q

شبكة النبأ: الضائقة المادية وصعوبة توفير لقمة العيش، وسط مظاهر البذخ والاستئثار بالمال والثروة في مجتمع واحد، من الاسباب الرئيسة التي يتفق الخبراء على أنها من أهم و أبرز عوامل المشجعة للشباب على الانخراط في صفوف الجماعات الارهابية ثم القبول عن طيب خاطر، بالقيام بأخطر المهام الإرهابية، من بذخ وحرق وتمثيل بالجثث وانتهاءً بالانتحار في عملية تفجير بحزام ناسف او سيارة مفخخة.

في مناطق يتوقع فيها المسلمون أن يعيشوا في ظل كرامة الدين ومفاهيم وقيم تضمن لهم الحياة الآمنة والسعيدة، ولو بنسبة معينة، واذا بهم يلاحظوا الطبقية والمحسوبية واحتكار فرص العمل والتطور والنمو لاشخاص او جماعات دون آخرين. ثم يسمع بشعارات براقة ترفع من بعيد تبشر بـ "دولة اسلامية" تأخذ على عاتقها تطبيق القوانين والشرائع الاسلامية بما يكفل سعادة الانسان و.... هذا التزييف والتضليل يجري أمام أنظار الجميع في بلادنا الاسلامية.

ومن يدقق النظر في حواضن الانتحاريين يجدها في الأغلب محكومة من قبل أنظمة حكم لا دينية (علمانية)، او تتخذ من المنهج المادي مرتكزاً لتشريع القوانين وسن الأحكام والتعامل مع مختلف قضايا الحياة، مما يضيق المجال على الجانب المعنوي والانساني والاخلاقي بشكل لا يدع له مجالاً في حياة الانسان، فتكون الحياة لمن يمتلك اسباب القوة والمنعة، مثل المال والجاه والمنصب. وكلما اتسع هذا المنهج في حياة الانسان، وغابت المقاييس الاخلاقية والانسانية، كلما فرص الحياة الكريمة عند الانسان. هذه المعادلة ربما تنسحب على عديد البلاد الاسلامية، فلا بلد او مدينة في أي مكانٍ مستثنً من هذا المآل الخطير، بشكل او بآخر.

ومن الامثلة التي استوقفت المراقبين مؤخراً انخراط اكراد من مدينة حلبجة الكردية في تنظيم "داعش" لقتال الاكراد...! بل وتنفيذ عمليات انتحارية ايضاً.

آخر جثة استلمتها حلبجة مؤخراً كانت للشاب "غوران محمد"، وهو رياضي و يشغل موقع حارس مرمى فريق المدينة لكرة القدم، لكنه تحول الى ضحية للارهاب التكفيري فقتل في وقت سابق من تشرين الاول الماضي إثر غارة جوية على مواقع القتال في منطقة ذات اغلبية ايزيدية شمال العراق.

والمثير في الأمر؛ الهوية السياسية البارزة لهذه المدينة التي اكتسبت شهرة عالمية بسبب سقوطها ضحية مجزرة كيماوية رهيبة عام 1988، عندما قصفها النظام الصدامي بالسلاح الكيماوي وقتل جراء ذلك حوالي 5000 انسان معظمهم من النساء والاطفال خنقاً بالغازات السامة داخل البيوت وفي طرقات المدينة، الامر الذي جعلها من المدن التي تحظى بالتعاطف الدولي والانساني في كل مكان، حيث يُقال ان هنالك مصابين حتى الآن يعانون من آثار القصف الكيماوي. بيد أن هذا الطابع والإرث النضالي لهذه المدينة التي يدين لها الاكراد جميعاً بالفضل في أنها احد عوامل نجاحهم في الحصول على ما يشبه الاستقلال، يضمحل ويتلاشى امام سمعة جديدة وخطيرة، وهي انها من المدن الحاضنة للانتحاريين والارهابيين، فحسب جهاز الأمن في حكومة اقليم كوردستان "آسايش" فان 85 من شبابها انضموا الى "داعش".

ومن شباب حلبجة الآخرين الذين يقاتلون مع داعش؛ "اكرام خالد احمد" ابن التاسعة عشرة الذي برز اسمه مؤخرا عندما قاد شاحنة مفخخة بنصف طن متفجرات خلال عملية انتحارية فاشلة استهدفت قوات البيشمركة قرب مدينة جلولاء في محافظة ديالى شمال شرق بغداد. وقال المسؤول في جهاز "آسايش" ان احمد "فقد اعصابه وفشل في تفجير الشاحنة وهو الآن في السجن".

ومدينة حلبجة، تمثل شاهداً وعبرة لغيرها من المدن والبلاد الاخرى التي يعيش اهلها التهميش والاهمال على الصعيد الاقتصادي والمعيشي، رغم النمو الاقتصادي الظاهري، حيث تتناقل الاخبار ابناء المشاريع النفطية والاستثمارية وارتقاء ناطحات السحاب والمظاهر الجميلة ودخول آخر صيحات الحداثة في علوم الاتصال والطب والنقل والخدمات وغيرها، لكن كل ذلك، يبقى محصوراً لفئة من الناس وليس لعامة الناس حظوة في ذلك. وربما تكون نسبة هؤلاء الناس كبيرة جداً، الامر الذي يدفعهم لايجاد البديل، أو البحث عن بصيص أمل او قارب نجاة يخلصهم من هذا الواقع حتى وإن قيل لهم إنه سراب...

ولا يخفى على الخبراء والمراقبين أن أبرز البلاد التي صدرت الانتحاريين؛ افغانستان والشيشان، ثم تأتي بعدها دول المغرب العربي مثل تونس والجزائر والمغرب. لكن هذا ليس كل شيء، فليس من المقدّر على المسلمين أن يكونوا ضحية مؤامرة مخابراتية معد لها سلفاً، إنما هنالك نظم وقوانين سنّها الاسلام بحاجة الى تفعيل وتطبيق على الواقع العملي، وهو سعى اليه سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- عندما أكد على ضرورة قطع دابر التبعية والتخلف والحرمان عندما يتحدث عن مكافحة العنف والارهاب كظاهرة وسلوك انساني. ففي كتابه "اللاعنف منهج وسلوك" يشير الى أول خطوة في هذا المسار، بمكافحة التخلّف، فيعد "الجهل من اسباب العنف، أما الاسلام فقد أكد على العلم في آيات و روايات عديدة، كما أكد على العمل المقترن بالعلم واللاعنف أيضاً. قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب، عليه السلام: "طلب المراتب والدرجات بغير عمل جهل". وقال ايضاً: "العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل، والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه، وإلا ارتحل عنه".

لنلقي نظرة على الدول الاوربية التي خاضت الشعوب فيها حربين عالميتين؛ كيف وصلت الى ما هي عليه من التطور الاقتصادي وتوفير القدر الجيد من الحياة الرغيدة للشعوب هناك؟

لقد سقط الملايين من القتلى وتكبدت هذه الدول خسائر لا تقدر في الممتلكات في الحرب العالمية الاولى والثانية، وهي دول تفتقر للثروة النفطية والمعادن إلا القليل، لكن هنالك ثروة العلم وحسن التدبير والتخطيط، وبلغ الامر لأن تتمكن نصف القارة الاوربية التي كانت تسمى بالغربية من استيعاب النصف الآخر "الشرقي" البعيد عن نظام السوق والتنافس والملكية الفردية، بمعنى الفقر والعوز الكامل، بيد ان تلك الدول وبفضل المنظومة الاقتصادية وتحت راية "الاتحاد الاوربي" تم استيعاب هذه الدول ودمجها في الاقتصادي الاوربي على صعيد الوحدة الجمركية والعملة وغيرها. وهذا لم يتحقق بالمجان، إنما بخطوات رفعها "الشرقيون" في ميدان العمل والانتاج.

من هنا يؤكد سماحة الامام الراحل على أن "سر تقدم الانسان كفرد وتقدم المجتمعات والشعوب بصورة عامة وازدهارها، مرتبط بالعمل الجاد والمتواصل الذي يقوم به الافراد او المجتمعات، ولم يحصل أن أمة من الامم امتلكت ناصية العلم والتقدم والرقي مع تكاسل افرادها وفتور هممهم وعدم التفاتهم الى مسؤولياتهم.

ولابد من التذكير هنا، الى ملاحظة غاية في الاهمية تتعلق بحواضن الارهاب والانتحار والدمار، أنها تشكو من ضعف في المبادرة التي يدعو اليها سماحة الامام الراحل، ومثالنا هي حلجبة نفسها، وربما هنالك العديد من امثالها، التي تتكاسل عن العمل والمثابرة والانتاج والابداع، وبدلاً من ذلك تتكل على عوامل اخرى توفر لها سبل العيش المجان والرخيص، مثل الدول المانحة او المنظمات الانسانية او حتى الاعانات و رواتب التقاعد والمخصصات والامتيازات وغيرها مما يشكل أفيوناً حقيقياً لافراد المجتمع فيحيلهم الى ما يشبه الانسان الآلي، الخالي من المشاعر والاهداف ، بامكانه فعل كل شيء.

اضف تعليق