هل توقعت الأيادي التي زرعت العبوات الناسفة في الحافلات التي تقلّ المدنيين الشيعة من كفريا والفوعا، بأي نوع المعوّقات او الصعوبات أو حتى القلق من احتمال فشل عملية نسف هذه الحافلات بمن فيها من النساء والاطفال في منطقة الراشدين؟
بالأساس؛ تُعد جميع الطرق والممرات في مناطق القتال بسوريا محفوفة بخطر الموت، حيث الالغام والعبوات الناسفة المزروعة هنا وهناك تمثل أحد أدوات الحرب حتى وإن تدخل الحل السياسي وظهرت بوادر انحسار القتال بتبادل الأسرى او فك الحصار عن المدن واستسلام المسلحين وغيرها، يبقى العنف الدموي السهم الاخير في جعبة الارهابيين قبل تخلّيهم عن خيار الحرب لتحقيق ما أمكن من المكاسب.
الجماعات الارهابية المتعددة الاسماء في سوريا تجد نفسها خاسرة من جهتين:
الاولى: اجتماعياً، حيث وجدت أن عليها التخلّي عن مدنها وقراها المحاصرة من قبل الجيش السوري مقابل تخلّيها عن حصارها للمدنيين الشيعة في مناطق أخرى.
والثانية: سياسياً، وهو الأمضّ، بأن تجد نفسها منحنية أمام المدّ السياسي والدبلوماسي، وأن انتصارها على الجيش السوري وإسقاط بشار الأسد، بات مجرد حُلم، لذا تسعى لأن يكون انسحابها من الساحة نهائياً، بشكل يحفظ "ماء الوجه" امام مجتمعهم وعوائلهم بعد سنوات من تحمّل الخوف والجوع والموت.
هذا وغيره، يستدعي وجود إشراف دولي مباشر على عملية إخلاء المدنيين التابعين لجهات متخاصمة ومتحاربة، لذا لاحظنا تنفيذ اتفاقيات الإخلاء في اكثر من مدينة ومنطقة استفادت منها الجماعات الارهابية للخروج من المدن المحاصرة مع عوائلهم وحتى اسلحتهم الخفيفة، كان ابرزها؛ اتفاق الحكومة السورية مع سكان حي الوعر بمحافظة حمص على خروج الارهابيين من الحي مقابل رفع الحصار عنه منذ 2013، وهو آخر معقل لهم في هذه المدينة.
وحسب المصادر الاعلامية فان محافظ حمص، طلال البرازي، أكد أن الاتفاق "يقضي بخروج المسلحين وعائلاتهم الراغبين في مغادرة الحي، نحو مناطق أخرى من البلاد"، وكتب البرازي على صفحته في موقع فيسبوك أنه "سيتم استكمال تنفيذ اتفاقية حي الوعر بالتعاون مع مكتب المصالحات الروسي"، وأضاف أن الاتفاق يقضي بخروج المسلحين على دفعات مع عائلاتهم وأن "الشرطة المدنية والهلال الأحمر العربي السوري سيشرفان على الخروج، بينما تشرف القوات الروسية على تنسيق وتأمين وصول المسلحين وعائلاتهم".
أما ما يتعلق بملف الجزء الشرقي من مدينة حلب وتصفية آخر جيوب الارهابيين في شهر كانون الاول من العام الماضي، فقد كانت الرعاية الروسية أكثر حضوراً وفاعلية، إذ كان الراعي الرئيس للاتفاقية شخص المندوب الروسي في الامم المتحدة السفير الراحل؛ فيتالي تشوركين، ضمن اتفاق روسي – تركي لخروج الارهابيين مع عائلاتهم بسلام، مع اصطحاب اسلحتهم الخفيفة، ونُقل عن السفير الروسي الذي وافاه الأجل في وقت لاحق قوله: "يمكن للمدنيين أن يبقوا، ويمكنهم الذهاب إلى أماكن آمنة، وباستطاعتهم الاستفادة من الترتيبات الإنسانية على الأرض. لا أحد سوف يؤذي المدنيين"!.
ألغام المفاوضات قبل ألغام الموت
اتفاقيات وقف اطلاق النار وتبادل إخراج المدنيين من المدن الاربعة، يعود الى شهر اذار 2015، تعرضت قريتي كفريا والفوعة لحصار شديد وتهديد بالموت من قبل الجماعات الارهابية التي أحكمت سيطرتها على مدينة أدلب آنذاك.
وفي 20 من أيلول 2015، تم التوصل إلى أول اتفاق هدنة يؤدي إلى إجلاء المصابين والمدنيين الراغبين في الخروج من البلدات المذكورة بشكلٍ متبادل، جاء هذا الاتفاق بعد عملية المفاوضات التي تمت بين الجماعات المسلحة من جهةٍ، وقوات النظام وحزب الله اللبناني من جهةٍ أخرى، وشمل الاتفاق حينها إيقاف المعارك الدائرة في الزبداني ومضايا، وإجلاء المدنيين من كفريا والفوعة، بالإضافة إلى إطلاق سراح 500 معتقل لدى النظام السوري، إلى جانب استمرار التهدئة لستة أشهر.
وفي 28 كانون الأول 2015، تم التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار وتوفير ممرات آمنة بجهود الأمم المتحدة وبعض الدول الإقليمية كتركيا وقطر، وفي إطار الاتفاق، خرج بعض المسلحين وعوائلهم من الزبداني نحو مطار بيروت ومنها إلى تركيا، وانطلقت بعض العوائل من كفريا والفوعة إلى تركيا ومنها إلى بيروت، وحسب وسائل الإعلام حينها فان 130 مسلحًا على الأقل، معظمهم مصابين، غادروا مدينة الزبداني نحو لبنان، وتوجه نحو 350 شخصًا من بلدتي كفريا والفوعة إلى تركيا ومنها إلى بيروت.
يتضح من المشهد السياسي والاجتماعي في الفترة الماضية، أن مفاوضات وقف اطلاق النار كان من اجل تحقيق غايات انسانية مثل خروج المصابين من المناطق المحاصرة، وإيصال المساعدات الانسانية الى المحتاجين، وإطلاق سراح بعض المعتقلين، ولم يكن الحديث حينها عن إجلاء للمدنيين من الزبداني قرب دمشق ولا مضايا في حلب التي تسيطر عليها جماعات مسلحة، مثل "جيش الفتح" ومن ينضوي تحتها من "انصار الشام" "وأحرار الشام" وغيرها، بيد أن الاتفاق الجديد يتضمن إخلاء المدنيين مع مسلحيهم من هذه المدن الاربع، وهذا يتزامن مع تغيّر كبير في موازين القوى في الميدان لصالح قوات النظام السوري الذي يواصل تقدمه في مناطق ومدن عدّة بعد استعادته الكاملة لمدينة حلب وحمص ومحاولته تصفية جيوب المقاومة هناك، والأهم من ذلك؛ استعادة سيطرته على أطراف دمشق، لاسيما في مناطق استراتيجية مثل وادي بردا والغوطة وغيرها التي اتخذتها الجماعات المسلحة طيلة السنوات الماضية منطلقاً لعملياتها ضد القوات السورية.
بمعنى أن الجماعات المسلحة؛ سواءً الموجودة في الميدان، او تلك المتواجدة في العواصم الاقليمية، ترى في هذا الاتفاق او نظيره من الاتفاقيات بشأن إخلاء المدن المحاصرة بمنزلة المقدمات لعمليات عسكرية تتبعها مكاسب سياسية يبحث عنها النظام السوري، لاسيما وأن هذه الجماعات التي تجد انها تندفع بسرعة نحو الجدار الاخير في الفترة الراهنة، تقف أمام حقائق مرّة أهمها الضغط الاجتماعي من القاعدة الجماهيرية لديها بالقبول بأي حلول سلمية وتفاوضية لإخراجهم مما يعانوه من جوع وأوبئة وحياة مريعة يخيم عليها الموت في كل لحظة، في المقابل، تشير المصادر الى أن مناطق أخرى مثل كفريا والفوعة تعيش في ظروف انسانية أقل حدّة بفضل الإمدادات التي تصلها من الجو ومن بعض الممرات البرية، من مواد غذائية ودوائية ومستلزمات ضرورية.
وتعلم الجماعات المسلحة أن إخلاء كفريا والفوعا يمثل خسارتهم لآخر ورقة ضغط على القوات السورية المتحفزة لاقتحام مدينة ادلب وانتزاعها من هذه الجماعات نهائياً، لذا أكد المراقبون حالة الامر الواقع لجيش الفتح بالموافقة على الاتفاق الاخير برعاية قطرية، فهي لا تفكر بالمدنيين الشيعة في كفريا والفوعة، بقدر ما تنظر الى الاوضاع المأساوية لسكان مضايا والزبداني، وما آل اليه أمر الحصار الطويل من قبل القوات السورية، من مجاعة وانتشار الاوبئة بين الاطفال ونقصان الدواء، علماً أن الاتفاق ينصّ ايضاً في مرحلته الثانية على إطلاق سراح 1500 من المعتقلين في سجون النظام، إضافة لإخلاء مقاتلي هيئة تحرير الشام من مخيم اليرموك جنوبي دمشق.
الظلال الكثيفة للتحركات العسكرية وآفاق المرحلة، جعل اتفاقية المدن الاربعة هذه المرة في مهبّ الريح والنار ايضاً، فكانت شرارة المواقف السلبية من الراعي القطري نفسه، عندما خرج وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، بتصريحات مريبة وصف فيها أن "الاتفاق قديم، و يعود إلى العام 2015، وتم التوقيع عليه مرات ولم ينجح"! واعترف بشكل واضح بوصول معلومات معينة اعتمدها من الجماعات المسلحة بأن يكون الاتفاق لغير صالحهم وحتى لصالح قطر وعواصم اقليمية متحالفة، وقال إنه "تم تداول الكثير عن التغيير الديموغرافي لسوريا وهذا الأمر مرفوض بالنسبة لنا"، ثم جاءت بعده بعض الجماعات المسلحة في الداخل والخارج لتضع العصا في عجلة هذه الاتفاقية ومن ثم زرع الالغام في طريق نجاحها، فقد تفاجأ المراقبون بموقف غريب من الائتلاف السوري الفاشل سياسياً في الخارج والداخل على حدٍ سواء، وهو يصدر بياناً يهاجم الاتفاق ويتحدث عن "تهجير قسري وتغيير ديموغرافي"، فيما خرج محمد علوش، رئيس المكتب السياسي لجماعة "جيش الإسلام" بتصريحات عنيفة ضد الاتفاق واصفاً إياه "بالخيانة".
وإذن؛ تم نحر الاتفاق قبل صعود المدنيين الشيعة في حافلاتهم للخروج من كفريا والفوعة، رغم تأكيد جهات سياسية في الداخل على أنها المخولة لإبرام أي اتفاق مع الحكومة السورية لضمان أمن وسلامة المدنيين في الزبداني ومضايا، وقد نقلت مصادر عدّة ردود فعل ايجابية من المدينتين بأن الاتفاق "أهون الشرّين" للنجاة بارواحهم.
فاجعة مع سبق الإصرار
مع كل المعطيات الموجودة يتضح حجم الخطورة التي رافقت المدنيين الشيعة في خروجهم من كفريا والفوعا بحوالي 75 حافلة، وحجم القصور الفضيع في حماية هذه القافلة من أي تعرّض او تفخيخ او أي عمل ارهابي آخر.
ومن الملفت جداً تواجد عناصر من "الجيش الحر" حول القافلة المغدورة في وقت تناقلت بعض المصادر أن هذا الفصيل كان من بين المعترضين على الاتفاق. ووصفه بأنه "مريب"، فأين الجهات الراعية وشروطها لضمان سلامة المدنيين؟
إن الاشلاء الموزعة للنساء والاطفال حول الحافلات المحترقة والمدمرة تبعث برسالة شديدة اللهجة الى جميع المعنيين بالاتفاقيات مع الجماعات المسلحة، بأن يضعوا أرواح المدنيين فوق كل اعتبار، وإلا فان دورها السياسي في الساحة السورية حاضراً ومستقبلاً سيكون تحت علامة استفهام كبيرة عن حقيقة النوايا والاهداف لاسيما وأن معالم الصراع الطائفي اكتملت في بؤر التوتر والنزاع بالمنطقة بشكل عام، فالسكان المدنييون في مختلف الاماكن لن يرضوا بأن يتحولوا الى بيادق لكسب الامتيازات والمصالح التي لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
اضف تعليق