سليم كان سازك (Selim Can Sazak)
ترجمة وعرض وتحليل: د. حسين أحمد السرحان
مركز الدراسات الاستراتيجية/جامعة كربلاء
يبدوا ان الشرق الاوسط يتصدر مناطق العالم الاخرى في طبيعة وحجم المشاكل التي يعانيها وابعادها المتعددة. وهذه المشاكل تُوِجت بتصاعد حالة عدم الاستقرار السياسي والامني، فضلا عن المشاكل الاقتصادية والاجتماعية في المرحلة الاخيرة والتي نتج عنها ظهور التنظيمات الارهابية كالقاعدة وداعش وفتح الشام (جبهة النصرة) وغيرها الكثير. وللاهمية الاستراتيجية للمنطقة، لازالت مشاكله تشغل حيزا كبيرا في اهتمامات الدوائر البحثية ودوائر صنع القرار. لذا تظهر بين الحين والاخر مقالات واوراق سياسات عن مراكز بحثية قديرة (مراكز تفكير) تبحث في طرق تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة. كما ان البعض منها تتعرض للنقاش وتبيان ما ينقصها من جوانب معينة ومنها المقالة التي بين ايدينا والتي جائت لمناقشة مجموعة افكار طرحها كاتبان نُشرت في مجلة (Foreign Affairs) الاميركية.
فيفي مقالة نشرتها مجلة (Foreign Affairs)، للكاتبين مايكل اكسورثي (Michael Axworthy) وباتريك ملتون (Patrick Milton) اكدا بأن اطار ويستفاليا – التي اختتمت حرب الثلاثين عام – يمكن ان تجلب النهاية او الحل لصراعات الشرق الاوسط العميقة الجذور. وفي حين كُشف زيف التفسير التقليدي لنظام ويستفاليا – التي جائت إيذانا ببدء النظام الحديث للدولة القومية – شرع كل من اكسورثي Axworthy وملتون Milton الى انتقاء بعض موادها الاقل تقديرا مثل آليات حل الصراعات العابرة للاقليم، ونظام الامن الجماعي. ويعتقدون بأن هذه الرؤية المحدثة لويستفاليا يمكن ان تخدم -ليس كمشروع.. بل كدليل و ادوات- السلام في الشرق الاوسط.
حتى اذا كانت تلك هي الحقيقة، الا ان الكاتبين اصابا سبب خطأ النظام. اذ ان معاهدة السلام –في حد ذاتها– لم تجلب السلام. بل كانت في الواقع تتضمن اربع ديناميكيات مهمة مكّنت تلك المعاهدة من العمل:
1- علمانية السياسات الحاكمة،
2- تجانس او تماثل السياسات الحاكمة،
3- استيعاب الخلافات،
4- ابعاد الخصومات.
اكد مهندس الواقعية الجديدة (هانس مورغن ثاو Hans Morgenthau) في مقالته ذات العنوان المؤثر "اعادة النظر بمشكلة السيادة" أنه بفعل نهاية حرب الثلاثين عام، "كانت السيادة كسلطة عليا على اقليم محدد حقيقة سياسية، مما يؤكد انتصار الامراء الاقليميين على السلطة العالمية للامبراطور والبابا". وبعبارة اخرى، فان نظام ويستفاليا للدول ذات السيادة خلق نظام علماني. ولا عجب كان البابا إينوسنت العاشر (Pope Innocent X) غاضب جدا بفعل معاهدة السلام التي اكد على انها "لاغية، باطلة، تافهة، ظالمة، فضيعة، فارغة من المعنى والتأثير في كل الاوقات".
ولقسوة الحروب الدينية الاوروبية، يؤكد الكاتب ان الانتقال المفاجئ او القفزة الى النظام العلماني كانت ممكنة بفعل عنف تلك الحروب التي استمرت اكثر من قرنين بدءا من حروب الهوستي Hussite Wars (1419 - 1443) الى حرب الثلاثين عام Thirty Year's War (1618 - 1648). وبحلول الوقت الذي حلت فيه اوروبا خلافاتها الدينية، اكتمل تجانس السياسات الحاكمة. وهُزِم "الاختلاف" بين تلك السياسات، ثم تمت مطاردته الى المنفى، واصبح سهل الانقياد في الهزيمة. على سبيل المثال يقدر المؤرخون ان مايقارب من ثمانية ملايين قتلوا في المانيا خلال حرب الثلاثين عام. وحتى أكثر التقديرات تحفظا تقدر العدد بثلاث الى اربع مليون مواطن، ويقدرها المحاربين بخُمس سكان الامبراطورية الالمانية. وبالمثل في فرنسا اكثر من ثلاث ملايين قتلوا في حروب الهاجينوت Huguenot Wars (1562 - 1598) بين الكاثوليك والمسيحيون الفرنسيون الكالفينيين. وخلال المدة من 1580 الى 1594 تناقص عدد سكان فرنسا بأكثر من (1,5) مليون نسمة بنسبة 10%. وعند حلول وقت انتهاء الحرب، اختفى الهوغوينت المسيحيون الفرنسيون -الذين شكلوا اكثر من 10% من سكان البلاد– بشكل تام تقريبا. اما الذين نجوا فقد تحول كثير منهم الى الكاثوليكية. واخرون فرو الى المنفى ومعظمهم الى العالم الجديد (اميركا) مثل بول ريفر (Paul Revere) – احد الاباء المؤسسين للولايات المتحدة الاميركية جاء من جذور الهوغوينت المسيحيين الفرنسيين.
كما يرى الكاتب ان تجانس السياسات كان ضروري للعلمانية. وكنتيجة لذلك، اصبح من الممكن ان تقوم السلطات القضائية الاقليمية بتعيين الامراء. تلك السياسات كانت متجانسة لدرجة ان الغالبية هم الذين ينسجمون عقائديا مع الامير السيادي والاقلية تفتقر الى الاعداد الكبيرة والسلطة او القدرة على الطعن المؤثر والفعال في الوضع الراهن. وكان هناك حافز قليل للامراء الاخرين بالتدخل. وكان الاستثناء الواضح الحبر الاعظم pontiff الذي يُطلب منه كسلطة دينية التدخل بسلوك كل الكاثوليكيين وفي كل مكان. الا ان هناك مرة واحدة التزم بها الملوك بالاعتراف بسيادة بعضهم البعض وهذا احبط التوسط او التدخل ليس من قبلهم فحسب بل من قبل الاحبار ايضا. ومن خلال هذا التطور في معاهدة ويستفاليا تأكد لاحقا ان " الذي يحكم الاقليم... يُحدد الدين" ويتعهد بـ " المغفرة والنسيان الدائم ".
في النهاية، هذه النقلة النوعية سمحت بأبعاد التناحرات من خلال التنافس الدولي. وهذه اصبحت قضية مشتركة وهي تحفيز التعاون باتجاه التنوع السياسي والاقتصادي والديني بين الامم، وبعبارة اخرى، قادت الى استيعاب الاختلافات والهوية الوطنية المشتركة. وادى الانتقال من شبكة السلطات المتنافسة الى نظام الاعتراف المتبادل بالسيادة الى صعود دولة المدينة التي سمحت للمصالح السياسية والتجارية والدينية للعمل بشكل ترادفي. في الواقع، وفي دراسة له حول الاستعمار الاوروبي، سلط الاستاذ في جامعة ستانفورد ديفيد اي ابيرنثي (David B. Abernethy) الضوء على ان هذا "الانتهاك الثلاثي الابعاد للطاقة والربح والتبشير" كان العامل وراء التوسع الاستعماري في اوروبا. وكانت القوى الاوروبية لا تزال تقاتل بعضها البعض ولكن حدثت معارك جديدة في انكلترا الجديدة وهولندا الجديدة واسبانيا الجديدة.
ويسحب الكاتب كلامه الى الشرق الاوسط ويؤكد انه لو تمكن الشرق الاوسط من علمنة وتجانس سياساته الحاكمة، واستيعاب الاختلافات، وابعاد او اخراج الخصومات كما فعلت اوروبا في القرن السابع عشر، فبالتأكيد سيكون أكثر أمنا. ولكن السبب وراء عدم حدوث ذلك ــ ولماذا لا يمكن لنظام ويستفاليا الذي لم ينبثق كسبب بل نتيجة للتحولات اعلاه، من معالجة المشاكل الجذرية للشرق الاوسط – هو وجود فرق او اختلاف حيوي بين اوروبا والشرق الاوسط اليوم : وهو الاستعمار.
وعند المقارنة بين الشرق الاوسط واوروبا يؤكد الكاتب ان الاخيرة ربما هي النظام الجغرافي الوحيد في التاريخ الحديث الذي لم يتشكل عبر علاقات هيمنة او سيطرة سواء أكانت سياسية او اقتصادية. ومثل اي منطقة اخرى حول العالم، الشرق الاوسط هو نتاج الترتيبات الاستعمارية المتتالية من غزو نابليون لمصر عام 1798 وصولا الى الغزو الامريكي للعراق عام 2003. هذا لايعني القول ان الترتيبات الاستعمارية المفروضة جائت لانهاء جميع مشاكل الشرق الاوسط. ولكن تجدر الاشارة الى انه لا يمكن تفسير انعدام وجود حلقة واحدة من العنف في تاريخ الشرق الاوسط الحديث بشكل صحيح من دون الاشارة الى الارث الاستعماري بدءا من الصراع العربي- الاسرائيلي المستمر مرورا بالثورة الايرانية 1979 وانتهاءا بما يطلق عليه الكاتب الربيع العربي، والحرب الاهلية السورية المستمرة.
وعند تأمل قضية فلسطين "ارض الميعاد"، يستذكر الكاتب الوعود التي قُطعت من قبل الكثير. فالسير هنري مكماهون Sir Henry McMahon - الذي شغل منصب المفوض السامي الى مصر 1915 – 1917 ـــ وعد بها (اي فلسطين) لتكون الى العرب. السير مارك سايكس Sir Mark Sykes – الطرف في اتفاقية (سايكس – بيكو) التي قسمت الامبراطورية العثمانية – وعد بها الى فرنسا. كذلك وعد وزير الخارجية البريطاني آرثر بلفور Arthur Balfour بها الى اليهود. وفي النهاية حافظت بريطانيا على موقفها الا انها لم تعد تستطع المواصلة. ومنذ ذلك الحين يتقاتل العرب واليهود بعضهم البعض الاخر فوق اراضي فلسطين.
اما في ايران، يؤكد الكاتب ان الاطاحة برئيس الوزراء المنتخب من الشعب محمد مصدق بدعم من وكالة الاستخبارات الاميركية مثلت المسمار الاخير في نعش النظام الملكي محمد رضا (الشاه) بهلوي، وكذلك شكلت بداية للاحتجاجات التي بلغت ذروتها في الثورة الاسلامية. وكذلك الحال للعديد من الحكام المستبدين الذين اطاح بهم "الربيع العربي" اذ كانوا مدينين بقوتهم اما الى الولايات المتحدة او الاتحاد السوفيتي السابق كما فعل اسلافهم ذلك مثل خديوي مصر، وشمال افريقيا الفرنسية، او ليبيا الايطالية.
كذلك يتطرق الكاتب الى توضيح التجربة الاوروبية وعملية تشكل الدولة، ويؤكد أن تشكيل الدولة الحديثة عملية بطيئة وعنيفة. في فرنسا، استغرقت اكثر من قرن ونصف. ولكن في الشرق الاوسط، يرى الكاتب ان الارث الاستعماري منع – او لنقل على نحو افضل – شوه هذه العملية (اي عملية تشكيل الدولة). وبدلا من ذلك بت في مصير المنطقة للعيش تحت طائلة الخرائط الاستعمارية المفروضة، الا ان المعايير الحديثة التي شجبت العنف السياسي تماما هي السياسات الاوروبية العلمانية والمتجانسة.
وفي سياق المقارنة ايضا يؤكد الكاتب انه عندما تشكلت الدول القومية الكبرى في اوروبا لم يكن هناك نادي او تجمع تجتمع فيه تلك القوى الكبرى ويكون قادر على اختراق القارة وفرض الشلل وتجزئة الوضع الراهن لمصلحتهم الخاصة. اما الشرق الاوسط فقد شهد وجود حكام طموحين على مر التاريخ مثل محمد على حاكم مصر العثمانية والرئيس المصري جمال عبد الناصر والرئيس العراقي الاسبق صدام حسين كما هو حكام اوروبا مثل تيودور والملك هنري السابع، وزعيم بروسيا أوتو فون بسمارك، والكونت الإيطالي. الا ان حكام الشرق الاوسط على عكس نظرائهم الاوروبيين، كانوا مثقلين بمعاناة وأرث الاستعمار وغالبا ما فشلوا في مجابهة قوته. لذلك، وكما كتب العالم السياسي (لان لوستك Lan Lustick) " ان الشرق الاوسط لم يشهد نوع من العنف حول المصالح من خلال بعض الدول الصغيرة التي يمكن ان تشكل عالم معادل لمدن سابقة مثل مسكوفي Muscovy، بيدمونت Piedmont، بروسيا Prussia، يسيكس Wessex، أو إيل دو فرانس Ile de France ".
هذا لايعني القول بأن طرق قيام القوى العظمى والتي كانت مفتوحة للأوربيين يجب ان تكون متوفرة الآن للشرق الاوسط او ان مشاكل الشرق الاوسط لم تأتي من خلال اخطاء تلك القوى. ولكن يجب ان نقر او نعترف بأن السلام في الشرق الاوسط سيبقى صعب المنال مالم تتوصل دول المنطقة الى وضع الخرائط السياسية التي تعكس معالمها الاثنية والدينية والطائفية، أو ان تتحمل الكثير من سفك الدماء، وهذا -كما يقترح المؤلفان- يضطرها في النهاية إلى تبني مواقف إيجابية وتعاونية ضرورية لإقامة السلام.
وقد يكون من الحكمة ان نتذكر بأن ويستفاليا –كعملية سلام في سياق تاريخي- امتدت على مسار واحد لسلسلة من الاحداث التي قادت الى السلام في النهاية بدءا من اوغسبرغ الى مؤتمر فينا مرورا بمؤتمر السلام في باريس ثم الى مؤتمر سان فرانسسكو الى الوقت الحاضر، وهذا يعني انها في ظل سياقها التاريخي السليم. كما هو حال الاحداث في الشرق الاوسط والتي ربما تحتاج الى ذات العملية وضمن سياق تاريخي. ولكن يجب ان ندرك انه ليس هناك مثال واحد في التاريخ نجحت فيه البرامج الغربية من اجل السلام في الشرق الاوسط في تحقيق اي شيء اخر عدا تفكك ماهو موجود.
نظرة تحليلية:
يناقش الكاتب موضوعة تحقيق السلام في الشرق الاوسط واذا كان بالإمكان انبثاق معاهدة كمعاهدة ويستفاليا -كعملية سلام- خاصة بالشرق الاوسط كما طرح الكاتبين مايكل اكسورثي (Michael Axworthy) وباتريك ملتون (Patrick Milton) لتنهي عقود من عدم الاستقرار في المنطقة والتي توجت بظهور وتصاعد الزاهرة الارهابية وتنامي الحركات المسلحة المتطرفة. وينتهي الكاتب، وفي اطار المقارنة، بالقول ان الشرق الاوسط مختلف عن اوروبا لكون الاول يعاني من ترتيبات سياسية وديمغرافية فرضها الاستعمار. كذلك عانت اوروبا من الحروب الدينية واكتوت بنارها لذلك كان لابد لها من ترتيبات سلام في حين ان الشرق الاوسط لم يشهد حروب دينية كتلك التي شهدتها اوروبا. واخيرا يرى الكاتب ان مثل هذا الإطار سيفشل للأسباب المذكورة اعلاه.
نعتقد ان الاسباب التي اوردها الكاتب صحيحة ولكن ليست هي الوحيدة. فالكاتب لم يتعرض الى طبيعة النظام الدولي في هذه المرحلة وطبيعة الادوار في ادارة دفة هذا النظام، وطبيعة التحالفات الاقليمية والدولية في الشرق الاوسط، فالحال تغير كثيرا ونرى ان لب الصراع اليوم في المنطقة هو صراع الارادات الدولية لتوسيع قاعدة نفوذ بعضها على البعض الاخر. وبعبارة اخرى ان ادارة الصراع ليس بيد كل الاطراف في المنطقة بل بيد اللاعبين الإقليميين - كدور ثانوي- لأدوار اقطاب رئيسة في ذلك النظام. وهذا كله كما قلنا في اطار صراع الارادات الدولية. هذا من جانب،
من جانب آخر، لايشهد الشرق الاوسط حروب دينية بل وُظِفت وأثيرت الاختلافات المذهبية والطائفية لإثارة الصراع بعد قرون من اخفائها في بطون الكتب ولينتشر على المستوى الاقليمي حتى اصبحت الطبيعة الغالبة للصراع هي الطبيعة الطائفية لذا برز الفواعل الاقليميين وسوقوا انفسهم على انهم زعماء للطائفة في المنطقة وانهم مدافعين عنها.
اضف تعليق