تعد السياسة النقدية من المحاور الاقتصادية المهمة التي يقوم عليها اقتصاد اي بلد، الى جانب السياسات الاخرى كالسياسة المالية والسياسة التجارية ...الخ، ويهدف صانعي السياسة من خلال السياسة النقدية الى تحقيق الاستقرار الاقتصادي، من خلال الاجراءات التي يتخذها البنك المركزي لتحقيق ذلك.
الا ان الامر ليس بالسهولة التي قد يتصورها البعض، اذ وقبل كل شيء لابد من معرفة ان نجاح البنك المركزي من خلال السياسة النقدية في تحقيق الاستقرار، يتطلب ان يكون مستقلاً بشكل تام عن الادارة السياسية للبلد، وهنا قد يطرح أحدهم سؤال، وهو لماذا يجب ان يكون البنك المركزي مستقلاً؟.
فأذا ماكانت الاهداف واحدة للأدارة السياسية والبنك المركزي فمالذي يمنع من أن يكون البنك المركزي تابع كمؤسسة حكومية الى الحكومة؟ ان الاجابة على ذلك تضطرنا للعودة للخلف، فكما هو معلوم ان النظرية الكلاسيكية التي تبلورت على يد الاقتصادي آدم سميث لاسيما بعد صدور كتاب ثروة الأمم عام 1776، الذي بين من خلاله واجبات الدولة والتي حصرها بتوفير الأمن والدفاع، اي عدم تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي او مايعرف بالدولة الحارسة.
الا ان فشل النظرية الكلاسيكية بعد أزمة الكساد العظيم 1929-1933، والتي بسببها أصبحت ربع القوة العاملة في العالم عاطلة عن العمل، وبالتالي فسحت المجال لظهور رأي أخر وتنظير جديد على يد الاقتصادي جون مينارد كينز، الذي بين في كتابه النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود المنشور في عام 1936، انه لابد ان يكون للدولة دور في معالجة الأزمات، وذلك من خلال تحفيز الطلب الفعال عبر أداة السياسة المالية، وهو ماعرف في وقتها بالدولة المتدخلة.
وبعد عجز الوصفات الكنزية في معالجة التضخم لاسيما في فترة الستينات والسبيعنات، ظهر اتجاه جديد يقوده الاقتصادي ملتون فريدمان وآن شوارتز، يرى في ان السياسة المالية غير فعالة على عكس السياسة النقدية التي بمقدورها حل الأزمات وذلك من خلال ادواتها المعروفة كعرض النقد والفائدة والاحتياطي وسوق الاوراق المالية المفتوحة وسوق الصرف.
ان الجدل الدائر حول فعالية أي السياستين فعالة أكثر، انتهى به المطاف في ان يعلن كلا الفريقين الكنزي والنقودي، بأن كلا السياستين ضرورية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، الا ان الاتجاه الحديث سار باتجاه أفكار المدرسة النقودية بزعامة فريدمان، وماشجع ذلك هو أن الرأسمالية الحالية تحولت وتطورت من رأسمالية صناعية الى رأسمالية مالية، حيث أن الدور الأكبر هو للسياسة النقدية، الا ان فشل السياسة النقدية في منع الازمة المالية العالمية الاخيرة وحتى الازمات السابقة، كالأزمة الأسيوية وأزمة المكسيك عام 1994، وانتهاءاً بالأزمة المالية عام 2008، بين أهمية السياسة المالية في معالجة الوضع وذلك عبر تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي من خلال تأميم بعض المصارف واقراض الأخرى للخروج من الأزمة.
الا ان هذا لايمنع من أن السياسة النقدية لها الدور البارز في قيادة الاقتصاد ولفترة قد تطول وتستمر، وهنا قد يرد سؤال اخر مهم، وهو لماذا هذا التركيز على السياسة النقدية دون سواها؟ في الواقع ان الاجابة على هذا السؤال تكمن من خلال ادوات السياسة النقدية واهدافها، فهي أولا تسعى لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، اي انها تسعى لمنع التضخم من ان يكون جامحاً وان تحقق سعر صرف ايجابي للعملة المحلية، وان تعمل على استمرار الاستثمارات والادخارات عبر قناة سعر الفائدة.
وعليه نفهم انه من متطلبات تحقيق النمو الاقتصادي هو تحقيق الاستقرار الاقتصادي عبر تحقيق مستوى من التضخم مقبول، والحفاظ على قيمة العملة من خلال اسعار الصرف بما يؤمن سلاسة عمليات التبادل التجاري للصادارات والاستيرادات للبلد، وبالتالي تمنع من حصول عجز تجاري، وتدور في اسعار السلع على المستوى المحلي والخارجي.
وهذه السياسة التي تسعى الكثير من البلدان لاسيما النامية منها الى تطبيقها، تواجه عقبة كبيرة وهي ان أغلب هذه البلدان تعيش في مرحلة الدولة المتدخلة والمسيطرة على كل شيء، ومنها العراق، الذي وعلى الرغم من أنه اقتصاده يوصف بأن ينتهج النمط الحر وان البنك المركزي العراقي مستقل، الا تدخل الدولة لايزال واضح ومؤثر في عمل البنك المركزي، وبالتالي تشوه عمل السياسة النقدية في البلد.
ومن أجل أن تنجح السياسة النقدية في العراق من تحقيق أهدافها، فأنه على الحكومة ان تعي معنى استقلالية البنك المركزي والسياسة النقدية في البلد، وان تعي معنى عدم التدخل في قرارات البنك المركزي، والا فأن السياسة النقدية ستبقى غير قادرة وغير فاعلة في الايفاء بمتطلبات تحقيق الاستقرار الاقتصادي، عالاقل في المحافظة على استقرار اسعار الصرف وحماية القوة الشرائية للمواطنين من تفاقم التضخم، وعليه يجب ان يكون ايمان حقيقي بمدى أهمية هذه السياسة في البلد.
اضف تعليق