في دولة تحبو نحو الديمقراطية مثل العراق، نرى التطرف في كل شيء ولا علاج او تقويم للحالة، إلا بعض المبادرات الفردية هنا وهناك، وعلى طاولة كتابة الدستور، عكف مفكرون وعلماء قانون وسياسة واجتماع على صياغة بنود في الدستور تحدّ من هذه الظاهرة...
التطرّف، من الناحية اللغوية، يعد سلوكاً فردياً واجتماعياً يقود الى التوقف عند افكار وقضايا قد تكون طائفية أو سياسية، وبما أن ظواهر كهذه، يُنظر اليها من دوافعها والغايات التي تقف ورائها، فهي تمثل – على الاغلب- تعبيراً عنيفاً عن الانتماء بغض النظر عن تقييم الامور، وما اذا كان المعتقد صحيحاً أم خاطئاً او حتى على باطل.
هذه الحالة التي تُطبع احياناً بالعفوية، تواجه في معظم بلادنا بالعنف وبما هو أشد من التطرف، وهو القمع الدموي المتطرّف نحو السلطة وأصحابها، ولم يفكر أحد في معالجة داخلية لهذه الظاهرة من حيث هي حالة انسانية ونزعة نفسية لتحقيق الذات وإثبات الوجود، ومعظم المتطرفين طائفياً او حزبياً او حتى عشائرياً، إنما سلكوا هذا الطريق بعد فقدانهم للفكر المتوازن الذي يراعي المصلحة العامة ويحفظ حقوق الانسان وكرامته.
الفطرة الانسانية تُذيب التطرّف
العلماء والفقهاء والمفكرون الاسلاميون بحثوا في أمر التطرّف وخرجوا بالتأكيد على تعارض الاسلام مع هذا المسلك الذي يتسم بتغييب العقل والحكمة، وكانت البداية في فجر الاسلام، عندما وقف النبي الأكرم بشدة أمام حالة تطرف في الدين، عندما جاءته امرأة عثمان بن مضعون، وهي تشكي زوجها بانه يصوم نهاره ويقوم ليله، تقول الرواية التي أوردها الشيخ الكليني في "الكافي" أن "رسول الله، صلى الله عليه وآله، خرج مغضباً يحمل نعليه حتى جاء الى عثمان فوجده يُصلي، فانصرف عثمان حين رأى رسول الله، فقال له: يا عثمان! لم يُرسلني الله –تعالى- بالرهبانية، ولكن بعثني بالحنفية السهلة السمحة، أصوم وأصلي وألمس أهلي، فمن أحبّ فطرتي فليستنّ بسنتي، ومن سنتي النكاح".
كما نهى الامام علي، وسائر الأئمة المعصومين، عليهم السلام، عن التطرّف، حتى في الولاء والحب لهم، والذي يطلق عليه بـ"الغلو" حتى قال، عليه السلام: "هلك فيّ اثنان؛ مبغض قال، ومحب غال"، وجاء في الحديث الشريف: "لا تألهونا وقولوا فينا ما شئتم".
وعلى طول الخط، كان أهل البيت، عليهم السلام، يحثون الناس لتحكيم العقل في مسألة الايمان والعقيدة وعدم إغماض العين وسد الأذن والابتعاد عن شعاع الحقيقة، ولعل هذا يكون احد أسباب احتفاظ التشيع بالتوازن الفكري والتأصيل العقدي المتميز عن سائر المذاهب الاسلامية التي نلاحظ اليوم كيف أنها انزلقت نحو التطرف ثم التكفير الذي انتج سيول من الدماء والدمار.
طرق وحلول
ربما يكون السبب في عدم تفرّغ المفكرين الاسلاميين الى البحث في سبل معالجة حالة التطرف مع قليل من الألم والشدة، لأن تجربة الدولة الديمقراطية التي يشترك فيها الشعب والحاكم في صناعة القرار، بعد لم تنضج بشكل صحيح، ففي دولة تحبو نحو الديمقراطية مثل العراق، نرى التطرف في كل شيء ولا علاج او تقويم للحالة، إلا بعض المبادرات الفردية هنا وهناك، بينما نلاحظ الجهد الفكري المبذول في الولايات المتحدة يعود الى بدايات تشكيل الجمهورية الاميركية في القرن السادس عشر، وعلى طاولة كتابة الدستور، عكف مفكرون وعلماء قانون وسياسة واجتماع على صياغة بنود في الدستور تحدّ من هذه الظاهرة، ولذا عندما نقرأ – مثلاً- في كتاب؛ الطريق الى التطرف – اتحاد العقول وانقسامها، للكاتب الاميركي؛ كاس ر. سينشتاين، ترجمة؛ سميحة نصر دويدار، نجد الكاتب يجيب على سؤال في امكانية "الوقاية من التطرف غير المبرر"، وذلك في ثلاثة إجابات: الاولى؛ "النزعة التقليدية"، وهي النزعة المحافظة، والثانية: "النزعة العواقبية"، والثالثة: الكوابح والتوازنات".
وقد وزع الكاتب الخيارات الثلاثة على ثلاثة مفكرين وساسة كبار في العالم، فكانت الاجابة الأولى؛ للمفكر والسياسي الايرلندي؛ ادموند بيرك، (1729- 1797)، المعروف بتوجهه المحافظ على التقاليد والتراث، صاحب الانتقادات الكثيرة على الثورة الفرنسية، أما الاجابة الثانية فكانت لعالم القانون والمصلح الاجتماعي البريطاني؛ جيرمي بنتام (1748- 1832) صاحب النظرة الواقعية والنفعية في حياة الانسان، فيما ذهبت الاجابة الثالثة الى رابع رئيس جمهورية في اميركا؛ جيمس ماديسون، الملقب بـ "أبو الدستور" وصاحب فكرة الفصل بين السلطات.
هؤلاء، وربما غيرهم ايضاً، طرحوا افكار للوقاية من التطرف في المجتمع والامة بما يهدد الامن والاستقرار، وقد ناقشها مؤلف الكتاب، فدحض بعضها و رسى على أخرى، وما يفيدنا في تجربتنا الراهنة في العراق، بل وحتى في سائر البلاد العازمة على إنجاح التجربة الديمقراطية، او المشاركة السياسية، الاستفادة من التجارب التي مرت بها الشعوب في بدء نشوء الدولة لديها وتشكيل مؤسساتها الدستورية، فهو لا يميل الى الطريق الأول الداعي الى "التحيّز الى التقاليد والتراث" رغم الحديث عن ايجابيته.
فينقل عن "بيرك" قوله: "اننا نخشى من ترك الناس بحيث يعيش كل واحد منهم ويتعامل مع غيره بالاعتماد على رصيده الشخصي من العقل، لاننا نرى ان رصيد اي شخص بمفرده من العقل ضئيل، كما اننا نرى ان من الافضل للافراد ان يستفيدوا من رصيد الخبرة المتوافر في المصرف الشامل ورأس المال المتوافر للأمم والاجيال"، في إشارة الى الاعتماد على الخبرات والتجارب التي يخلفها الآباء لأبناء الجيل الجديد، بل ويوضح المؤلف افكار بيرك بشكل اكثر شفافية بقوله: "عندما يحترم اعضاء الجماعة ما سبق للناس ان فعلوه من قبل فانه من غير المحتمل ان يرفضوا ذلك ويفضلوا عليه ما ينبثق من خلال المناقشات الداخلية بينهم، والذين يحترمون التقاليد هم أبعد الناس احتمالاً لان يُستقطبوا من قبل المتطرفين، بيد ان هذه النزعة تعاني صعوبات، فقد تصمد التقاليد ليس لانها صحيحة ويؤمن بها اصحابها، والمشكلة الاساسية في ان التقليد تنقل المعلومات...".
في المقابل نعدّ الحفاظ على التقاليد والتراث من الامور المساعدة على التطور الفكري والعلمي، فهي توفر الخبرة والتجربة في مجالات عدّة تفيد حياة الانسان والمجتمع، وهذا عين التوجه الحضاري الذي تقدم بفضله المسلمون في فجر التاريخ الاسلامي، فقد ورث العرب والمسلمون صفات مثل؛ الشجاعة والكرم، الى جانب اللغة وفروعها من؛ الفصاحة والبلاغة، وهي من أهم ركائز الحضارة.
وكذا الطريق الثاني الذي يدعو الى التحذير من عواقب التطرف، ويتحدث الكاتب عن أن "تشخيص العواقب قد يعزز الرأي المنادي باتخاذ خطوات حادة اكثر من ان يقوض اساس التطرف، إلا انه يوجد على الرغم من ذلك، قيدٌ مهم في هذا الصدد، وهو نوع الكوابح التي يفرضها الواقع، فنزعة تشخيص العواقب وتدبرها تبشر بالتحكم في الحركات الاجتماعية المتطرفة".
بيد أن الكاتب يرد على الفكرة بان ثمة مشاكل تعترضها في التكاليف المحتملة لعملية التشخيص التي ربما تفوق حجم الضرر من وراء التطرف، ويورد امثلة عن تلوث المياه، او انتشار الجريمة بسبب السماح قانونياً بحيازة السلاح، على أن هذا الطريق غير مجدٍ في كثير من الاحيان، بينما نلاحظه يتوجه كلية بقناعته الى الطريق الثالث (الكوابح والتوازنات) التي جربها مؤسسو الدولة الاميركية من خلال تشيكل مجلسين تشريعيين؛ أحدهما للنواب والآخر للشيوخ، ويوضح الكاتب الدوافع وراء ابتكار هذه الفكرة من المؤسسين الاوائل، انها "تكون بمثابة اجراء وقائي يمنع حدوث وضع يكون فيه احد المجلسين – المقصود النواب- مغلوباً على أمره بسبب ما يسيطر عليه من الانفعالات الحادة العابرة، بل ومن استقطاب الجماعة كذلك، وفي مرحلة تأسيس الجمهورية الاميركية كان الرأي يتجه الى اعتبار مجلس الشيوخ ذو اهمية خاصة".
والانفعالات الحادة التي يتحدث عنها مؤلف الكتاب، تتجسد لدينا في الانظمة الديكتاتورية وما تضمه من أشكال كارتونية من مجالس نواب أو مجالس شعب وغيرها من المسميات الفارغة من المحتوى، حيث نلاحظ ان الساسة هم انفسهم يتحولون الى مراكز استقطاب للمتطرفين بهدف تحقيق مصالح سياسية كما نشهد ذلك في العراق.
ويروي المؤلف أن أول وزير للخارجية في الولايات المتحدة الاميركية؛ تومان جيفرسون، ثم اصبح ثالث رئيس لاميركا من 1801الى 1809، كان عائداً من زيارة الى فرنسا، والتقى الرئيس جورج واشنطن على مائدة شاي، فسأله عن سبب موافقته على تشكيل مجلس الشيوخ مع وجود مجلس النواب، فاجابه بسؤال عن سبب صبّه الشاي من القدح على الصحن الصغير، فقال له لتخف سخونته، فقال له: وهذا بالتحديد الغاية من وجود مجلس الشيوخ في اميركا، فهو يخفف من سخونة الاجواء المؤدية الى التطرف داخل الكونغرس والتي تؤدي احياناً الى خوض الحروب ونشوب النزاعات العرقية والعنصرية وغيرها من الاضطرابات الاجتماعية داخل البلاد.
وهذا يكشف لنا مدى استفادة الأمم الناجحة والمتقدمة من مبدأ المشاورة قبل اتخاذ القرار واصدار الاحكام التي تؤدي نفسها الى نشوء التطرف في اوساط المجتمع، كرد فعل طبيعي على سياسات خاطئة او مواقف استفزازية.
اضف تعليق