يمكن أن نسأل عن دور بيئة كالبيئة العراقية في كونها أرض خصبة لإنبات النزعة التدميرية، هل يمكن ان تكون بيئة مشجعة لدفع الفرد العراقي الى اعتماد الحل التدميري في اشباع، سؤال يمكن وضعه كتحدي اخلاقي وعلمي امام العلوم النفسية والاجتماعية في الجامعات ومراكز الابحاث العراقية...
قام عدد من علماء المشتغلين بالعلوم الانسانية كعلم النفس والاجتماع والانثروبولوجيا بدراسة المجتمع البشري من منظور نقدي كرد فعل اخلاقي (اولا) على ما ارتكبته العلوم الصرفة الاخرى كالفيزياء والكيمياء والبيولوجيا من تحويل العالم الى مزرعة من الاسلحة الجرثومية والكيمياوية والنووية والهيدروجينية والبايولوجية...، اسلحة فتاكة تم تسليمها بيد مجموعة من انصاف المجانيين كهتلر وهملر وموسوليني. (ثانيا) وجدت العلوم الانسانية ان مسؤوليتها الاخلاقية تحتم التعرف على الاسباب التي جعلت البشرية تدخل مرحلة جنون الموت عبر حرب عالمية كبرى، وهي لا تزال للتو خارجة من واحدة سبقتها بمدة قصيرة، لذا وجدت هذه العلوم ان واجبها الاجابة على سؤال: كيف قام هؤلاء الافراد بارتكاب تلك المجازر؟ ما هي العقائد والافكار التي بررت لهم ذلك؟ ولماذا اغرمت اوربا بالفاشية؟
كان اريك فروم واحدا من عشرات العلماء الذين اخذوا على عاتقهم الاجابة عن هذه الأسئلة باعتباره احد اعضاء مدرسة فرانكفورت، وانطلاقا من كونه عالم نفس ينتمي لمدرسة التحليل النفسي وخلال اعادة فحصه العلاقة بين العقل والعلم (وهي مسلمات عصر التنوير أصل تشكل المركزية الاوربية)، وبين اللامعقول والجنون الذي مثلته الحرب العالمية الثانية بفلسفاتها وعقائدها التي تمجد العنف والقوة والموت والتدمير وخاصة العقيدة الفاشية والنازية، وخلال هذا الفحص الميداني الاكلينيكي وجد فروم ان واحدا من تلك الأصول النفسية لصعود مثل هذه الفلسفات المتطرفة يكمن في نزوع نحو التدمير (ذو منشأ نفسي) يتحكم في بعض نماذج السلوك الانساني.
لذا فان مصطلح التدميرية Destructive الذي نعنى به في هذه الورقة يعود الى المحلل النفسي وعالم النفس الاجتماعي ايريك فروم، ولقد جاء المصطلح في أصله المفاهيمي كأحد نتائج قراءة فروم الخاصة لنتاجات فرويد ضمن الاتجاه النفسي الذي اصطلح عليه الفرويدية الجديدة. لذا فقد أثرت الأصول الفلسفية لفروم على الصياغة النظرية والمنهجية والمفاهيمية للمصطلح، ففروم يؤمن بأهمية العامل الاجتماعي وتأثيره على الفرد، كما عرف ماركسيته.
خصص فروم لدراسة التدميرية كتاب كبير بعنوان (تشريح النزعة التدميرية) كما ترجمه مجاهد عبد المنعم مجاهد وصدر في القاهرة عام 2007، أو (تشريح التدميرية البشرية) كما ترجمه اسامة منقذ الهاشمي. وقد صدر الكتاب اول مرة عام 1973 في الولايات المتحدة.
والآن نقدم عرضا تاريخيا موجزا للأسس النظرية والمفاهيمية التي تم من خلالها ضبط مفهوم التدميرية ورسم صورته الذهنية، كما قام بها اريك فروم بالاعتماد على تحليله لمجموعة من الأسس والمعطيات والمعارف التي تدور حول موضوع التلذذ بالموت والتدمير.
قام فروم بعملية الضبط المفاهيمي هذه من خلال توضيح العلاقة بين مفهوم التدميرية كما رسم هو صورته الذهنية وبين عدد من المفاهيم التي ترتبط به، حتى وصل الى النتيجة المرجوة وهي ان خلص مصطلح التدميرية من حدوده اللفظية (اشتهاء الموتى الجنسي) وحدوده النظرية والمفاهيمية (ربطه بالبايولوجيا والغريزة والوراثة) وجعله مرتبط بنوع من المعرفة النفسية المحددة والثابتة، بحيث تكون الأوساط العلمية قادرة على التعامل معه وتطبيقه وتداوله ضمن مجال التخصص كمفهوم إجرائي يمكن الاستفادة منه في دراسة الظواهر الاجتماعية والنفسية والاعمال الادبية والأساطير والأديان.
القاعدة النظرية لمفهوم التدميرية تقوم على أنه لا اساس وراثي ولا غريزي ولا بايولوجي له (تمثل كل واحد من هذه المفردات نظرية تبناها واحد من العلماء، كما سيأتي لاحقا)، بل ينتمي الى العواطف المتأصلة او الأهواء الجذرية التي هي مقولة نفسية تمزج بين جانب بيولوجي يمكن أن يقوم في المخ وجوانب اجتماعية وتاريخية.
فروم هنا يحرر مفهوم التدميرية من البقاء محصورا في الحدود الفيزيائية الغرائزية الى الدوافع النفسية الكائنة في العمق البعيد للوجود الانساني، والتي اثبت التاريخ أنها تعمل احيانا بفعالية أكبر من الغرائز نفسها، لأنها تشكل اساس المصلحة والحماس والاستثارة للكثير من الافعال، وهي التي تجعل الانسان يواجه عقبات الحياة بإحساس البطولية الذي يعطي للحياة هدف. فالدوافع لا تختص بالأحلام لوحدها، بل يمكن أن تظهر في الفن والدين والأسطورة والدراما، أي بكل ما يضفي معنى على الحياة. يقول فروم (الإنسان يبحث عن الدراما والإثارة، وعندما لا يجد إشباعا على مستوى أعلى فإنه هو نفسه يبدع دراما التدمير) (ص25).
تتطور التدميرية من مستواها الأولي العاطفي الى ان تأخذ مستويات مرضية خطيرة، وخلال مرورها عبر ظهورات علنية لأفعال مرتبطة بالجنس مع الموتى (النيغروفيليا) أو مقنعة بالآليات الميكانزمية في سلوك خاص بالعاطفة للتدمير وحتى بلوغ مظهرها الاوسع وهو الميل الى (تمزيق الأبنية الحية)، وإبادة معنى الحياة (هذه العبارة استعارها فروم من فون هنتج).
ويشير فروم الى (إن هذا الدافع للتدمير يتبدى من ذي قبل في الطفولة، وأحيانا لا يظهر نفسه إلا في سن متأخرة) (فروم، ص393)
اما الاساس الابستيمولوجي لمصطلح التدميرية فيتداخل مع عدد من المصطلحات النفسية والبايولوجية الأخرى، والتي تنحدر من مناهج ونظريات لعلماء ومفكرين مختلفين. من بين تلك المصطلحات هو مصطلح العدوان (يعود الى كونراد زخاريس لوربتس في كتابه الشهير: عن العدوان. ولورنتس عالم نمساوي حاصل على جائزة نوبل في الفسيولوجيا عام 1973) ومصطلح غريزة الموت (اصطلاح فرويدي له أهميته في نظرية التحليل النفسي اعتمده فرويد بعد الاحداث التي مر بها العالم في الحرب العالمية الثانية)، كذلك مصطلحات عامة كالعنف Violence والعدوان العام Aggression والقسوة والسادية وغيرها من المصطلحات التي تعود الى تنظيرات علماء وكتاب (مثل ديزموند موريس)، حاورهم جميعا فروم من اجل فك التداخل المفاهيمي القائم بين مصطلحاتهم ومصطلح التدميرية كما أراد تعريفه.
هل يمكن تطبيق مفهوم التدميرية على المجتمع العراقي؟
لقد جاء تأصيل فروم لمصطلح التدميرية عبر عملية شاقة مرت من خلال صراع دلالي وتشابك تجريبي، من اجل ان يشغل مفهوم التدميرية المسافة المقررة له، بدءا من الدوافع المغروسة في الاحتياجات الفسيولوجية العضوية وحتى العاطفة الانسانية الثابتة أو الجذرية (عاطفة ذات طابع متأصل هي نتيجة للتكوين البايولوجي). هنا في العاطفة بالذات تبدأ الفروق بين شخص وآخر، فإشباع حاجة وجودية قد تكون عن طريق الحب عند أحدهم، ولكن شخص آخر عن طريق التدمير، وذلك بحسب ظروف البيئة الاجتماعية.
هنا يمكن أن نسأل عن دور بيئة -كالبيئة العراقية- في كونها أرض خصبة لإنبات النزعة التدميرية، هل يمكن ان تكون بيئة مشجعة لدفع الفرد العراقي (نقصد البعض والتزام مفردة الفرد هنا جاء لكون التدميرية تبقى حالة فردية في أساسها) الى اعتماد الحل التدميري في اشباع حاجاته؟، فكيف وإن كانت هذه الحاجة الى العدوان نفسه (كما يقرر علماء النفس بان العدوان حاجة مطلوبة)؟ وهل هذه الحاجة النفسية الى العدوان تكون أكبر حين يكون المجتمع قد شهد انتشارا كبيرا للعنف على مستوى امتداد مكاني وزماني؟
يقسم فروم العدوان الى عدوان حميد دفاعي اكتسبه الانسان ونوعه الحيواني ايضا وتم برمجته بايولوجيا بمقتضى الأعراق للهجوم والفرار عندما يستشعر بتهديد لحياته. اما النوع الثاني فهو العدوان الخبيث، ومن امثلته السادية وهي متجذرة في التكوين النفسي للإنسان، حيث يشعر الانسان بعاطفة أو هوى في نفسه بامتلاك قوة جامحة على كائن آخر، أو كاشتهاء الموتى وهي عاطفة تدمير الحياة والانجذاب لكل ما هو ميت وما هو محتضر وما هو آلي.
السادية واشتهاء الموتى طباع انسانية بنائية قد لا يمكن أن نتثبت وجودها عن طريق السلوك الظاهري، ولكن عدم بروز هذه النزعة بأشكال مباشرة لا يعني نفيها، فالسلوك لا يمكن فصله عن بواعثه أو دوافعه، وقد تكون البواعث شعورية عند البعض أو لا شعورية تظهر بواسطة رموزها، فقد يستعير الباعث التدميري رمزا من اجل الخروج خارج الذات، وهذه الحالة (لا شعورية) هي الاكثر شيوعا وقد اعتمدت مدرسة التحليل النفسي على اعادة المعطيات والمشاهد الى باطنها اللاشعوري.
قام فروم بتحليل النزعة التدميرية لشخصيات سياسية تاريخية معروفة كهتلر وهملر وستالين، وهنا أجد انه ومن خلال مفهوم النزعة التدميرية ان السؤال -عما اذا كان صدام حسين وبعض من قياداته الدمويين كانوا مصابين بالتدميرية؟
هو سؤال يمكن وضعه كتحدي اخلاقي وعلمي امام العلوم النفسية والاجتماعية في الجامعات ومراكز الابحاث العراقية، لكي تبحث عن ماهية تلك الطبيعة السيكولوجية النزاعة للتدمير والموت والتفسخ، علنا نتعرف على أحد الاسباب التي احالت العراق الى هشيم في مهب رياح الدول الاقليمية والعالمية.
اضف تعليق