مارك ليونارد
لندن - إذا كان التاريخ يعيد نفسه -المأساة تتبعها المهزلة– فنحن الآن أمام حالة بوريس جونسون، سياسي متحول يجسد التناقضات في عصرنا. جونسون هو بمثابة المدافع عن الشعب الذي نشأ مستفيدا من امتيازات 1٪من المحظوظين؛ إبن عائلة مهاجرة لكن يناضل من أجل الحدود المغلقة؛ وهو محافظ يطمح لقلب النظام السياسي؛ ورجل مثقف لكن يسخر من الخبرات؛ وعادة ما يدعو السود بكلمة "البيكانينيز" القدحية رغم الادعاء أنه مواطن عالمي. وبذل جونسون ما في وسعه لدفن مستقبل بريطانيا الأوروبي؛ إلا أن مرونته الفائقة قد تكون سبيل خلاصه.
في أول ظهور علني له بعد تعيينه وزيرا للخارجية، قارن جونسون تصويت بريكست بالثورة الفرنسية. وأثار ضوضاء في الاحتفال بيوم الباستيل في السفارة الفرنسية، كما وصف الاٍستفتاء بأنه "انتفاضة شعبية كبيرة ضد نظام بيروقراطي قديم خانق والذي أصبح تشبثه بالديمقراطية غير واضح."
لكن تصويت البريكست -مع وعده بإعادة اٍحياء بريطانيا القديمة- يعد ثورة أقل مستوى من الثورة المضادة. بوريس وجماعته من البريكست لديهم الكثير من القواسم المشتركة مع لويس نابليون بونابرت، الذي قلب الجمهورية الفرنسية لإنشاء ملكية جديدة، وهم أقرب إليهم أكثر من دانتون أو روبيسبير.
وإذا كان هناك أي شخص أو أي شيء قام بتجسيد المثل العليا لثورة عام 1789، فهو الاٍتحاد الأوروبي. اٍن الساسة والمسؤولين في الاٍتحاد ترجموا ثالوث الحرية الغامض: الحرية، المساواة، والأخوة إلى أرض الواقع: حوالي 80.000 صفحة من القوانين التي تغطي الحقوق واللوائح من غرفة النوم إلى أرضية المصنع. وساعد تطبيق هذه القواعد بلدانا كثيرة - من اليونان واٍسبانيا اٍلى اٍستونيا وبولندا - على الاٍنتقال من الاٍستبداد إلى الديمقراطية.
وقد قاد الاٍتحاد الأوروبي ثورة حول كيفية تعايش الدول معا - تعزيز الحقوق الفردية، والقانون الدولي، وتجميع السيادة. وتنبع قوته التحويلية من وعد العضوية المحتملة و"سياسة حسن الجوار" التي تنشر القيم الأوروبية، وإسهامه في بناء المؤسسات العالمية وتحقيق التكامل الإقليمي.
ونتيجة للثورة المضادة اليوم، يعرف النادي الأوروبي تقلصا بدلا من التقدم. وعوض إعادة تشكيل العالم حسب تصوره، يخشى الاٍتحاد الأوروبي الجيران الذين يقومون بتصدير الفوضى بدلا من استيراد القيم. وأصبح الترابط بين الدول الأوروبية يخلق الصراعات بدلا من إنهائها. وأصبحت الفكرة الأوروبية محور المعارضة السياسية في جميع أنحاء القارة.
في الواقع، الشيء الأكثر إثارة للقلق حول أوروبا اليوم ليست مغادرة المملكة المتحدة، ولكن الهشاشة والاٍنقسام الذي تعاني منه 27 دولة المتبقية، حيث ربما سيتبخر الإجماع المحلي في أوروبا. وأظهرت حملة "مغادرة" المملكة المتحدة رغبة كبيرة لاستعادة الثقة، وليس لوضع حقوق جديدة. كما تشهد جميع الدول الأعضاء انعدام الأمن الاٍقتصادي، والقلق الثقافي، والاغتراب السياسي الذي تستغله قوى سياسية جديدة باستخدام الاٍستفتاءات لإعادة صياغة السياسة على أنها معركة بين الشعب والنخب خدمة لمصالح ذاتية.
ودفعت المتاعب الاٍقتصادية والسياسية في مرحلة ما بعد الاٍستفتاء في بريطانيا الدول الأعضاء الأخرى في الاٍتحاد الأوروبي للتفكير مرتين قبل عقد الاستفتاءات الشعبية الخاصة بها بخصوص العضوية. لكن مما لا شك فيه أن الاٍتحاد الأوروبي في طريقه اٍلى التفكك. الاٍنحدار البطيء نحو حالة من الفوضى يمكن أن يكون مدمرا شأنه شأن التفكك.
كما يجري بالفعل تحدى بعض قرارات الاٍتحاد الأوروبي عن طريق الاٍستفتاء العام، مثل استفتاء رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان على حصص اللاجئين. في فرنسا، ما يسمى بتوجيه العمال العلني (الذي يسمح لأصحاب العمل بالدفع للعمال المعارين ليس أكثر من الحد الأدنى للمعدل في البلد المضيف) قد لا يتم تنفيذه. كما تراجعت المفوضية الأوروبية عن مشاريع مفضلة مثل اتفاقية التجارة الحرة مع كندا.
بدلا من التكاتف والتعاضد، قام كل تحد جديد بتقسيم الاٍتحاد الأوروبي إلى مجموعات أصغر. وقد قسم اليورو الشمال والجنوب. كما قسمت أوكرانيا وأزمة اللاجئين الشرق والغرب.
وبذلك ينبغي على مؤيدي أوروبا معالجة مصادر التذمر وإعادة النظر في النماذج المستخدمة للتعبير عن المثل الأوروبية. وقد استند الاٍتحاد الأوروبي على فكرة ميكانيكية مفادها أن الترابط المتبادل من شأنه أن يقلل الصراع. ومن خلال ربط وسائل الإنتاج الأوروبية معا -أولا من خلال مجتمع الفحم والفولاذ الأوروبي، وبعد ذلك من خلال السوق المشتركة واليورو- يأمل الاٍتحاد الأوروبي ربط دول أوروبا معا بشكل وثيق لكي لا تصبح الحرب بينهما خيارا.
صحيح أن الحرب في أوروبا الآن لا يمكن تصورها، بالنظر إلى تراكم كثير من الثروات الناتجة. ولكن رد الفعل العنيف ضد الترابط -سواء من خلال اليورو، أو حرية التنقل، أو الإرهاب- لا يمكن إنكاره.
ولإنقاذ الاٍتحاد الأوروبي، يتعين على زعماء أوروبا التركيز على جعل الناس يشعرون بالأمان في ظل الارتباط المتبادل. وهذا يعني إعادة توزيع بعض الفوائد الاٍقتصادية من حرية الحركة للمجتمعات التي تحمل عبء ذلك؛ تعزيز السيطرة على الحدود الخارجية والتعاون لمكافحة الإرهاب؛ ضمان مرونة أكبر اتجاه الهجرة وتحقيق التكامل في منطقة اليورو؛ والعودة إلى فكرة أن أسمى مطالب مؤسسات الاٍتحاد الأوروبي هي الدفاع عن الدول القومية في أوروبا، وليس تطوير السلطة الخاصة بها.
وتمنح أزمة البريكست أعضاء الاٍتحاد الأوروبي المتبقية فرصة لاٍعادة ابتكار فكرة المشروع الأوروبي. وإذا نجحوا في ذلك، فقد ترغب بريطانيا في الاٍنضمام من جديد.
لكن بالطبع، ليس هذا ما يسعى اٍليه أصحاب البريكست أو حلفاؤهم في أماكن أخرى. فقد نجحوا في كشف الاٍتحاد الأوروبي، ولكن من غير المحتمل أن يوفوا بوعودهم والتي تتمثل في إعادة اٍحياء عالم الأمس، ناهيك عن مستقبل أفضل. في الواقع، باٍمكانهم تدمير دون قصد فوائد التكامل الأوروبي الأكثر قيمة عند الناس.
وفي هذا الصدد، يذكرنا الناخبون الذين دعموا البريكست بما قاله ماركس عن ثورة لويس نابليون المضادة : "يتوهم الشعب كله أنه حصل على صلاحيات قوية بفضل الثورة، وفجأة يجد نفسه مرة أخرى في مأزق." ثم يكتشف هؤلاء أن ما هزموه ليس طغيان النظام القديم، بل "التنازلات التي انتُزعت منهم بعد قرون من الصراع."
ومن هنا يتضح موقف جونسون المتذبذب. وإذا دخلت المملكة المتحدة في ركود عميق وناضلت من أجل الوفاء بوعود أصحاب المغادرة، قد يرغب كثير من الناخبين في البقاء في السوق الواحدة، أو حتى في الاٍتحاد الأوروبي نفسه. اٍن هذا النوع من تغيير المواقف سيكون مستحيلا بالنسبة لمعظم مؤيدي البريكست، الذين يفضلون حلم السيادة على خطر الاٍنهيار الاٍقتصادي. ولكن جونسون ثقافيا ليس لديه أي مشكل مع أوروبا، حيث بدا في بعض الأحيان مترددا حول حملة المغادرة التي قادها.
اٍن قدرة جونسون للهروب من أغلال تصريحاته السابقة من شأنها اٍلهام الساحر الأمريكي هوديني. فاٍذا حقق الاٍتحاد الأوروبي الإصلاح المنشود رغم المشاكل الاٍقتصادية العميقة في المملكة المتحدة، سيذوب كل ما كان يبدو صلبا - ولا سيما شكوك جونسون حول الاتحاد الأوروبي.
اضف تعليق