جورج سوروس
نيويورك – فازت بريطانيا، على ما أعتقد، بأفضل الصفقات الممكنة مع الاتحاد الأوروبي، بكونها عضوا في السوق المشتركة دون الانتماء إلى اليورو، كما حصلت على عدد آخر من الامتيازات بالتحايل على قواعد الاتحاد الأوروبي. لكن ذلك لم يكن كافيا لثني الناخبين في المملكة المتحدة عن التصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. لماذا؟
يمكن الحصول على الإجابة من خلال استطلاعات الرأي في الأشهر التي سبقت الاستفتاء. لقد تأثُر النقاش حول البريكسيت بإشكالية الهجرة الأوروبية. واستغلت الحملة من أجل "المغادرة" وضع اللاجئين المتردية – من خلال صور مخيفة للآلاف من طالبي اللجوء المتمركزين في كاليه، الحالمين بدخول بريطانيا بأية وسيلة ضرورية – مما أثار الخوف من الهجرة "غير المنضبطة" الوافدة من الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. وأجلت السلطات الأوروبية قرارات هامة بشأن سياسات اللاجئين من أجل تجنب أي تأثير سلبي على التصويت في الاستفتاء البريطاني، وبالتالي تنامت مشاهد الفوضى مثل التي تأّتي من كاليه.
وكان قرار المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل لفتح أبواب بلادها على نطاق واسع للاجئين التفاتة ملهمة، ولكن لم يتم تقديمه بشكل صحيح، لأنه تجاهل عامل الجذب. وأدى التدفق المفاجئ لطالبي اللجوء إلى إزعاج حياة الناس اليومية في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي.
وعلاوة على ذلك، نتج عن غياب ضوابط كافية حالة من الذعر أثرت سلبيا على الجميع: السكان المحليون، والسلطات المسؤولة عن السلامة العامة، واللاجئون أنفسهم. وقد مهدت أيضا الطريق للصعود السريع للأحزاب المناهضة لأوروبا والكارهة للأجانب -مثل حزب الاستقلال البريطاني، الذي قاد حملة المغادرة- كما بدت الحكومات الوطنية والمؤسسات الأوروبية غير قادرة على التعامل مع الأزمة.
لقد تحقق الآن السيناريو الكارثي الذي خشيه الكثيرون، مما يجعل من تفكك الاتحاد الأوروبي عملية لا رجعة فيها. وقد تكون أو لا تكون بريطانيا في نهاية المطاف أفضل حالا نسبيا من الدول الأخرى بعد ترك الاتحاد الأوروبي، لكن اقتصادها وسكانها سيعانون بشكل كبير على المدى القصير والمتوسط. فقد انخفض الجنيه الاسترليني إلى أدنى مستوياته في أكثر من ثلاثة عقود على الفور بعد التصويت، ومن المرجح أن تظل الأسواق المالية في حالة اضطراب. وفي انتظار انطلاق العملية المعقدة والطويلة الأمد للطلاق السياسي والاقتصادي من الاتحاد الأوروبي، فإن العواقب بالنسبة للاقتصاد الحقيقي ستشبه تلك المتعلقة بالأزمة المالية لسنة 2007-2008.
ومن المؤكد أن تكون هذه العملية محفوفة بمزيد من عدم اليقين والمخاطر السياسية، لأن ما هو على المحك ليس هل في المغادرة ميزة حقيقية أو وهمية لبريطانيا، بل بقاء المشروع الأوروبي ككل. وسوف يفتح البريكسيت الباب على مصراعيه لقوات مناهضة لأوروبا أخرى داخل الاتحاد. في الواقع، لم تكد تعلن نتائج الاستفتاء في بريطانيا حتى صرحت الجبهة الوطنية في فرنسا أنها ستدافع عن "فريكسيت"، في حين تعزز موقف الشعبوي الهولندي خيرت فيلدرز الذي أعلن "نيكسيت".
وعلاوة على ذلك، فإن المملكة المتحدة نفسها قد لا تبقى على قيد الحياة. إذ يمكن لاسكتلندا، التي حصلت على غالبية الأصوات من أجل البقاء في الاتحاد الأوروبي، القيام بمحاولة أخرى للحصول على استقلالها. ودعا بعض المسؤولين في إيرلندا الشمالية، حيث أيد الناخبون أيضا البقاء، للوحدة مع جمهورية ايرلندا.
ويمكن لاستجابة الاتحاد الأوروبي للبريكسيت أن يتسبب في مأزق آخر. فالقادة الأوروبيون، الحريصون على ردع الدول الأعضاء الأخرى لتفادي دعوى مماثلة، قد يكونون في حالة مزاجية قصوى ويقدمون شروطا قاسية للمملكة المتحدة -وخاصة فيما يتعلق بالوصول إلى السوق الأوروبية- التي من شأنها أن تزيد من ألم الرحيل. وبما أن الاتحاد الأوروبي يمثل نصف حجم التجارة البريطانية، فإن التأثير على المصدرين سوف يكون مدمرا (على الرغم من سعر الصرف الأكثر تنافسية). وسوف تنقل المؤسسات المالية عملياتها وموظفيها إلى مراكز منطقة اليورو في السنوات المقبلة، ولن تكون السوق المالية بلندن (وسوق الإسكان في لندن) بمنأى عن هذا الألم.
ولكن الآثار المترتبة على أوروبا يمكن أن تكون أسوأ بكثير. وقد وصلت التوترات بين الدول الأعضاء إلى نقطة الانهيار، ليس فقط بسبب اللاجئين، ولكن أيضا نتيجة للضغوط الاستثنائية بين الدول الدائنة والمدينة في منطقة اليورو. وفي الوقت نفسه، ضعفت القيادة في فرنسا وألمانيا وأصبحت الآن تركز بشكل مباشر على المشاكل الداخلية. وفي إيطاليا، يشير انخفاض سوق الأسهم بـ10٪ بعد التصويت لصالح بريكسيت بوضوح إلى تعرض البلاد لأزمة مصرفية كاملة - والتي من شأنها رفع شعبية حزب حركة الخمس نجوم، الذي فاز مؤخرا بمنصب عمدة روما، ومن المرجح وصوله إلى السلطة، في وقت مبكر من العام المقبل.
لا شيء من هذا يبشر بالخير بالنسبة لبرنامج جدي وهادف لإصلاح منطقة اليورو، والذي يجب أن يشمل اتحادا مصرفيا حقيقيا، واتحادا ماليا محدودا، وآليات أقوى بكثير من المساءلة الديمقراطية. إن الوقت ليس في صالح أوروبا، حيث الضغوط الخارجية من دول مثل تركيا وروسيا -وكلاهما تستغل الخلاف لصالحها– ستذكي الصراع السياسي الداخلي في أوروبا.
هذا هو الحال الذي نحن عليه اليوم. ستعاني كل من أوروبا، بما في ذلك بريطانيا، من فقدان السوق المشتركة ومن فقدان القيم المشتركة التي جاء الاتحاد الأوروبي لحمايتها. وانهيار الاتحاد الأوروبي سيكون بسبب عدم تلبيته احتياجات مواطنيه وتطلعاته. إن الاتحاد الأوروبي يتجه نحو التفكك الفوضوي الذي سيترك أوروبا على أسوأ حال مما كانت ستكون عليه لو لم يبرز الاتحاد الأوروبي إلى حيز الوجود.
ولكن لا ينبغي أن نستسلم لليأس. وباعتراف الجميع، فإن الاتحاد الأوروبي هو بنية معيبة. وبعد البريكسيت، نحن الذين نؤمن بالقيم والمبادئ التي سطرها الاتحاد الأوروبي يجب أن نتعاون معا لحمايته عن طريق إعادة بنائه كليا. وأنا شخصيا مقتنع بأن عواقب مغادرة بريطانيا ستنكشف في الأسابيع والأشهر المقبلة، وسوف ينضم إلينا المزيد والمزيد من الناس.
اضف تعليق