غالبت الأم الشابة دموعها وهي تحتضن طفليها لوداعهما، واستقلت سيارة الأجرة التي ستأخذها إلى زوجها الجديد، وسرعان ما تجمع الجيران وهم يعدون بأنهم سيقدمون المساعدة. أما الطفلان فلم يهدأ بكاؤهما إلا عندما أخذا بعض الحلوى، لكنهما لا يدركان أن أمهما قد لا تعود ثانية...
أمهلت السلطات العراقية في الشهر الماضي عائلات النازحين، الذين فروا من الحرب مع تنظيم داعش، 48 ساعة فقط لحزم أمتعتها ومغادرة مخيم الإسحاقي قبل إغلاقه، بعد انقضاء المهلة، وصلت شاحنات صغيرة وعربات عسكرية لإعادة حوالي 200 شخص إلى مسقط رأسهم، لم يكن طعمة العويسي يرغب في الرحيل هو وآخرون غيره ممن عاشوا لسنوات بالمخيمات، لكنهم يقولون إنهم أُرغموا على ذلك. بحسب رويترز.
عادوا وفي انتظارهم مستقبل غامض، ومدن محطمة بلا خدمات، تحت حصار فصائل مسلحة تنظر للعائدين بعين الريبة، لا لشيء سوى أنهم ظلوا على قيد الحياة في ظل سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية، وفر مئات الآلاف خلال سنوات الصراع الذي بدأ في شمال العراق عام 2014 عندما استولى التنظيم على مناطق شاسعة وفرض حكمه الذي انتهى عام 2017 بالهزيمة على يد قوات عراقية مدعومة بنيران سلاح الجو الأمريكي.
تحولت المدن والبلدات والقرى إلى أطلال بما فيها الموصل، التي أعلنها التنظيم عاصمة لدولة خلافة، يعيش العويسي الآن خارج محطة مهجورة للسكك الحديدية في بلد، على بعد 90 كيلومترا شمالي بغداد. يقع منزله على بعد حوالي ثلاثة كيلومترات، لكنه لا يجرؤ على عبور نقاط التفتيش التي تحرسها الفصائل المسلحة للوصول إليه. بحسب رويترز.
وينحي سكان محليون باللائمة على فصائل مسلحة تهيمن على المنطقة ذات الأغلبية السنية في خطف ثمانية رجال وقتلهم في أكتوبر تشرين الأول. وقال رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي حينها إن حكومته تلاحق الجناة وإن على العراق تجنب "التناحر الطائفي".
رغم ذلك تعقد حكومته العزم على إغلاق المخيمات في معظم محافظات العراق بحلول نهاية العام، وهي خطوة تقول جماعات حقوقية إنها قد تؤدي إلى تشريد 100 ألف إنسان، لن يجدوا من يساعدهم، وتقول وزارة الهجرة إن عمليات الإغلاق تأتي في إطار برنامج للعودة الآمنة والطوعية، لكن منتقدين يقولون إنها تتم بتنسيق ضعيف وسابقة لأوانها لأن الكثير من المناطق التي كان يسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية صارت خرابا، أو تحت سيطرة جماعات معادية للعائدين.
والعويسي واحد من حوالي 23000 شخص جرى نقلهم من المخيمات الرسمية التي تتمتع بالخدمات الأساسية إلى مخيمات غير رسمية منذ منتصف أكتوبر تشرين الأول، حسبما تقول وكالة الهجرة التابعة للأمم المتحدة.
وقال لهيب هيجل، وهو كبير محللين في مجموعة الأزمات الدولية، إن الحكومة "تعتمد على طرف آخر للاعتناء بالأمر، وأقصد بذلك المجتمع الدولي"، ونفت وزيرة الهجرة إيفان فائق جابرو إرغام أي نازح على العودة من المخيمات. وقالت لرويترز إن العائدين يحصلون على الدعم والمساعدة، لكن أكثر من عشرة نازحين في أجزاء من شمال العراق منها بلد والموصل والخازر والقيارة قالوا لرويترز إنهم لم يحصلوا على أي دعم من الحكومة.
وقال العويسي إنه عندما أنزلته الشاحنات هو وحوالي 40 عائلة أخرى في موقع جديد في بلد، كان المكان خاليا من كل شيء. لم يتم تسوية الأرض، ولا إزالة الأنقاض، ولم يكن هناك ماء ولا كهرباء، ضربت الأسر خيامها وأنشأت مخيما خاصا بها، حسبما قال سبعة جرت مقابلتهم هناك، وصلت مجموعات الإغاثة الدولية فيما بعد وقدمت لهم الطعام والماء. لم يتوافر الصرف الصحي على مدى أسبوعين تقريبا. ولم يكن بمقدور النساء الذهاب إلى المراحيض المقامة في العراء سوى في ساعات الليل تحت ستر الظلام الذي يمنحهن بعض الخصوصية، اشتكت أمهات من إصابة أطفالهن بالأمراض بسبب البرد. فليس لديهم كهرباء لتشغيل أجهزة التدفئة.
مكشوفون ومذعورون
هناك مشاعر عميقة بالريبة والاستياء إزاء من تمكنوا من البقاء على قيد الحياة في ظل تنظيم داعش، في مجتمعاتهم وقبائلهم، وبشكل خاص بين الفصائل الشيعية التي ساعدت في إلحاق الهزيمة بالتنظيم، ثم بقت في تلك المناطق.
تنفي الفصائل المسلحة أي دور لها في أعمال القتل غير المشروعة. لكن عمار حكمت محسن نائب المحافظ بمحافظة صلاح الدين قال إن مقتل الرجال الثمانية يكشف سبب شعور الناس بالقلق من العودة إلى ديارهم، قال مهاوش محسن رئيس بلدية بلد إن الحكومة لم تفعل شيئا يذكر للتحضير لعودة السكان.
ونفى المتحدث باسم وزارة الهجرة أن تكون المناطق التي عاد إليها النازحون غير آمنة، قائلا "الشعور بالأمان هي حالة نفسية"، وقال قريب لقتلى حادثة بلد "إحنا هسه هيج وضعيتنا (هذا حالنا الآن) بالعراق -أبو عضلات يعيش (الأقوياء هم الذين يعيشون)".
الأطفال المولودون في عهد داعش في العراق
يقصيهم المجتمع ويحط من قدرهم وأحيانا يتخلى عنهم تماما.. هذا هو الثمن الذي يدفعه آلاف الأطفال الذين ولدوا في العراق لمن يشتبه أنهم من مقاتلي تنظيم داعش، وفي مخيم حسن شام للنازحين بشمال العراق لا تكف الطفلة عائشة عن الإلحاح على أمها مطالبة بالذهاب للمدرسة. والد عائشة اختفى بعد انضمامه لتنظيم داعش وقالت أمها التي رفضت الإفصاح عن اسمها إن عائشة تبكي طول الوقت وتقول إنها تريد الذهاب للمدرسة. لكن الأم تقول لها إنها لا يمكنها الالتحاق بالمدرسة فهي لا تحمل الجنسية. بحسب رويترز.
ومثل آلاف غيرها من الأطفال الذين ولدوا لأبوين عاشا في مناطق حكمها تنظيم داعش في الفترة بين عامي 2014 و2017، لا تملك عائشة شهادة ميلاد رسمية وليس من السهل استخراج شهادة لها، فبدون أوراق يصعب الحصول على الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية. وفي عام 2018 أصدرت وزارة التعليم توجيها يسمح للأطفال غير المسجلين بالتقديم للالتحاق بالمدارس، لكن منظمات أهلية إنسانية تقول إن ذلك لا يطبق على أرض الواقع بشكل منتظم.
وقال كارل شمبري المستشار الإعلامي الإقليمي للمجلس النرويجي للاجئين لرويترز "هناك الكثير من التعقيدات فيما يتعلق بتسجيل الأطفال الذين ولدوا أثناء سنوات حكم تنظيم الدولة الإسلامية. والعديد منهم لم يسجلوا بعد".
وأضاف "ليس لديهم وثائق مدنية مما يحرمهم من الحقوق الأساسية كمواطنين عراقيين"، وفي عام 2019 أشارت تقديرات المجلس النرويجي للاجئين إلى أن نحو 45 ألف طفل غير مسجلين يعيشون في مخيمات بالعراق، ومن أجل تسجيل عائشة لدى السلطات تقول أمها إنه يتعين عليها أولا الحصول على تصريح أمني يستبعد أي صلة لها بتنظيم داعش.
وتنتظرها بعد ذلك متاهة من الإجراءات البيروقراطية تشمل سلطات محلية ومحاكم وأجهزة أمنية بالإضافة إلى رسوم إدارية تقول إنها لا تقدر على دفعها، وفي خيمة أخرى تقول أم لثمانية أطفال إنها قلقة بشكل خاص على حفيدتها ديما التي ولدت في المخيم لكن والديها تزوجا على يد رجال الدين بتنظيم داعش في محافظة صلاح الدين.
فديما لا تملك شهادة ميلاد كما أن والديها ليس لديهما قسيمة زواج معترف بها، وهي وثيقة مطلوبة وفقا للقانون العراقي لتسجيل أي طفل، وقالت الجدة إنه لم تكن هناك شهادات تصدرها المحاكم أو الحكومة، وشهادات الدولة الإسلامية لا تعترف بها الحكومة، لذا مزقوا هذه الشهادات وتخلصوا منها.
وصمة اجتماعية
تدرك السلطات العراقية محنة هؤلاء الأطفال. وقالت وزارة الداخلية العراقية لرويترز إن الحكومة شكلت لجنة مشتركة بين الوزارات مكلفة بالتعامل مع هذه المسألة، وقال علي عباس المتحدث باسم وزارة الهجرة إنهم أحصوا ما يقرب من 400 عائلة في المخيمات بشمال العراق ليس لأطفالها أي وثائق مدنية.
وقال عباس إن الأطفال الذين ولدوا في عهد تنظيم الدولة الإسلامية يواجهون مشكلة، فإذا لم تكن هناك شهادة زواج، كيف يمكن معرفة ما إذا كانت المرأة هي فعلا والدة هذا الطفل، ويدفع هذا المأزق القانوني بعض الأمهات لخيارات صعبة وأحيانا لا تحتمل، وقالت لهيب هيجل كبيرة محللي شؤون العراق في مجموعة (كرايسس جروب) "من الممارسات الشائعة لحل هذه المشكلة أن تتزوج المرأة برجل آخر ليتبنى الطفل، أو أن تتزوج أحد أفراد الأسرة كشقيق الزوج"، إلا أن مشاعر الخوف والكراهية لتنظيم الدولة الإسلامية لا تزال متغلغلة، ويلقى الأطفال الذين كان لآبائهم صلات بهذه الجماعات معاملة المنبوذين مما يحول دون دمجهم في المجتمع، وفي خيمة قريبة، تحزم أم لطفلين غير موثقين تبلغ من العمر 24 عاما أمتعتها حيث تلقت عرضا بالزواج في فرصة غير متوقعة لها لتغادر المخيم وتبدأ حياة جديدة كزوجة ثانية لرجل يعيش في بلدتها بمحافظة صلاح الدين.
إلا أن هذا الرجل طلب منها أن تأتي من دون طفليها، وهما في الثالثة والخامسة من العمر، ووافقت على تركهما في المخيم مع جدتهما، وقالت الجدة "لقد تركت الطفلين وذهبت لتتزوج مرة أخرى. فزوجها الجديد لا يريدهما ويقول إنهما من أطفال تنظيم الدولة".
وتقول بلقيس ويلي، كبيرة الباحثين في منظمة (هيومن رايتس ووتش) لرويترز إن هذه ليست حالة معزولة، وقالت ويلي "في كثير من الأحيان تقول نساء إن الزوج الجديد يرفض أخذ أطفالهن معهن لأنهم يعتبرونهم ‘ملوثين بدم تنظيم داعش‘، فيتركون وراءهم هؤلاء الأطفال محرومين من أمهاتهم ودون خدمات تذكر أو فرصة في التعليم".
غالبت الأم الشابة دموعها وهي تحتضن طفليها لوداعهما، واستقلت سيارة الأجرة التي ستأخذها إلى زوجها الجديد، وسرعان ما تجمع الجيران وهم يعدون بأنهم سيقدمون المساعدة. أما الطفلان فلم يهدأ بكاؤهما إلا عندما أخذا بعض الحلوى، لكنهما لا يدركان أن أمهما قد لا تعود ثانية.
اضف تعليق