q
سياسة - عنف وارهاب

الدين ونقد ذهنية التكفير

المدرسة الإسلامية نموذجاً

 بسم الله الرحمن الرحيم..

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الخلق وأعز المرسلين نبينا محمد المصطفى وآله خير الورى والسلام على أصحابه النجباء وجميع الأنبياء والمرسلين والشهداء والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

كنا نقرأ التاريخ وما وقع فيه من أحداث دامية وجرائم بشعة وما يحمل من صور مأساوية فنكاد في كثير من الأحيان أن لا نصدق ما نقرأه ونحاول أن نخفف من وقعها ونغض الطرف عن بعض مقاطعها وإن كان ذلك يستدعي تكذيب الراوي والمؤرخ.. لأنها صور تحمل من الإجرام ما لا يتصوره العقل إلا أنه اليوم وبعد ما شاهدناه ونشاهده بأم العين وما يجري من حولنا من أحداث ومسلسلات متواصلة من القتل والقتل المتبادل بات من الواجب علينا أن نقرأ هذه المجموعات التكفيرية بمكوناتها وعقائدها ودوافعها وأسباب نشوئها والأهداف التي تبتغي الوصول إليها.. فالتكفير ظاهرة موجودة على مرّ التاريخ وليست وليدة هذه الأيام ولا الأحداث..

فيمكن القول أن التكفير هو عبارة عن تسلط، فقمع فعنف؛ فهو مفردة يستعملها كل من تضيق به السبل عن إثبات وجهة نظره ورؤيته، فيضطر إلى اللجوء لهذه النظرية والتستر خلفها حتى يُضفي شرعية على عمله وموقفه..

ومن هنا فإننا لا نجد الشرائع السماوية وبالتالي الأنبياء والرسل بحاجة إليها؛ بيد أنهم يملكون من الأدلة والبراهين ما يكفيهم لإثبات ما عندهم وفي أسوأ الأحوال يمتلكون الجرأة والشجاعة لقبول الآخر حتى لو كان معانداً مكابراً.. فأساس الشرائع يقوم على مبدأ لا إكراه في الدين بل يمكن القول أن أساس الوجود البشري قائم على قاعدة الاختيار والاختبار ومن دونهما ينتفي مشروع الخلق وما يؤول إليه أمر البشرية من الثواب والعقاب..

ولما كان" لا إكراه في الدين" كان تبليغ الرسالة تعليماً وتزكيةً وتذكيراً {فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر}.. ومن ينطلق من فكره من هذه القاعدة لا يمكنه أن يلجأ في حال من الأحوال إلى القمع والعنف.. فصاحب الفكر التكفيري عاجز عن إثبات حقه وصحة فكره ولا يمتلك القدرة على المحافظة على وجوده وحيثيته..

وبعد الذي تقدم يمكن لنا أن نقرأ سيرة الشرائع السماوية ووسائل الأنبياء في تبليغ المجتمعات.. فالشرائع السماوية على اختلاف أزمنتها والمجتمعات الحاضنة لها لا تحمل مشروعاً تصادمياً مع الآخرين أياً كانوا فضلاً عن عدم تصادمها مع الشرائع التي سبقتها.. بل نجدها تحرص كلَّ الحرص على التكامل مع الشرائع السابقة والاهتمام بتصويب الانحرافات التي تحدث في المجتمعات..

نعم، للشرائع السماوية موقف خاص وأسلوب واضح تجاه العقائد الوثنية فلا مجال للتقارب معها أو السكوت عنها ومع ذلك لا يمكن لهذا الموقف أن يكون سبباً لفتح جبهة تسقط فيها الموازين وتنتهك الحرمات وتداس القوانين بل تبقى المواجهة قائمة على أساس الحجة والبرهان والدليل وإعمال العقل وتحريك المشاعر الإنسانية وإيقاظ الوعي عند الفرد لتحمله على إعادة النظر في اعتقاداته ورؤاه وأهدافه.

وشواهد ذلك كثيرة في تعاطي الأنبياء مع مجتمعاتهم الدينية والوثنية فشيخ الأنبياء إبراهيم سلام الله عليه منذ أن بدأ الدعوة لتوحيد الله كان يحرك مشاعر الطرف الآخر في اعتقاداته ويصوب تفكيرهم من خلال حواراته معهم عند مشاهدته للنجم والقمر والشمس إلى تقطيع الطير وإعادة الروح إليه إلى تكسير الأصنام وإثارة روح الوعي في ترك كبيرهم للعود إليه.. وإلى موسى سلام الله عليه وكل ما حصل بينه وبين قومه في رفضه لعبودية لأشخاص وفرعنة الإنسان والحوارات التي دارت بينه وبين فرعون زمانه وتوجيه الناس باتجاه الحق ورفض الباطل. إلى عيسى سلام الله عليه وما جرى مع أولئك الذين واجهوه وتحمّل ما تحمّل ولم يكن منه إلا الصبر والثبات حرصاً على سلامة الأمة والوصول بها إلى برّ الأمان.. إلى نبينا محمدٍ (ص) وما لاقاه وما تحمله حتى قال: "ما أوذي نبيٌ كما أوذيت "ومع كل ذلك حينما دخل مكة وهو الذي لاقى ما لاقاه من قريش وأحلافها رفع شعار " اليوم يوم المرحمة" وصرّح بذلك البيان الخطير: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" والذي كان رأس الحربة في جميع الحروب والمواجهات التي حصلت مع الإسلام والمسلمين.. فالدين لم يحمل مشروعاً تصادمياً مع أحد بل حتى مع المشركين الذين بذلوا كلَّ ما بوسعهم للوقوف أمام المشروع السماوي..

فالإسلام خير نموذج في هذا المضمار ودخول مكة شاهد على ذلك.. والسبب المهم في حمل هذه المبادئ والأسس في الإلتزام بسلمية الدعوة لأنه هو الغرض من بعثة الأنبياء والشرائع حيث المطلوب منهم أن يكونوا العلامة الجامعة لا سبب تفريق واقتتال.. فكان العنوان الأساس لبعثة النبي (ص) "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وفي البعد الآخر كان العنوان لبعثة النبي (ص) "وما بعثت إلا لأتمم مكارم الأخلاق" فبين الأخلاق والرحمة لا يمكن أن نجد مفردة من هذه المفردات التي عانى منها المجتمع وما زال يعاني إلى يومنا هذا..

وكذلك يمكن القول أن من الأسباب التي دعت الإمام الحسين (سلام الله عليه) للهجرة من مكة وعدم قبوله البقاء والمواجهة فيها لئلا تنتهي الأمور إلى اقتتال داخلي وانقسام اجتماعي يُفرغ مشروعه من محتواه ويضيع الأهداف التي أراد لهذه الحركة تحقيقها ألا وهو إسقاط صنمية بني أميّة وإنقاذ العقيدة والشريعة من مخالبهم وعدم السماح بقلب المشروع النبوي إلى مؤسسة عائلية تحكم باسم الدين وهو أخطر ما يمكن أن يُتصوّر حيث يصبح المشروع السماوي مشروعاً شخصياً يخدم أهدافاً خاصة..

بقراءة سريعة للمواجهات الحربية التي حصلت بين الإسلام والمشركين، نلاحظ مسار الأحداث في تطور المواجهة بين الإسلام والمشركين أن القرآن الكريم يصرّح بالإذن للمسلم بمواجهة المشركين في حال الاعتداء عليه، حيث يقول: {أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا}. وفي موضع آخر يقول الله عزّوجلّ: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}. وهذا تصريح بكونه إذناً في الدفاع عن النفس لا بدءاً بقتال وإعلان حالة الإلغاء للطرف الآخر، فالقتال وسيلة من وسائل حفظ النفس لا التوسع والاستقطاب.. هذا فضلاً عن أن تكون الشرائع السماوية تدعو أتباعها إلى قتال من يشترك معهم في التوحيد والإيمان وهذا ما لم يسجله التاريخ في كل حروب النبي (ص) وغزواته..

وهنا لا بد من دراسة الغزوات والسرايا دراسة معمقة للوقوف على أسبابها وحيثية كل واحدة منها وكيف كانت تُدار من قبل النبي (ص) وكيف كانت تنتهي المعركة.. نعم لا يمكن القول أن السيف لم يكن له دور في حركة النبي (ص) للسيف دور ولكن كان دوراً حارساً ودافعاً لشرور الأعداء.. وهناك فرق كبير بين غزوات النبي (ص) والفتوحات التي حصلت ما بعد مرحلة النبي (ص) والتي تحتاج إلى حديث مستقل ومطوّل.. بل يمكن أن يكون ذلك أحد أسباب طلب النبي (ص) من أتباعه الهجرة إلى الحبشة في بداية الدعوة لكيلا تصل الأمور إلى التصادم الداخلي بين المسلمين والمشركين في مكة وتنقلب الدعوة الصالحة المسالمة إلى صراع دموي لا يبقي ولا يذر.. فكأن النبي (ص) أراد أن يبعدهم عن نقطة التوتر والمواجهة والفتنة التي كانت ترغب بها قريش وتطمع بوقوعها، بل يمكن القول أن النبي (ص) لم يقم حكم الإعدام على أحد ممن كان يختلف معه في الرأي بل حتى من كان من الممكن أن يكن العداء للمسلمين وكثيراً ما تحدث القرآن عن وجود طبقة منافقة في الجسم المسلم ومع ذلك لم يعالج بالقمع والقوة..

ومن هنا لا بدّ لنا من نظرة سريعة إلى أوّل من رفع شعار التكفير في الإسلام ودراسة ظروفه لنرى بوجه من رُفع ذلك السيف وعلى رقاب من وقع؟.!! وما هو ثابت، ومسلّم، أن شعار التكفير رُفع في صدر الإسلام مرتين.. لو عدنا إلى التاريخ بصدقٍ وبدقة لوجدنا أن شعار التكفير رُفع في صدر الإسلام مرتين؛

الأولى: من قبل الحاكم تجاه الرعية وهو ما أنتج حرب الردّة..

 والثانية: من الرعية تجاه الحاكم وهو ما أنتج معركة النهروان.

وهنا لا بد من دراسة موضوعية للحالتين والفوارق بينهما ومقارنتهما مع ما يحصل في زماننا والجامع بين عصرنا هذا وذلك العصر وكيفية التعامل مع هذه الظاهرة ووسائل علاجها بعد الوقوف على أسباب نشأتها..

ومما تقدم من أن الإسلام لا يعرف التكفير، بل لا يوجد في أدبياته مفردة تكفيرية قائمة على الاختلاف مع الآخر بالرأي والفكر، مفردات التكفير في القرآن لا يمكن لمفردة أن نجد إنها ترمز إلى اختلاف في الرأي أو بمجرد اختلاف في العقيدة وإنما للكفر عنوان آخر نأتي عليه إن شاء الله.

 ندرك أن لجوء الحاكم إلى سلاح التكفير كان قناعاً يُخفي خلفه ضعفه، هرباً من حقيقة مرّة كان يدركها حيث إنه لم يكن باستطاعته إثبات ذلك العنوان الذي اِستتر خلفه ألا وهو كونُه خليفة الله ورسوله والجهة الشرعية الواجبة الطاعة فشهر سيف التكفير قمعاً للأصوات التي راحت تعلو في المجتمع الإسلامي بعد رحيل النبي (ص) لتثبت حكمه ويكمّم الأفواه المناهضة له.. وشواهد ذلك كثيرة، منها جباية الزكاة ووجوب دفعها له بقوة السلاح، ويخبرنا التاريخ بامتناع جماعة من خيار المسلمين عن دفع الزكاة لاعتقادهم بافتقار الحاكم للشرعية، وعدم أهليته للخلافة، فما كان إلا أن أحكم السيف في رقابهم بعد رميه له بالكفر والارتداد..

بينما ترى في الحالة التكفيرية الثانية التي ابتليت بها الأمة عكس الأولى، فحين عجزت شريحة من المسلمين عن مجاراة حاكمهم العادل في عدالته، لجأت إلى مواجهة عدالته بظلمهم، فرفعت شعار التكفير للحاكم وعاثت في الأرض فساداً..

ورغم كل ذلك لم يتعرض أمير المؤمنين (سلام الله عليه) وهو الحاكم المبسوط اليد بسوء لأيّ منهم، بل لجأ إلى الحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، وتعاطى معهم على أنهم أهل شبهة يحتاجون إلى بيان الحقيقة، أملاً باستنقاذهم من حبائل شبهتهم..

ومع كل عنادهم وإصرارهم على رأيهم ترك لهم الوقت الذي يسعهم ليدركوا فيه فساد رأيهم، إلى أن عاثوا في الأرض فساداً، فقتلوا الأبرياء وتعدّوا الحدود وهدّدوا الأمن الاجتماعي، فكانت هنا مسؤولية الحاكم تحتم عليه فرض الأمن وإعادة الاستقرار لدولته ورعيّته، فخرج لحربهم ليضع حدّاً لاعتداءاتهم، ويقتصّ من القاتل دون غيره.. وكانت تلك المواقف من أعظم الدروس التي استطاع الإمام علي بن ابي طالب (ع) أن يلقّنها لكل حاكم على مرّ الزمن، بأنه لا يحق للحاكم مهما بلغت قوته واتسعت رقعة سلطتنه من جهة، ومهما بلغ انحراف الرعية من جهة أخرى.. أن يتسلّط على رعيّته ويقمعهم بقوة السيف..

بعد هذا الموجز من هذه الظاهرة وما حصل في تاريخها في ذلك التاريخ من بداية دعوة النبي (ص) وإلى يومنا هذا..

كيف يمكن لنا أن نعالج هذه الظاهرة؟

لا يمكن لنا معالجة هذه الظاهرة والخلاص منها إلا إذا أدركنا أن سلاح الدين والسلطة الدينية من أخطر وأمضى الأسلحة الفتّاكة، التي يمكن أن تسلّط على رقاب الناس والمجتمعات، ولذا نجد أن الشرائع السماوية حصرت هذه المهمة بالأنبياء والرسل لما يتميزون به من عصمة تحول دون وقوعهم في الأخطاء أو الإنحياز إلى موقعهم وسلطتهم وكيف بنا بمن اغتصب هذا الموقع ولبس لباسه وامتلك ذلك السلاح الذي لا يستطيع أن يقف أمامه أحد..

فما دام الحاكم غير المعصوم، يرى نفسه أنه يمتلك السلطة الشرعية الإلهية في معالجة شؤون الحياة والمجتمع، لا بدّ وأن ينتهي به الأمر إلى استخدام سلاح التكفير والخروج عن الدين ليضمن بقاء حكومته ليصل به الأمر إلى أمثال يزيد بن معاوية الذي حارب الإمام الحسين (ع) وقتله مع أهل بيته وأصحابه بكل وحشية تحت شعار (خرج عن حدّه فقتل بسيف جده) كما صرّح الفقيه المالكي ابن العربي[1]..

وكانت فاجعة كربلاء خير مصداق لاستخدام الدين وسيلةً لتحقيق التسلط واستمرار الحكم..

ونحن اليوم ما دام هناك عناوين دينية تُرفع كواجهة لبقاء أصحابها في مناصبهم ومواقعهم السلطويّة لا بد أن نرى المزيد من الإفرازات الطبيعية..

وما نشاهده اليوم هو حالة تراكمية لمجموع هذه الأحداث التي مرّت بها المجتمعات، ونتيجة طبيعية لتلك التربية والسلوك الذين تعاقبا على هذه المنطقة..

وفي نظرة سريعة إلى نشأت الأحزاب الدينية المعاصرة نجد أن السبب الأول الذي دعا إلى نشوء هذه الأحزاب، كما يصرّح أصحابها، كان التصدّي للمد اليساري والإلحادي كحدّ أدنى وللوقوف أمام الاستعمار وتحرير البلاد من المحتل كحد أقصى.. إلاّ أنها وأمام أوّل حدث واجهته وأوّل صدمة تلقتها، انقلبت إلى أحزاب تواجه حكوماتها وسلطات زمانها، وتناست كل الأهداف التي نادت بها، فعادت فكرة التكفير إلى الواجهة وراحوا يكفّرون الحكّام وكل من يخالفهم الرأي، وأفتوا بوجوب الهجرة عن مجتمعاتهم حتى عن مساجدهم، ووجوب قتل كل من لا يوافقهم الرأي بعد إعدامات عام 1965 في مصر..

وكان من أبرز الوجوه الداعية إلى تبني هذا الفكر الشيخ علي إسماعيل ـ على ما أظن ـ أحد خريجي الأزهر وهو شقيق الشيخ عبد الفتاح إسماعيل، أحد الستة الذين أُعدموا مع السيد قطب آنذاك..

وبدأت هذه الفكرة تأخذ رواجاً في أوساط الشباب المتحمس، وتتبلور شيئاً فشيئاً، إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم، فأصبحت تشكّل شريحة من المسلمين..

ومن هنا بدأ الخطر على مجموع كيان المسلمين من جهتين:

الأولى: الآثار الوخيمة التي ترتبت وتترتب على الأمّة الإسلامية جمعاء، من جرّاء أفعال أصحاب تلك الفكرة وتصرفاتهم..

والثانية: من ترويج أعداء الإسلام لكون الإسلام هو ما يشاهد اليوم وما نراه على شاشات التلفاز كل صباح ومساء من تصرفات التكفيريين، حتى أصبح الإعلام يروّج لمبدأ أن الوجه الحقيقي للإسلام هو هذه الجماعة وتصرفاتها.. بل أن العالم يكاد أن ينسى مبادئ الإسلام ولا يبقى في ذاكرته إلا مشاهد الدم والخراب، فضلاً عن أولئك الذين تعرفوا على الإسلام من خلالهم..

ومن هنا لا بد لنا أن نلفت الأنظار إلى الحركات الإسلامية التي انتهى بها الأمر إلى ما انتهى حالها حال سائر الحركات الأخرى التي تحمل في داخلها الكثير من الأوهام، كما أنها لا تمتلك مفاتيح الحل لمشاكل المجتمعات القائمة، أو غير قابلة للتفاهم سواء مع الجماعات الأخرى، أو القوى الموجودة معها أو الدول القائمة، على اختلاف هوياتها وأيديولوجيّاتها..

فلا يمكن حل القضايا الفكرية بالقمع والعنف وإلا سنبقى نعيش العنف والعنف المتبادل، وهذا مما لا يوصل إلى النتيجة المرجوة كما لا يخفى..

وفي الختام نقول: على جميع المعنيين من حكّام وجماعات إسلامية أن يعودوا إلى التعامل مع قضاياهم على أنهم جزء من هذه المجتمعات المتعددة بأفكارها وآرائها وقناعاتها وعقائدها، وأنه لا يمكن لأحد أن يفرض قناعاته على الآخر، أيّاً يكون ذلك الآخر، بلا لا قيمة للآراء إذ توقف قيامها على لغة الفرض والقوة والاستبداد..

ولا بد من ترك الأمور تسير بناء على تلك الفطرة التي فطر الناس عليها : {إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا}.. وأن نتبادل الاعتراف بهذا الاختلاف، ونعود إلى تلك القاعدة التي أسسها سيد الحكماء أمير المؤمنين (ع) في تقسيم الناس: "إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق"[2]

فنحن أحوج ما نحتاج إليه إعادة النظر في موروثنا الثقافي وأدبياتنا الدينية التي استخدمت بأساليب وأدوات أوصلت المجتمع الإسلامي إلى ما هو عليه اليوم..

فهذا الكم الهائل من التراكمات لا يمكن له أن ينتهي بندوة أو مؤتمر أو كلمة تلقى هنا وهناك، وإنما يحتاج إلى ورشة عمل واستنهاض للأمة بكل طبقاتها وكفاءاتها وإمكانياتها، للوقوف أمام هذا الجنون من القتال والاقتتال وسفك الدماء، واعادة صياغة الخطاب الديني، والممارسة اليومية بما يتلاءم مع فطرة الإنسان وطبعه، ولا يبقى التكفير سيفاً مسلّطاً على رقاب الأمة..

ومن أهم النظريات المطروحة في عصرنا الحالي والتي تستحق الدراسة والتدقيق هي ما يذهب إليه الإمام السيستاني (حفظه الله) إلى قيام "الدولة المدنية الملزِمة" والتي تعطي لكل فرد في المجتمع حقه، ويحتفظ كل فرد بالتزاماته وخصوصياته، بعيداً عن إدارة الدولة وشؤون الأمة.

وهذه النظرية المتقدمة على كثير من النظريات قادرة على معالجة الأزمة الراهنة التي تمر بها المنطقة وقد استطاع سماحة السيد أن يجنب البلاد كثير من الدماء بسبب مواقفه وحكمه ونظرته الحقيقية والواقعية للأمور مع ما تحمله المنطقة من تعددية بالعقائد والآراء للإحاطة بها وبجميع تفاصيلها يحتاج إلى ندوة مستقلة تعقد من أجلها ولا يمكن الإحاطة بها في هذه العجالة..

بنظرة سريعة يمكن لنا أن ننجز الواقع الذي نعيش كما نرى الذي وصلنا إليه هو مجموعة هذه التراكمات والأدبيات في عقيدتنا ومبادئنا التي يحتاج الإنسان العاقل فيها حتى يستطيع أن يخرج من هذا الموروث يحتاج إلى كثير من الحكمة والوعي من القدرة على قراءة الواقع وانتقاد الذات حتى نصل إلى نتيجة نلتقي فيها مع ذلك المبدأ العام الذي ذكرناه في بداية حديثنا أن المجتمع وأن الإنسان في الحياة قائم على مبدأ الاختيار والاختبار فلو رفعنا الاختيار من الإنسان لانتفى ذلك المشروع الذي خلق له ولو حددنا له الأدوار لانتفى ذلك الاختيار الذي أراده الله سبحانه وتعالى للإنسان.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

* كلمة سماحة العلامة الشيخ قاسم قبيسي خلال منتدى الأربعاء في مؤسسة الإمام الحكيم

......................................
[1] العواصم من القواصم ص 232..
[2] نهج البلاغة ج3 ص84 من عهده (ع) لمالك الأشتر (رض)..
..........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق