سيرجي غورييف

 

لندن- لقد أظهرت سنة 2016 أنه لا يمكن أن نعتبر بقاء الديمقراطية الليبرالية على أنه من المسلمات حتى في الغرب ففي واقع الأمر تظهر تحليلات بيانات مسح القيم العالمية من قبل المختص في العلوم السياسية من جامعة هارفارد ياشا مونك أنه في العديد من الدول الغربية فإن ثقة الناس في الديمقراطية قد تراجعت منذ بعض الوقت.

ما الذي يفسر هذه الظاهرة؟ الإضطرابات السياسية في سنة 2016 توحي بإن الكثير من الناس أصابهم الإحباط من عدم إتخاذ الديمقراطية للإجراءات المناسبة حيث يفترض هؤلاء أنه لم يتم التعامل مع تباطؤ نمو الدخل والبطالة وإنعدام المساواة والهجرة والإرهاب بشكل حاسم ولقد بدت المؤسسات السياسية في الدول الديمقراطية في حالة سبات دائم مما أشعل مطالب الناخبين بقادة أقوياء قادرين على إقتحام الطرق المسدودة وإكتساح المقاومة البيروقراطية للسياسات الجريئة الجديدة.

إن هولاء القادة – الذين عادة ما يؤكدون أنهم وحدهم القادرون على حل مشاكل البلاد- عادة ما يتم البحث عنهم وإيجادهم في عالم التجارة والأعمال فالعديد من الناس يعتبرون أن الرئيس التنفيذي الناجح هو شخص يستطيع تحقيق أهداف محددة بوضوح وعليه فلقد توصلوا لإستنتاج مفاده أن بإمكان رجل الأعمال أن يحل المشاكل الإجتماعية التي لا يستطيع السياسيون حلها.

لكن هذه النظرة مضللة لإن القيادة السياسية مختلفة بشكل أساسي عن القيادة التجارية وفي لغة الإقتصاديين فإنه يمثل الفرق بين تحليل التوازن العام والتوازن الجزئي. يتوجب على قادة قطاع الأعمال عمل إنجازات لما فيه مصلحة المساهمين بالشركة وأن لا يشغلوا أنفسهم بما يحصل لبقية المجتمع. لو تطلب زيادة الربح تخفيض النفقات وتخفيض العمالة فإن بإمكان رئيس الشركة التخلص من بعض الوظائف وتقديم مخصصات نهاية الخدمة للعمال الذين تم الإستغناء عنهم. ما الذي سيحصل لهؤلاء العمال لاحقا هو إختصاص شخص آخر –أي الدولة -.

من ناحية أخرى فإن القادة السياسيين ملزمون بمبدأ "شخص واحد، صوت واحد" ولديهم مسؤولية الإعتناء بالإغنياء والفقراء والعاملين والعاطلين عن العمل على حد سواء حيث يتوجب على السياسي التحقق من أن العمال العاطلين عن العمل لديهم فرص جديدة أو يخاطروا بخسارة أصواتهم.

إن هذا لا يعني أن وظيفة الرئيس التنفيذي هي أسهل ولكن من المؤكد أنها محددة بشكل أكثر وضوحا فالقادة الذين يتعاملون مع مهمة سياسية بعقلية رجال الأعمال من المرجح أن يركزوا بشكل أكبر على الفعالية أكثر من الإندماج والشمولية ولكن لو تجاهلت إصلاحاتهم الكثير من الناخبين فإن من الممكن تغييرها.

كما رأينا سنة 2016 فإن الدول الغربية تحتاج بشكل عاجل لإيجاد وسائل للتعويض أو مساعدة أولئك الذين خسروا في ظل الإقتصاد العالمي الحالي وهذا درس مؤلم تعلمته البلدان في مرحلة ما بعد الشيوعية خلال فترة التسعينات فطبقا لتقرير المرحلة الإنتقالية الذي أصدره البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية مؤخرا ويدعى " الإنتقال للجميع " فإن أول سنوات إصلاحات السوق أضرت بالأغلبية الساحقة من سكان تلك البلدان.

إن من المثير للإهتمام أن العديد من الناس الذين دعموا تلك الإصلاحات كانوا يفضلون "قادة أقوياء" فلقد جادلوا بانه نظرا لأن الإصلاحات لم تحظى بالشعبية فإنه يتوجب فرضها على الناس عوضا عن تعطيلها من خلال ممارسات ديمقراطية مكثفة ولسوء الحظ فلقد كان لهذا الطرح أثارا عكسية فبينما استطاع بعض القادة الأقوياء تنفيذ الإصلاحات بشكل سريع فإن الإجراءات أفادت فقط أقلية من الناس والعديد منها تم تغييره في نهاية المطاف.

إن من الأمثلة على ذلك هو التخصيص فالشركات التي تملكها الحكومات هي في الغالب شركات غير فعالة وعادة ما توظف عمالة تزيد عن الحاجة وعليه عندما يتم تخصيصها تصبح أكثر فعالية ولكنها تتخلص من العمالة كذلك وهذا يعتبر تطور إيجابي على مستوى الشركة ومن منظور التوازن الجزئي ولكن هذا قد لا يعتبر تطور إيجابي لو نظرنا لرفاهية العمال المسرحين وأبعاد التوازن العام على المجتمع.

لو أدى التخصيص لتسريح العديد من العاملين بدون تعويض فإن غالبية المواطنين قد ينظرون إليه كعملية غير شرعية مما قد يؤدي لتقويض دعمهم للملكية الخاصة للمنشئات المنتجة وهذا بالضبط ما حصل في أماكن لم تقتصر على عدة دول في ما مرحلة ما بعد الشيوعية حيث أصبحت كلمة التخصيص كلمة قذرة.

إن الضرر الذي تتسبب به إصلاحات غير شعبية مؤكدة دام لفترة أطول بكثير من الإصلاحات نفسها ففي العديد من بلدان مرحلة ما بعد الشيوعية أدى الألم الذي تسببت به تلك الإصلاحات لخلق الظروف السياسية لتولي الرجال الأقوياء الشعبويون مهام القيادة وعندما قام بعض من هؤلاء القادة الجدد بتغيير إصلاحاتهم قاموا كذلك بإزالة ضوابط مؤسساتية على سلطتهم من أجل تصعيب مهمة أولئك الذين يتحدون تلك القرارات وعندما أحكموا سيطرتهم على السلطة قاموا بإعادة توزيع ثروة البلاد على أنصارهم المقربين وعليه فإن من غير المفاجئ أن إنعدام المساواة في العديد من تلك البلدان هو أسوأ اليوم مقارنة بما كان عليه الوضع عندما تم التخلي عن التخصيص والإصلاحات الأخرى.

ولهذا السبب فإن المؤسسات الديمقراطية مهمة للغاية لانها تمكن أولئك الذين تضرروا من الإصلاحات من الحصول على تعويض وبوجود "شخص واحد، صوت واحد" فإن هذا يعني أن "الخاسرين " هم بنفس أهمية "الرابحين " ولإن السياسات الديمقراطية الحقيقة يجب أن تشمل الجميع بحق فإن تطبيق الإصلاحات في بلد ديمقراطي يحتاج للوقت والجهد ولكن العملية المؤلمة لبناء إئتلافات عريضة مؤيدة للإصلاح ستتحقق من إستمرارية تلك السياسات.

على المدى الطويل فإن الإصلاحات التي تشمل الجميع وتهتم بهم سوف تبقى بينما الإصلاحات السريعة والقذرة سوف تنتهي وسلحفاة الديمقراطية تهزم أرنب الدكتاتورية الخيرة.

* سيرجي غورييف، كبير الاقتصاديين في البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق