يرى باحثون وعلماء دين أن مشروعا أطلقته دار الإفتاء المصرية تحت عنوان (تشريح عقل المتطرف) ويهدف إلى وضع دليل لكيفية ”إعادة تأهيل المتشددين“ قد يكون نواة لإطلاق مراجعات فكرية داخل السجون على غرار ما حدث في التسعينيات وساهم في إخماد موجة عنف عاتية.
المشاركون في المشروع لديهم قناعة بأن المواجهة الأمنية وحدها لا تكفي للتصدي للعنف المتصاعد وإنما لا بد أن تمضي جنبا إلى جنب مع المواجهة الفكرية حتى لا تصبح السجون ”مفرخة للإرهابيين“.
ويهدف مشروع دار الإفتاء إلى إعداد دليل استرشادي يوضح ما يصفه بأنماط ”الإرهابيين“ ومراحل نشأتهم وتحولهم إلى العنف والتعرف على الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المصاحبة لذلك.
وتخوض مصر معركة ضارية مع متشددين إسلاميين منذ عزل الرئيس محمد مرسي الذي ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين في عام 2013 إثر احتجاجات حاشدة على حكمه.
وقُتل المئات من مؤيدي جماعة الإخوان المسلمين والمتعاطفين معها بعد عزل مرسي في مواجهات أمنية. وسُجن آلاف بتهم من بينها التظاهر وممارسة العنف والانتماء لجماعات تأسست على خلاف القانون.
وتحذر تقارير ومراقبون من اعتناق العديد من المحتجزين أفكارا متطرفة نتيجة الإحساس بالظلم أو اختلاطهم بمتشددين داخل السجون أو تعرضهم لانتهاكات وإساءة المعاملة.
ولا يقتصر تركيز مشروع (تشريح العقل المتطرف) على تحديد كيفية التعامل مع السجناء الإسلاميين فحسب، بل يهدف إلى وضع منظومة متكاملة للتعامل مع المتطرفين بشكل عام والحيلولة دون وقوع آخرين فريسة للتطرف.
وقال إبراهيم نجم مستشار مفتي الجمهورية في مقابلة مع رويترز بمكتبه في دار الإفتاء ”منتجات المشروع الذي وضعته دار الإفتاء المصرية ستكون مفيدة لجميع الجهات سواء في الداخل أو في الخارج“.
وبدأ تطبيق المشروع فعليا في يوليو تموز من خلال إجراء حوارات فكرية مع السجناء. وقال نجم ”نأمل أن يحدث هذا الأمر سريعا. نأمل أن يحدث حراك في هذه القضية“.
ويشارك في المشروع إلى جانب مسؤولي دار الإفتاء باحثون متخصصون في الحركات الإسلامية وعلماء نفس واجتماع بالإضافة إلى قياديين سابقين بالجماعة الإسلامية. وهو يشمل عقد عدة جلسات للعصف الذهني وورش عمل حسبما ورد في ملخص للمشروع أعدته دار الإفتاء.
وجاء في الملخص أن المشروع يهدف إلى ”إعداد دليل استرشادي يوضح أنماط الإرهابيين ومراحل نشأتهم وتحولهم إلى العمل الإرهابي، ودراسة المؤثرات الداخلية والخارجية الدافعة في هذا الاتجاه، والسياقات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والسياسية المصاحبة لذلك“.
وأضاف أن النتائج ستشمل ”توصيات عملية تتضمن سياسات وإجراءات واضحة للتعامل مع التطرف فكرا وشخوصا وفي كافة مراحل تطوره... وتحديد مؤثرات ومدخلات كل مرحلة من المراحل ومنتوجاتها، وذلك بهدف تحديد سبل مواجهة هذا التحول ووقفه وإعادة تأهيل المقبلين على ممارسة العمل الإرهابي“.
وقال نجم ”نحن كعلماء دين دائما نقول إن المواجهات الأمنية لا تكفي.. لا بد من مواجهات فكرية على مستويين. المستوى الأول هو المستوى العلاجي وهو التعاطي مع هذه الأفكار والرد عليها، والمستوى الثاني مستوى وقائي وهو تحصين الشباب من الوقوع في براثن التطرف“.
وتوقع نجم صدور الدليل الإرشادي بعد ستة أشهر مضيفا أن المشروع سيتضمن عقد مؤتمر دولي في أكتوبر تشرين الأول بهدف الاستفادة من التجارب الدولية في التعامل مع التطرف والمتطرفين.
في مقتبل العمر
قال نجم إن الدافع الرئيسي لإطلاق هذا المشروع هو سلسلة الهجمات التي نفذها متشددون في مصر خلال السنوات الأخيرة خاصة التفجير الانتحاري الذي استهدف الكنيسة البطرسية الملحقة بكاتدرائية الأقباط الأرثوذكس بالقاهرة في ديسمبر كانون الأول.
وخلف هذا التفجير، الذي أعلن تنظيم الدولة الإسلامية المتشدد مسؤوليته عنه، 29 قتيلا، وقال نجم ”توقفنا كثيرا عند حادث البطرسية... شاب في مقتبل العمر.. 23 سنة.. يفجر نفسه في كنيسة ظنا أنه سيدخل الجنة“.
وأعلنت السلطات المصرية أن منفذ الهجوم يدعى محمود شفيق وأنه من قرية بمحافظة الفيوم جنوبي القاهرة واحتجز لبضعة أشهر عام 2014 بتهمة حيازة سلاح خلال مشاركته في مظاهرة مؤيدة لجماعة الإخوان المسلمين.
واختفى شفيق بعد خروجه من السجن وانقطعت أخباره حتى الإعلان عن أنه هو منفذ الهجوم، وقالت دار الإفتاء في ملخص المشروع ”كشفت عملية استهداف الكنيسة البطرسية عن خطورة إطلاق سراح المتطرفين دون عمليات إعادة الدمج والتأهيل لمنعهم من العودة إلى الممارسات الإرهابية“، وتشير منظمات حقوقية إلى انتهاكات واسعة داخل السجون وفي أقسام الشرطة. وتنفي الحكومة أن تكون الانتهاكات ممنهجة وتؤكد أنها تحاسب مرتكبيها.
حراك فكري ومعاملة حسنة
في تسعينيات القرن الماضي كانت السجون المصرية تعج أيضا بآلاف الإسلاميين المنتمين للجماعة الإسلامية وجماعات متشددة أخرى إثر القبض عليهم في خضم مواجهات عنيفة بين قوات الأمن وهذه الجماعات خلال فترة شهدت سلسلة هجمات على مسؤولين وعلى قوات الأمن ومقاصد سياحية.
وفي عام 1997 أطلق بعض قيادات الجماعة الإسلامية المسجونين مبادرة شاملة لوقف العنف بعد مراجعات فكرية داخلية. وواجهت المبادرة بعض العراقيل حتى تفعيلها بشكل كامل عام 2001.
ورحبت السلطات بهذه المبادرة واستغلت المراجعات الفكرية التي أجرتها القيادات المسجونة في عقد سلسلة ندوات ولقاءات مع آلاف السجناء الإسلاميين الآخرين بهدف إثنائهم عن أفكارهم المتشددة وإعادة دمجهم في المجتمع.
وبالتزامن مع هذا اتخذت السلطات سلسلة إجراءات شملت تحسين معاملة السجناء وتحسين الظروف داخل السجون والإفراج عن عدد كبير من المعتقلين الإداريين الذين لم تصدر عليهم أحكام قضائية، وساهمت المبادرة وما تلاها من حوارات فكرية داخل السجون في وقف هجمات المتشددين إلى حد كبير لنحو عشر سنوات.
ومن بين قيادات الجماعة الإسلامية التي شاركت في المراجعات الفكرية داخل السجون آنذاك ناجح إبراهيم، وهو أيضا أحد المشاركين في مشروع دار الإفتاء الحالي، وفي مقابلة أجرتها رويترز مع إبراهيم في مدينة الإسكندرية الساحلية أعرب عن أمله في خروج المشروع من دائرة البحث إلى دائرة الواقع.
وقال ”شاركت في وضع أدلة كثيرة مثل ذلك لكنها لم تجد طريقها إلى الحياة ولم تمنحها الحكومة أي قبلة من قبلات الحياة، وحتى التجارب السابقة القوية والجيدة الخاصة بالحكومة نفسها.. كل هذه التجارب أنا أرى أنها أُغفلت في السنوات الماضية“، وحذر إبراهيم، وهو طبيب بشري ظل في السجن من عام 1981 حتى عام 2005، من ”مفرخة الإرهابيين“ بالسجون المصرية.
وقال ”99 في المئة من الموجودين في السجون لم يرتكبوا أعمال عنف لأن أغلب من يحملون السلاح يقتلون في مواجهات مع الأمن. الذين يدخلون السجون إما شاب شارك في مظاهرات، وإما منتمي (لجماعة الإخوان).. ومنهم أساتذة جامعات وطلبة في كليات الطب والهندسة وما إلى ذلك“، وأضاف ”هؤلاء تحت وطأة الصراع السياسي وتحت وطأة الأحداث دخلوا في هذا الصراع. هؤلاء الأفيد لهم أن نغير فكرهم“.
وحذر من أن أمثال هؤلاء يمكن أن يتحولوا من محتجزين لا ينتمون لتنظيم متشدد ولا يتبنون فكرا تكفيريا إلى معادين للدولة وربما إرهابيين.
وتابع إبراهيم الذي تضم مكتبته روايات ومؤلفات في مجالات متنوعة ”أرى أن الموجودين في السجون يحتاجون إلى حراك فكري ومعاملة حسنة كما حدث قبل ذلك في المبادرة (مبادرة وقف العنف). الذي أنجح المبادرة أنه كان هناك حراك فكري كبير جدا في السجون ومعه معاملة حسنة“.
تواصل وتغيير قناعات
من بين المشاركين أيضا في مشروع دار الإفتاء محمد خيال وهو صحفي شاب بجريدة الشروق الخاصة ومتخصص في الحركات الإسلامية. وهو يساهم بعرض نماذج تعرف عليها، بحكم عمله، لشبان تحولوا إلى العنف والتطرف بعد خروجهم من السجن.
قال ”الأزمة الأكبر مسألة الحبس الاحتياطي... شاب يقضي ثلاث سنوات في السجن وسط هؤلاء الناس (المتشددين) ثم يأخذ براءة في القضية التي يحاكم فيها.. ماذا يحدث؟ بعدما كانت داعش على الأطراف في شمال سيناء والمناطق الصحراوية فأنت بنفسك (الحكومة) تُدخل داعش إلى القاهرة الكبرى والدلتا ومناطق أخرى“.
وكان يشير إلى جماعة ولاية سيناء الموالية لتنظيم الدولة الإسلامية وهي أكبر الجماعات المتشددة في مصر وتنشط في محافظة شمال سيناء.
وطالب خيال في حديثه مع رويترز بتعديلات قانونية تحول دون حبس المتهمين في قضايا التظاهر أو بتهم غير خطيرة احتياطيا أو على الأقل فصلهم عن السجناء المعروفين بانتمائهم إلى جماعات متشددة أو ممن يعتنقون أفكارا متطرفة.
واقترح الاعتماد على شيوخ ”ليسوا من الوجوه المحروقة“ على حد وصفه، نظرا لرفض معظم السجناء الإسلاميين التعامل مع كل من له صلة بالنظام الحالي.
وعن هذا قال ناجح إبراهيم “حتى لو لم تصل معه لقناعة 100 بالمئة فأنت تهز قناعاته. دائما تبقي على تواصل بينك وبينه. هذا التواصل يحول بينه وبين أن يكون إرهابيا. هذا التواصل يحول بينه وبين التحول إلى درجة أشد، ”إن لم يفلح في إثنائه سيمنعه من أن يصل إلى فكر أشد. على الأقل أوصلت له الرأي الآخر وعاملته معاملة جيدة“.
اضف تعليق