تقوم على أساس مناهضه العنف ورفضه فإنها الطريق الاسلم لتطور جميع الشعوب وازدهارها وتعاونها بما فيها الشعوب الإسلامية.
اضف تعليق