q

كمال درويش

 

واشنطن العاصمة – إن هناك قلة من المحللين توقعوا أن يصوت البريطانيون بالخروج من الإتحاد الأوروبي أو أن يصوت الأمريكيون لدونالد ترامب كرئيسهم القادم وبعد ذلك بفترة قصيرة ظهر تفسير عليه إجماع لتلك الإخطاء في الحسابات ولكن عندما يتعلق الأمر بمثل هذه التطورات المعقدة الناتجة عنها فإن يتوجب علينا الحذر من التحليل السطحي.

إن الإجماع الحالي يلقي باللوم على "النخب" في القطاع الأكاديمي والاعلام والأعمال بسبب إنغماسهم في عالمهم المترابط والواسع لدرجة أنهم فشلوا في الإستماع بعناية وإهتمام للمجموعة الإقل تعليما وترابطا، ونظرا لإن المجموعات الأخيرة هي المجموعات الإقل إستفادة من العولمة فلقد كانوا هم الأقرب لرفض المؤسسات العابرة للحدود (في حالة بريكست) ومرشحي السلطة (في حالة ترامب). لقد كان تجاهل تلك المجموعات في نواح كثيرة خطأ واضح.

إن هناك الكثير من الصحة في وجهة النظر تلك. "إن التفكير الجماعي " عادة ما يصيب النخب المالية والفكرية اليوم بما في ذلك المشتغلين في إستطلاعات الرأي حيث عادة ما يكون لهؤلاء نفس الخلفيات التعليمية ويعملون معا ويقرأون نفس الصحافة ويتجمعون في نفس المؤتمرات والفعاليات وذلك من دافوس وحتى أسبن.

إن هؤلاء عادة ما يؤمنون بانهم قد استوعبوا دروس التاريخ العظيمة فهم عادة ما يستنكرون العنصرية وحتى الأشكال الأكثر إعتدالا من العرقية ومن غير المرجح أن يرفضوا المساواة بين الجنسين وعلى الرغم من أن تلك المجموعات لا تشكل نموذجا للتنوع فإن هناك إقرار على نطاق واسع بقيمة التنوع وبإن هيمنة الرجال على أقل تقدير قد بدأت بالإنحدار.

إن القاسم المشترك الآخر لهذه المجموعة هو الثروة فبينما ليس جميع الأعضاء في هذه المجموعة من أصحاب الملايين فإنه عادة ما يكون لديهم العلم والمهارات الكافية من أجل جني فوائد العولمة الإقتصادية وكنتيجة لذلك لم يستطيعوا بشكل عام إدراك تصاعد إنعدام المساواة وخاصة في الولايات المتحدة الإمريكية كمشكلة رئيسية إلا مؤخرا (على الرغم من أن العديد من النخب الأكثر ثراءا قد إنخراطوا في أعمال خيرية كثيرة لم يسبق لها مثيل).

إن من الواضح أن النخب العالمية الذين يتخذون قرارات لاحقة تتعلق بقطاعات حيوية تمتد من قطاع الإعمال إلى القطاع المالي والسياسي يجب أن يولوا مزيدا من الإهتمام بمظالم الناس الأقل حظا وتعليما بالإضافة إلى الأقل ترابطا وتواصلا وعوضا عن الإجتماع بإناس يشاطرونهم الأفكار نفسها في الصوامع فإنه يتوجب عليهم خلق منابر تربطهم بالناس من خلفيات وظروف أكثر تنوعا بما في ذلك أولئك الناس الذين عاشوا تجارب مختلفة جدا مع العولمة. إن مثل تلك المنابر سوف تساعد في التعامل مع تجزئة النقاش العام.

لكن الفقاعات الإيدولوجية ليست هي المشكلة الوحيدة فلقد فشلت النخب ليس فقط في توقع الإنتصارات الشعبوية الأخيرة بل أيضا في التنبؤ بإن فرانسوا فيلون غير الشعبوي سوف يحقق فوزا صريحا في الإنتخابات التمهيدية ليمين الوسط الفرنسي بهامش كبير. إن من الواضح أن الجهل بغضب الطبقات العاملة ليس هو العامل الوحيد الذي يشوش على راداراتهم السياسية.

بالطبع سيكون من المريح الإعتقاد لو إن الحقائق كانت معروفة بشكل أفضل وكان بإمكان الناس مناقشتها بتجرد أكثر لأصبح الناخبون موحدين أكثر وتصبح السياسات بناءة بشكل أكبر ولكن حتى مع وجود حوار أفضل ومبني على الحقائق فإن مصالح الناس سوف تتباعد.

إن أولئك الذين صوتوا لبريكست أو ترامب لم يفشلوا ببساطة في فهم الفوائد الحقيقية للعولمة بل إنهم يفتقدون للمهارات أو الفرص حتى يحصلوا على قطعة من الكعكة فهناك ما هو أبعد من التواصل مع الناس حيث توجد حاجة حقيقية لسياسات إعادة توزيع لا تعتمد في الأساس على الفوز في جميع الأحوال فالمستفيدون الرئيسيون من التجارة الحرة والتغير التقني يجب أن ينشطوا في تعويض الخاسرين وذلك من خلال فرض الضرائب والدعم بالإضافة الى الدعم التوظيفي.

إن الإفتراض بإن الغرب الليبرالي الديمقراطي متوافق إلى حد كبير في مصالحه الإقتصادية والجيوسياسية هو إفتراض خاطىء بالأساس فالحقيقة هي أن القوى الغربية التقليدية وعلى الرغم من وجود الكثير من الأشياء المشتركة تتباعد في مجالات مختلفة من سياسة الطاقة –أوروبا تعتمد على الهيدروكربونات بشكل أكبر بكثير من الولايات المتحدة الأمريكية – إلى الأمن وفي هذا السياق فإن التواصل بشكل أفضل والموافقة على الحقائق لن يكون كافيا لتسهيل الموافقة على التعاون فهناك حاجة للتفاوض بحيث يضحي كل طرف للطرف الآخر.

إن كلا المسألتين تشير لعيب أشمل في النظرة الغربية وهو الإعتقاد بالحلول الفائزة على الدوام وفي واقع الأمر فإن الليبرالية الديمقراطية في نسختيها من يمين الوسط ويسار الوسط تعكس الإيمان بإن مثل تلك الحلول (أهمها السلام) يمكن أن تنفع المجتمع أو البشرية بشكل عام على المدى الطويل. إن الديمقراطية تتعامل مع التقلبات وتدير التضحيات على المدى القصير ولكن في نهاية المطاف الجميع يستفيد.

بالطبع فإن الفشل في تأمين الحلول الفائزة عادة ما ينتج عنها مواقف خاسرة ففي النصف الأول من القرن الماضي هناك إعتقاد على نطاق واسع بإن الفشل في التعامل مع مسألة المساحات الزراعية ستؤدي إلى مجاعات في بعض البلدان واليوم هناك جدل مماثل فيما يتعلق بالطاقة.

إن الواقع هو أكثر تعقيدا فحتى تتمكن الإقتصادات من تأمين الفوز بالنمو الشامل فإن على الأثرياء الخضوع لشكل من أشكال التنظيم والضرائب بما في ذلك القواعد الدولية التي ستكلفهم أموالا طائلة على المدى الطويل وبينما هذا لن يحول الأثرياء إلى خاسرين (سوف يظلوا أثرياء) فإن لا أحد ينكر أنهم سوف يتكبدوا خسائر.

لقد كان النهج الليبرالي الديمقراطي محقا في فهمه بإن هناك دائما مجالا للحلول الوسط وبينما ليس كل شخص سيعود لمنزله وهو يشعر أنه الفائز الحقيقي فإن الأشخاص والبلدان سيكونوا في وضع أفضل لو عملوا معا وعقدوا الصفقات مقارنة بلو إستحوذوا على مساحة محدودة وموارد محدودة واكتفوا بحمايتها بكل الوسائل الممكنة. إن تكاليف الصراعات الحديثة بما في ذلك الجمود السياسي الداخلي هي كبيرة للغاية لدرجة أنه حتى الفائزين سوف يخسرون في نهاية المطاف.

في أعقاب الأخطاء في الحسابات التي حصلت مؤخرا فإنه يتوجب علينا إعادة تقويم الرادارات السياسية لدينا وهذا يعني تغطية جميع المصادر المحتملة للتدخل وليس فقط المصادر التي تناسب الطرح المنمق. إن الإختلاف الأساسي في النظرة العالمية بين الديمقراطيين الليبراليين أو الإجتماعيين والإيدولوجيين المتشددين سواء قوميين أو غير ذلك ربما تكون الأكثر ترابطا من الناحية المنطقية حيث يتوجب على الطرف الأول أن يقر بالمواقف الخاسرة والمربحة على المدى المتوسط ولكن يجب المحافظة على إيمانهم طويل المدى بالتغير الديمقراطي التدريجي في الوطن بينما يعملون على التمسك بالسلام العالمي.

* كمال درويش، وزير سابق للشؤون الاقتصادية في تركيا والمدير السابق لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، هو نائب رئيس مؤسسة بروكينغز

اضف تعليق