q

هارولد جيمس

 

برينستون - ما زالت تتراكم الدلائل على أن العولمة في انحدار مستمر، حيث تدفقات التجارة ورأس المال الدولي في تباطؤ، والقيود على الهجرة في تزايد. ظهرت هذه الاتجاهات في أعقاب الأزمة المالية لعام 2008، لذلك لا يمكن إلقاء اللوم على رد الفعل الشعبوي الجديد ضد العولمة. بدلا من ذلك، يمكن القول إن مصدرها هو فشل السلطات الوطنية في أخذ منطق العولمة محمل الجد.

خلال هذه السنة، عندما صوتت المملكة المتحدة لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، وعندما اختار الجمهوريون في الولايات المتحدة دونالد ترامب كمرشح للرئاسة، أصبحت المناهضة الشعبوية للعولمة حاضرة في كل مكان. ولكن من الخطأ إلقاء اللوم على الشعبوية لكونها سببا للمشاكل الاقتصادية العالمية، لأن هذه الحركة، في الواقع، حققت نجاحات سياسية محدودة فقط حتى الآن.

على كل حال، فالاقتصاد العالمي لا يتعثر لأن بولندا والمجر لديهما حكومة يمينية شعبوية ملتزمة بإعادة تأكيد السيادة الوطنية. اليسار الشعبوي، من جانبه، له حضور باهت: فيدل كاسترو يتلاشى بعيدا في كوبا. والأرجنتين تتعافى من سوء الإدارة الكارثي تحت قيادة نستور كيرشنر وكريستينا فرنانديز دي كيرشنر. وانهار اقتصاد فنزويلا في عهد الرئيس نيكولاس مادورو.

وتمت مهاجمة العولمة جزئيا بسبب القرارات التي اتخذتها الحكومات تحت رعاية نظام دولي مفتوح. ولكن الأهم من ذلك، تعاني العولمة نتيجة لقرارات قضائية وشبه قضائية تفرض غرامات مالية كبيرة على الشركات الأجنبية.

وتُسيء الإجراءات القضائية ضد الشركات المتعددة الجنسيات إلى العلاقات بين ضفتي الأطلسي. في أوروبا، تزعمت المفوضية الأوروبية إجراءات مكافحة الاحتكار الجارية ضد مايكروسوفت وجوجل. ويمكن القول إن هذه الحالات تخص الشركات الأمريكية التي استغلت قدرتها التنافسية، أو إن الاتحاد الأوروبي يفضل سياسة التكنولوجيا والترويج لفائدة بدائل محلية عِوض الشركات الأمريكية، فالآراء تختلف حسب التموقع والولاءات.

وبالمثل، يمكن للولايات المتحدة اتخاذ إجراءات ضد الشركات الأوروبية، وقد فعلت ذلك. بعد أن طالب الاتحاد الأوروبي شركة أبل بدفع 13 بليون يورو (14.6 بليون دولار) من الضرائب المتأخرة، التي تزعم أنها خُفضت بشكل غير قانوني من قبل الحكومة الايرلندية، قامت الولايات المتحدة بتغريم دويتشه بنك، إحدى الشركات الألمانية، 14 بليون دولار لتسوية المطالبات المتعلقة بالأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري قبل الانهيار المالي عام 2008.

يمكن للمرء أن يعتبر هذه العقوبات المختلفة آلية فعالة في عالم أصبحت فيه الشركات المتعددة الجنسيات بارعة للغاية في خفض الالتزامات الضريبية التقليدية. المشكلة هي أنه، على عكس الضرائب العادية، لا تُسوى الغرامات ضد الشركات بشكل تنبؤي وموحد، ويجب تسويتها عبر المفاوضات مع كل شركة بشكل فردي في كل حالة. وغالبا ما يتم تسييس هذه المحادثات وتشمل التدخلات الحكومية رفيعة المستوى.

ما هو الأساس المنطقي لهذه الغرامات؟ هذا سؤال على دويتشه بنك وغيرها من الرموز الأوروبية مثل فولكس واجن وشركة البترول البريطانية الإجابة عنه، حيث ارتكبت إثما في بيع سندات الرهن العقاري، وتلاعبت بشكل منتظم باختبارات انبعاثات الغازCO2، وتلوث خليج المكسيك. في حين تعمل الشركات الأجنبية جاهدة للحصول على حصتها في السوق في مجالات جديدة. ومن الواضح أنها ليست الوحيدة المرتكبة لمخالفات، كما تدل على ذلك موجة الغضب ضد البنوك والشركات الأمريكية في أعقاب الأزمة المالية.

هناك فارق واحد وهو أنه من الأسهل للشركات المحلية إقناع حكومتها بضرورة استمرارها، بتأكيد عدد فرص الشغل المميزة التي تخلقها، وعدد البائعين والمقاولين والمتعاقيدن معها، وهكذا دواليك. وتستفيد الشركات الوطنية من طبيعتها المحلية، حيث تنجح في الضغط على الحكومة لتفادي أو تخفيض العقوبات. في عام 2014 على سبيل المثال، أقنعت سيتي جروب حكومة الولايات المتحدة لخفض غرامة تبلغ قيمتها تقريبا حجم غرامة دويتشه بنك لنفس التعسف بخصوص الرهن العقاري.

وبالتالي، فضغط الشركات المحلية غالبا ما يؤدي إلى شيء أقرب إلى التحايل القانوني، حيث تمنحها الحكومة امتيازات نظرا للمصالح الوطنية المشتركة. ولهذا تُوجه شكوك الناس بشكل مباشر إلى الشركات الأجنبية.

وتُعد السلطات القضائية الأمريكية والاتحاد الأوروبي مصدرا من مصادر هذه القومية الجديدة. وأيضا المؤسسات المسؤولة عن التجارة الدولية، وخصوصا لما دخلت التقنيات الحديثة في اللعبة.

وقد تم تحقيق اختراقات تكنولوجية أساسية متعددة على مدى القرن الماضي بفضل الإنفاق الحكومي الكبير لصالح البحث والتطوير الباهظ التكلفة بالنسبة لأي شركة خاصة. وتَفَوقت أميركا على المستوى التكنولوجي منذ الحرب العالمية الثانية كنتيجة مباشرة للتعبئة الصناعية العسكرية في حقبة الحرب الباردة، الأمر الذي أدى إلى تطوير التكنولوجيا الفضائية، وإلى ابتكار شبكة الإنترنت.

وغالبا ما يتعارض الدعم الحكومي المباشر لشركات التكنولوجيا الفائقة مع قواعد التجارة الدولية التي تهدف إلى تشجيع الحياد وتكافؤ الفرص. على سبيل المثال، حكمت منظمة التجارة العالمية أن شركة إيرباص، إحدى الشركات الأوروبية الكبرى، قد تلقت مساعدات من الدولة في انتهاك صارخ لقواعد منظمة التجارة العالمية. ووفقا لمنظمة التجارة العالمية، فإن سبب نجاح تسويق إيرباص A350 يرجع فقط ل"الآثار المباشرة وغير المباشرة" للدعم الحكومي على المدى الطويل.

وقد طال الجدل حول ايرباص لعقود، وقام الأوروبيين بمواجهة هذا الحكم بالمقارنة مع بوينج، وهي شركة أمريكية استطاعت ضمان استمرارها فقط بسبب مكانتها كمزود للجيش الامريكي. في الواقع، غالبا ما تكون هذه الضغوط بمثابة سباق نحو الهاوية، وتجد الشركات الأجنبية نفسها مضطرة إلى تواجد محلي حتى تتمكن من إقناع السياسيين أنهم أيضا يعودون بالنفع على الاقتصاد المحلي كما منافسيهم المحليين.

لا يمكن أن تشتغل اقتصادات السوق عندما تُطبق القواعد المعمول بها بشكل عشوائي، وهو ما يحدث عندما يتحول المشرعون الوطنيون والدوليون إلى مناصري الشركات المحلية وأعداء الشركات الأجنبية. هذه السياسة ليست نتيجة ثورة شعبوية. لكن الشعبويين لن يقوموا بمعالجتها بالتأكيد إذا وصلوا إلى السلطة.

* هارولد جيمس، زميل بارز في مركز الحكم الدولي للابتكار وأستاذ التاريخ والشؤون الدولية في جامعة برينستون، وأستاذ التاريخ بمعهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، مؤلف كتاب "خلق وتدمير القيمة: دورة العولمة

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق