ضرورة إيجاد ثقافة عامة لدى المؤمنين بأن لا يرضوا بالفقر، بل أن يخططوا لنهضة اقتصادية كبرى على مستوى الأشخاص والعوائل والجماعات والشعوب والأمة الإسلامية عامة، فإنّ الكرامة الاقتصادية تستدعي الكرامة الاجتماعية وأنّ هنالك طرقاً مهدها الله تعالى للخروج من دائرة الفقر وذلك عبر الاستثمار في الشبكة وما يولّد الأموال...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ‏)[1].

المقدمة: يتناول البحث استراتيجية الغنى والثروة والخروج من دائرة الفقر كهدف مستحسن من أهداف المؤمن، لكن لا لكي يكنز الثروات بل لكي يوسّع على نفسه وعياله بالحلال ولكي ينفق منه في سبيل الله وعلى الفقراء ولإعمار الأرض والوطن، ويستشهد البحث بأنّ الأدعية المعنوية مشحونة بالدعاء لطلب الرزق الحلال الواسع من الله تعالى، ويستذكر بعض أكثر القصص جمالاً وروعة كقصة الحاج عبد المحسن شلاش، المحسن الكبير والبرجوازي المتواضع، ثم ليصل إلى استراتيجية (أعطه شبكة لا مجرد سمكة)، ليوضح أنّ (الشبكة) تتمظهر في التميّز في الحرف والمهارات مستشهداً بأن المتميز يحصل على مكانة كبرى إضافة إلى أجر كبير مجزٍ، مؤكداً على الاستثمار في التعلم والتعليم كواحدة من أعظم شبكات اصطياد الأموال بالحلال وعوامل تقدم الأفراد والأمم، مستشهداً بحوادث عينية من قوميات مختلفة بعضها استثمر في تعليم الأبناء فكانوا القمة وبعضهم لا، فكانوا موظفين لدى أولئك! ليصل إلى ضرورة تحويل العائلة إلى عائلة منتجة بجميع أعضائها لتكون كالنخلة المنتجة حتى بنواتها وسعفها.

أشهُر المعنويات والماديات أيضاً

إنّ أشهر رجب – شعبان – رمضان، هي أشهر الدعاء والتضرع والعروج الروحي والمعنوي إلى الله تعالى، لا شكّ في ذلك، وسيأتي الحديث عن ذلك بإذن الله تعالى، ولكنّ الغريب، وليس لدى المتدبّر اللبيب بغريب، أنّ هذه الأدعية – المعنويّة بالأساس – حَفَلَتْ بالدعاء للنفس وللغير، للخروج من دائرة الفقر والاحتياج والدخول في دائرة الثراء والاستغناء، على عكس ما قد يتصوّره كثيرون.

ولذلك كان محور البحث في هذا الأسبوع يدول حول (كيفية الخروج من دائرة الفقر المغلقة والالتحاق بنادي الأغنياء)، كون ذلك مطلوباً شرعاً ومحبّذاً وذا مصلحة من وجه نظر الشارع الأقدس.

ولنقتبس في البدء دعائين من أدعية شهر رجب وشعبان، لنختم بدعاء من أدعية شهر رمضان، باعتبارها ذات دلالة واضحة على أهمية (الحسنة الدنيوية) كـ (الحسنة الأخروية).

فإنّ من المستحبّ قراءة الدعاء الآتي صباح كلّ يوم ومسائه، وبعد كلّ فريضة مكتوبة، كما جاء عن الإمام الصادق (عليه السلام)، والدعاء هو (يَا مَنْ أَرْجُوهُ لِكُلِ‏ خَيْرٍ وَيَا مَنْ آمَنُ سَخَطَهُ عِنْدَ كُلِّ عَثْرَةٍ وَ يَا مَنْ يُعْطِي بِالْقَلِيلِ الْكَثِيرَ يَا مَنْ أَعْطَى مَنْ سَأَلَهُ تَحَنُّناً مِنْهُ وَ رَحْمَةً يَا مَنْ أَعْطَى مَنْ لَمْ يَسْأَلْهُ وَ لَمْ يَعْرِفْهُ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَ آلِ مُحَمَّدٍ وَ أَعْطِنِي بِمَسْأَلَتِي مِنْ جَمِيعِ خَيْرِ الدُّنْيَا وَ جَمِيعِ خَيْرِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَنْقُوصٍ مَا أَعْطَيْتَنِي وَ زِدْنِي مِنْ سَعَةِ فَضْلِكَ يَا كَرِيمُ)[2].

و(لِكُلِ‏ خَيْرٍ) يشمل الأخروي والدنيوي ولا يقتصر على الأول فحسب؛ فالدار الوسيعة خير، والدّابة السريعة خير، والقدرة على تناول الأطعمة الصحيّة خير، وتيسر الوصول إلى العلاج بأفضل ما يكون خير، وكذلك القدرة على السفر إلى المشاهد المشرفة أو الرحلات الاستكشافية أو إلى ما يَنعُم فيه المرء وأهله بالنزهة المحلّلة خير.. وهكذا.

ويؤكده ويوضحه قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زينَةَ اللَّهِ الَّتي‏ أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)[3]، و(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ)[4].

كما نقرأ في دعاء شهر شعبان: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَاعْمُرْ قَلْبِي بِطَاعَتِكَ، وَلَا تُخْزِنِي بِمَعْصِيَتِكَ، وَارْزُقْنِي مُوَاسَاةَ مَنْ قَتَّرْتَ عَلَيْهِ مِنْ رِزْقِكَ، بِمَا وَسَّعْتَ عَلَيَّ مِنْ فَضْلِكَ، وَنَشَرْتَ عَلَيَّ مِنْ عَدْلِكَ، وَأَحْيِنِي تَحْتَ ظِلِّكَ، وَهَذَا شَهْرُ نَبِيِّكَ سَيِّدِ رُسُلِكَ شَعْبَانُ، الَّذِي حَفَفْتَهُ مِنْكَ بِالرَّحْمَةِ وَالرِّضْوَانِ، الَّذِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ يَدْأَبُ فِي صِيَامِهِ وَقِيَامِهِ فِي لَيَالِيهِ وَأَيَّامِهِ، بُخُوعاً لَكَ فِي إِكْرَامِهِ وَإِعْظَامِهِ إِلَى مَحَلِّ حِمَامِهِ.

اللَّهُمَّ فَأَعِنَّا عَلَى الِاسْتِنَانِ بِسُنَّتِهِ فِيهِ وَنَيْلِ الشَّفَاعَةِ لَدَيْهِ.

اللَّهُمَّ وَاجْعَلْهُ لِي شَفِيعاً مُشَفَّعاً، وَطَرِيقاً إِلَيْكَ مَهْيَعاً، وَاجْعَلْنِي لَهُ مُتَّبِعاً حَتَّى أَلْقَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِّي رَاضِياً وَعَنْ ذُنُوبِي غَاضِياً، قَدْ أَوْجَبْتَ لِي مِنْكَ الرَّحْمَةَ وَالرِّضْوَانَ، وَأَنْزَلْتَنِي دَارَ الْقَرَارِ وَمَحَلَّ الْأَخْيَار)[5].

والدعاء صريح، لا يحتاج إلى إيضاح دلالته على موقع امتلاك الرزق الحلال الواسع الطيب، الذي تستعين به على مواساة إخوانك المؤمنين بل والإنسان من حيث هو إنسان[6].

الأسئلة المفتاحية الثلاثة

وهنا نطرح ثلاثة أسئلة:

1- مَن منّا لا يرغب في أن يخرج من دائرة الفقر المغلقة؟

2- مَن منّا لا يرغب في أن يُخرِج أهله وأقرباءه وأصدقاءه وأحباءه من متاهات الفقر المقلقة؟

3-4- ومَن منّا لا يرغب، فوق ذلك، في أن يكون من الأثرياء، وفي أن يلتحق هو ومن يحبه بنادي الأغنياء؟

ولكن ليس ذلك كله، لكي يكدس الثروات ويكنز الأموال، إذ: (وَالَّذينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها في‏ سَبيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَليمٍ * يَوْمَ يُحْمى‏ عَلَيْها في‏ نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى‏ بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)[7]

و(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ)[8].

بل لكي يستعين بها على نجدة الفقراء والمساكين والأرامل واليتامى والمرضى والزمنى والمعقدين ومطلق المعوزين.. فذلك هو الشرف كل الشرف، وهو العز والسؤدد.

قصة البرجوازي – المحسن: عبد المحسن شلاش

وفي قصة الوجيه الشهير الحاج عبد المحسن شلاش، أكبر درس وعبرة.. فلقد كان الحاج عبد المحسن من أكبر أثرياء النجف وتجارها، حتى إنَّ الحكومة العثمانية عندما احتاجت إلى اقتراض مبلغ ضخم كبير لجأت إليه، وكان وكيلاً للمصرف العثماني في النجف، وكان المبلغ ضخماً جداً يبلغ مائة ألف روبية، إلا أنّه وببساطة دبّر المبلغ وفي نفس اليوم، ولعل هذا المبلغ يعادل المليارات من الدولارات بالقيمة الشرائية لمائة ألف روبية ذلك الزمن (نعم، لقد أدركت الحاج عبد المحسن وهو في أوج شهرته، مال وافر، وتجارة رابحة، ومكانة مرموقة عند الحكومة، والعلماء، وسائر الطبقات نظراً لما كانت له من المزايا التي أشرت إليها، ولأنه كان وكيلًا للبنك العثماني في النجف، يدفع حوالات الحكومة العثمانية (لآل رشيد) في (حائل) عن طريق النجف، ويقبل الكثير من الحوالات من مختلف الجهات من الخارج كإسطنبول، وبيروت، وإيران، والهند، والخليج، بالإضافة إلى قبوله للحوالات في أغلب المدن العراقية ودفعها من قبله.

وقد قيل إنَّ البنك العثماني قد احتاج مرة – وذلك في أيام الاحتلال الإنكليزي للعراق – إلى مبلغ نقدي من الليرات العثمانية، فسأل البنك الحاج محسن شلاش برقياً عما إذا كان يستطيع أن يدفع لحاكم الشامية السياسي المقيم في النجف مائة ألف ليرة عثمانية نقداً على حساب البنك العثماني؟ فابرق بالإيجاب، وسلم للحاكم مائة كيس أخرجها من بيته!!..)[9].

لكنَّ هذا الرجل الثري حقّاً كان آيةً في البذل والعطاء، وفي صدقة السرِّ أيضاً، وينقل الحاج جعفر الخليلي في مجلة الهاتف عن قضية إحجامه، فيما ظهر للناس، عن التبرع حتى بفلس للمدرسة الأهلية! (وكنت أنا في طليعة أولئك الذين انتقدوا الحاج محسن شلاش، ولربما نالوا منه بسبب إحدى الحفلات التي أُقيمت لمدرسة الغري الأهلية في النجف لجمع التبرعات، وذلك حين وجدت جميع التجار والمدعوين لم يتوانوا ولم يبخلوا بتبرعاتهم، حتى لقد دفع شخص – لم يرضَ بذكر اسمه في قائمة التبرعات – مبلغاً كبيراً كان يساوي كل تبرعات الحاضرين، إلا الحاج محسن شلاش الذي كان يجلس حينذاك في الصف الثاني كما يجلس المدعوون العاديون، فإنَّه لم ينبس ببنت شفة، ولم يكتب شيئاً في سجل المتبرعين..!! فلم يكن حديث الناس يومها إلا حديث هذا الرجل، وهو الحاج محسن الذي كان يدعو إلى مساعدة المدرسة، بينما يحجم هو عن هذه المساعدة..!! وكم كانت الدهشة عظيمة عندي وعند البعض حينما علمنا – ولكن بعد فوات الفرصة – أنَّ صاحب التبرع الكبير الذي طلب أن يظل اسمه مجهولاً لم يكن إلا الحاج محسن شلاش نفسه!!..)[10].

وهكذا نجده أنموذجاً في الإخلاص، كما هو أنموذج في العطاء.. وكم من الناس يفعل مثل ذلك؟

وكان الحاج عبد المحسن إلى جوار ذلك من أعظم المساهمين في النهضة العمرانية للوطن إذ (كان أول من درس مشروع إرواء النجف من طريق الكوفة بواسطة المضخات قبل ما يقرب من خمسين سنة، يوم كان أغلب التجار، ومعظم الناس، يسخرون بهذه الفكرة، ولا يعتقدون أنَّ مثل هذا المشروع مما يمكن تحقيقه، وذلك لقلة اتصال هؤلاء التجار والناس بالعالم الخارجي، كذلك كان الحاج محسن أول من فتح باب المساهمة لمد السكة الحديدية بين النجف والكوفة، ولفت الأنظار إلى تجديد الأفكار الاقتصادية)[11].

واللافت أنّه كان متواضعاً – ترابياً إلى درجة كبيرة لم يكن يتوقعها عامة الناس إلا عندما يشاهدونه، إذ (أدركت الحاج عبد المحسن شلاش وشهرته كتاجر من كبار التجار، وكعينٍ من عيون النجف، ملء المسامع، فلقد قيل إنّه يمتاز على تجار الفرات وتجار الحبوب خاصة، بحدة الذكاء، وعمق التفكير، وكنتُ وأنا صغير أسمع بتمنيات كثير من الأمهات لأبنائهن بأن يوتيهم الله نصف ثروة أو مثل ثروة (آل شلاش).. وكنت طالما سمعت وأنا صغير شيئاً من هزو الهازئين ببعض الفقراء وتشبيههم على سبيل الهزو (بآل شلاش) في وفرة الثروة... وكثيراً ما كنت أسمع هذا الاسم (اسم آل شلاش) يردده أغلب الناس في كثير من المناسبات كمقياس لضخامة الثروة، وأناقة اللباس، وجلال الأرستقراطية، فكان من بعض أمنياتي أن أرى هذا الرجل، لأرى بعيني هذه الثياب الزاهية، والعظمة الناطقة، في خطواته المتئدة التي يخطوها بين غلمانه المحتشدين حوله، فلقد كان مضرب المثل في خطوه، ولبسه، وأكله، وشربه، وإنّي لأذكر الآن كيف وقع عليه نظري أول ما وقع... وكيف وقفت منه وقفة الحائر المندهش الذي لا يدري كيف يوفق بين ما سمع وبين ما رأى..؟)[12].

نعم، هذا النموذج من الأثرياء الذين ما أنساهم الثراء أنفسهم، بل زادهم الثراء رجولةً وفتوةً وحميةً وغيرةً وجوداً وكرماً، هو الذي نبحث عنه، وهو الذي يتمنى كثير منّا أن يصبح مثله إذا كان من سالكي طريق التجارة..

طريق الثراء: تحصيل الشبكة، لا السمكة

فكيف يمكن لنا، إذاً، ما دامت الحال هذه، أن نخرج أنفسنا وغيرنا من دائرة الفقر إلى منتدى الغنى؟

والجواب: ليس الطريق لإخراج الفقراء من دائرة الفقر المغلقة، هو إعطاء الفقير سمكة، ولا لخروج الشخص نفسه من دائرة الفقراء اصطياد سمكة، بل الطريق هو إعطاء الفقير شبكة، وتحصيل الشخص نفسه للشبكة.

و(الشبكة) يُرمز بها إلى الحرفة والصنعة والخبرة والمهارة إلى جوار الأجهزة أو الأدوات المولّدة للثروة.

أمّا (السمكة) فيرمز بها إلى اللقمة الواحدة والوجبة الواحدة التي يحصل عليها الشخص، وبانتهائها يعود محتاجاً من جديد.

و(الشبكة) ترمز إلى توفير ماكينة خياطة مثلاً، يمكنك أن تصنع بها ثياباً تبيعها باستمرار، فتكون مصدر رزق دائم، أما السمكة فترمز للثوب الواحد الذي تحصل عليه، فإذا تمزَّق أو بلي بقيت محتاجاً.

والتجارة هي، الأخرى، شبكة، عبرها تصطاد الأموال بالحلال (مع التقييد بالضوابط الشرعية والإنسانية).

وصية الإمام علي (عليه السلام): (اتَّجِرُوا بَارَكَ اللَّهُ لَكُمْ)

ومن أكثر الروايات دلالة ما استشهدنا به في كتاب (استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي عليه السلام) حيث وجّه الكتاب الدعوة للشباب وغيرهم بالاتجاه نحو التجارة وتجنب الوظائف، فقد قال الإمام الصادق (عليه السلام): (أَتَتِ الْمَوَالِي أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَقَالُوا: نَشْكُو إِلَيْكَ هَؤُلَاءِ الْعَرَبَ! إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) كَانَ يُعْطِينَا مَعَهُمُ الْعَطَايَا بِالسَّوِيَّةِ وَزَوَّجَ سَلْمَانَ وَ بِلَالًا وَصُهَيْباً وَأَبَوْا عَلَيْنَا هَؤُلَاءِ وَ قَالُوا: لَا نَفْعَلُ!!،

فَذَهَبَ إِلَيْهِمْ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَكَلَّمَهُمْ فِيهِمْ.

فَصَاحَ الْأَعَارِيبُ: أَبَيْنَا ذَلِكَ يَا أَبَا الْحَسَنِ، أَبَيْنَا ذَلِكَ!!.

فَخَرَجَ وَهُوَ مُغْضَبٌ‏ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَ هُوَ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْمَوَالِي، إِنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ صَيَّرُوكُمْ بِمَنْزِلَةِ الْيَهُودِ وَ النَّصَارَى يَتَزَوَّجُونَ إِلَيْكُمْ وَلَا يُزَوِّجُونَكُمْ وَلَا يُعْطُونَكُمْ مِثْلَ مَا يَأْخُذُونَ، فَاتَّجِرُوا بَارَكَ اللَّهُ لَكُمْ، فَإِنِّي قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: الرِّزْقُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ، تِسْعَةُ أَجْزَاءٍ فِي التِّجَارَةِ وَوَاحِدَةٌ فِي غَيْرِهَا)[13].

ولهذا الحديث دلالات كثيرة ومنها:

1-تصدِّي الإمام (عليه السلام) لهموم الناس وعيشه بين ظهرانيهم.

2- تواضع الإمام (عليه السلام) وهو حجة الله على الخلائق؛ حيث ذهب بنفسه إلى الأعاريب.

3- أنّ الإمام اضطلع بمهمة إعطاء المشورة الاقتصادية للموالي

4- انّ على الطبقة الفقيرة، والمتوسطة، ان تتوجه نحو التجارة، كي تخرج عن دائرة التهميش والإهمال والعزلة الاجتماعية والاستضعاف.

ثمّ أنّ على أئمة المسلمين وعلى العلماء والخطباء والمفكرين والأساتذة، التأسي به صلوات الله عليه في كل ذلك.

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (تَعَرَّضُوا لِلتِّجَارَةِ فَإِنَّ فِيهَا غِنًى لَكُمْ عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ)[14].

ومن هذا الحديث وغيره يظهر أنّ الأَوْلى بالمؤمن لو دار أمره بين (التوظف) وبين (التجارة) أنْ يتجرّ، لأن الموظف يبقى أسير الوظيفة ومحتاجاً إلى رب العمل أو الشركة، ثم انه مهدّد بأن يفتقد الأمن الوظيفي، أما التجارة فتعني القدرة على العطاء والخدمة أكثر فأكثر، كما تعني استغنائك عن الناس[15]،[16].

ومن المعروف أنَّ الكرامة الاقتصادية تستدعي الكرامة الاجتماعية، ومن هنا، ومن مجمل الآيات والروايات تستنبط أنَّ الله تعالى أراد للمؤمنين أنْ يكونوا أغنياء كلَّما أمكنهم ذلك، لا أنْ يكونوا فقراء، ولذلك تفصيل ذكرناه في كتاب (ملامح النظرية الإسلامية في الغنى الثروة والفقر والفاقة).

وفّر الخطيب رأسمالاً لثلاثة آلاف عائلة و...

ومن القصص الطريفة والمعبِّرة ما نقله لي أحد الخطباء الأفاضل الصالحين، الذي كان وكيلاً لأحد كبار المراجع وللسيد الوالد أيضاً، وكان يذهب في سفرات تبليغية إلى دول عديدة كالهند والباكستان وغيرهما.

يقول: في سفرتي التبليغية إلى الهند، سمعت أمراً محزناً مؤلماً أَرَّقني وأسهرني، وهو أنَّ كثيراً من العوائل المسلمة الفقيرة تضطر، نظراً لشدة فقرها، إلى إرسال بناتها الصغيرات، وقد يكنَّ بسنِّ العاشرة أو أكثر، إلى بيوت الهندوس وغيرهم ليعملن كخادمات في الكنس وجلب المياه وشبه ذلك، ولكنَّ المؤلم أنَّ العديد من هذه الفتيات كنَّ يتعرَّضن لاعتداء غير أخلاقي من صاحب المنزل الهندوسي أو بعض الخدم هنالك.

وحيث إنَّها أسرة فقيرة جدّاً، فإنَّها لا تعرف كيفية الدفاع عن أعراضها، ولا يمكنها، لو عرفت، استخدام محامٍ، هذا لو أخبرت الفتاة أمَّها أصلاً بالجريمة (وقد تُخبر بها بعد فترة طويلة، أو بعد فترة ظهور الحمل)، إذ لا يمكنها، عادةً، إثبات أنَّ فلاناً اعتدى عليها.

يقول الخطيب: وجدتني أمام مسؤولية إنسانية – شرعية كبرى، (إذ البعض يتوهَّم أنَّ الإرشاد والوعظ بالكلام كافٍ ومُغنٍ عن سائر الوظائف، لكنَّه يغفل عن أنَّ الدفاع عن أعراض المسلمين، بل عن عرض كلِّ إنسان محفوظ العرض، واجب شرعي).

ففكَّرت: ما العمل الذي يمكنني أنا الخطيب، الذي لا يمتلك إلا إمكانيات وأموالاً متواضعة (فكيف يمكنني مثلاً تأسيس معامل ضخمة تستوعب مئات أو ألوف الفتيات)؟ فخطرت ببالي فكرة الشبكة، وبدأت أفكر بشبكة قليلة التكلفة، وعظيمة المنفعة.

وبعد التشاور عرفت أنَّ توفير ماكينة خياطة واحدة للأسرة الفقيرة في المدينة، وتوفير ثور واحد للأسرة الفقيرة في الريف، يفي بالحدِّ الأدنى الشهري من الحاجات (وبذلك تستغني الأسرة عن إرسال بناتها للعمل كخادمات في بيوت الآخرين)، إذ الثور يحرث الأرض فيزداد المحصول، وماكينة الخياطة مُنتجة أيضاً.

وهكذا كان؛ فقد بدأ هذا الخطيب الرسالي بجمع التبرعات، فوفَّر رأسمالاً (من ماكينة خياطة أو ثور) لعدة عوائل، ثم وصل الأمر إلى عشر عوائل، ثم إلى مائة عائلة، واستمر حتى وصل إلى ألف عائلة.

ثم في آخر مرة التقيت به قال إنَّه وفَّر رأسمالاً لحوالي ثلاثة آلاف عائلة! ولو أنَّه كان أعطى لهذه العائلة أو تلك أموالاً لنفدت في الشهر الأوَّل مثلاً، وعادت مضطرة للعمل كخادمة من جديد!

ثمّ إنَّ هذا الخطيب الأريب حيث حالفه النجاح في ذلك، فكَّر في قفزة أكبر، فبادر إلى التواصل مع تجار كثيرين من طهران وأصفهان وغيرهما، وأقنعهم بأهمية المشروع، فتقرَّر أن يقيموا حفلاً كبيراً في الهند للاطلاع على النتائج التي حصلت، ولجمع التبرعات للمستقبل.

وقد دعا لذلك حوالي 300 من التجار والشخصيات من إيران (غير من دعاهم من الهنود)، واستأجروا طائرة خاصة (وكان المؤمَّل أن يتكفَّل التجار، إذا شاهدوا المآسي من جهة، وهذا النوع من الإنتاج وتوفير الشبكة على أرض الواقع، ألوف العوائل الأخرى وربما عشرات الألوف)، ولكنَّ الاستبداد فعل فعله، إذ وصلت الأنباء إلى مسامع السافاك[17]، فمنعوا الشيخ المجاهد من الخروج من إيران، وألغوا الرحلة وأجهضوا المشروع في مراحل نموِّه وتطوُّره واكتماله.

ولا شكَّ أنَّ الاستبداد قد يتدخَّل، ولكنَّه كثيراً ما لا يتدخَّل، خاصَّة إذا كان الإنتاج غير كبير جدّاً وغير ملفت للأنظار، فعليك أن تعمل فإذا أوقفوك، انطلقت إلى بدائل أخرى.

ثم أنّه توجد هناك بعد معادلتي السمكة والشبكة، معادلتان لا تقلَّان أهمية عن هاتين المعادلتين، وهما (الحاضنة) و(النطاق أو المجال)، وسيأتي الكلام عنهما أيضاً في بحث قادم، باعتبارهما من أهم طرق مكافحة الفقر والخروج من دوَّامة العوز والدخول إلى نادي الأغنياء.

كيف نحصل على الشبكة؟

ويبرز بعد ذلك كلّه السؤال بـ: كيف يمكن أن نحصل على (الشبكة)؟

استثمروا في التعلُّم والتعليم

والجواب: أوَّلاً: لكي تحصل على الشبكة، بل على أفضل أنواع الشباك، فإنَّ الطريق السالكة النافعة الأكيدة عادة هي الاستثمار في التعلُّم والتعليم؛ فإنَّ العلم يُشكِّل أهمَّ رأسمال يرفد المرء بالقوة والخبرة ويساعده على الخروج من متاهة العوز وعلى الدخول في جنَّة الاستغناء.

وذلك يعني أنَّك إذا سرت في درب الخطابة أو التأليف مثلاً، فاسعَ لكي تكون أفضل خطيب، وجدّ لتكون كتبك أنفع الكتب، أو إذا أردت أن تكون طبيباً أو مهندساً فكن أعظم طبيب ومهندس، لا على مستوى بلدك وحده بل على مستوى العالم كلِّه… وهكذا إذا أردت أن تصبح محامياً أو صحفياً أو أستاذاً أو مديراً أو مدرِّباً أو مسوِّقاً.

وفي القصتين التاليتين أعظم العبرة:

خطيب دفعوا له خمسين مليوناً لعشرة محرم وحدها!

الأولى: إنَّ أحد كبار الخطباء دُعي قبل عقود من الزمن، في عشرة محرَّم الحرام، إلى مجلسٍ، فدفع له أرباب المجلس ما يعادل 34 ألف دولار، أو خمسين مليون دينار (عراقي)، أي بمعدَّل خمسة ملايين دينار في الليلة الواحدة لكلِّ ساعة واحدة!!

وقد أثار ذلك عند بعض الناس لغطاً، أنَّه لماذا يأخذ هذا الخطيب هذا المبلغ الكبير!

فأجابهم آخرون: أنَّ الناس هم الذين طلبوه وحرصوا عليه، وهم الذين أعطوه المبلغ بكلِّ حبٍّ وطيب ورضى!

وأجاب آخرون: إنَّ هذه المكافأة (أو الأجرة – حسب تعبير بعضهم) هي أقلّ من كفاءته في المنبر، ومن علمه الذي يفيض منه، وأدبه الآخاذ، ووعظه وإرشاده.

وأجاب بعض بالنقض: أنَّه مقارباً لتلك الفترة دُعيت امرأة متبرِّجة من بلد آخر لإقامة حفل غنائي في هذا البلد الإسلامي، فأعطوها كلَّ ليلة مائة ألف دولار[18]، ولم يعترض أحد، ولكنَّكم تعترضون على عالمٍ خطيبٍ ينشر الفضيلة والتقوى!!.

وموطن الشاهد أنَّ هذا الخطيب المميَّز، حيث استثمر في العلم والثقافة والأدب وفنِّ الخطابة، تهافت عليه أرباب المجالس نتيجة كفاءته، فلمَ لا تكون أنت كذلك، لا حبّاً في المال، بل لأنَّك كلَّما كنت أعلم وأكفأ أمكنتك هداية الناس وأداء رسالتك بشكل أفضل، والمال يأتي تبعاً.

وعلى الإنسان طبعاً أن يُخلِص نيته، فتكون لله حقّاً، والمال لا يكون إلا بنحو (الداعي على الداعي)، وذلك يعني أنَّه لو حدث تعارض بين مصلحته الشخصية وحصوله على أموال مجزية، وبين وظيفته الشرعية بالنهي عن المنكر، مثلاً في ذلك المجلس أو غيره، مما يستلزم أن يُفقِده الأمر والنهي (بحسب طريقة الموعظة الحسنة والحكمة طبعاً)، مجلسه وأمواله، لرجَّح الامتثال لأمر الربِّ على المصلحة الشخصية، دون تردد.

والجدير ذكره أنَّ ذلك الخطيب المبرِّز، حيث حصل على أموال كثيرة، عزم على تأسيس معمل استوظف فيه الكثير من العوائل الفقيرة، فكانت أمواله بركة من هذه الجهة أيضاً.

الجالية التي استثمرت في أولادها، استغنت، عكس الأخرى

الثانية: إنَّ أحد العلماء من مؤسِّسي عدد من المدارس الإسلامية – الأهلية في بعض بلاد الغرب، ومدارسه متميِّزة وقد حصلت على جائزة التميُّز من الحكومة المحلية هناك، نقل لي أنَّه وجد فرقاً شاسعاً بين ثقافتي قوميتين إسلاميتين تعيشان هناك، وقد ذكر اسميهما، ولكنَّني لا أرى مناسباً ههنا ذكرهما إذ يُعدُّ تنقيصاً لإحداهما.

قال: إحدى الجاليتين تستثمر في تعليم أولادها بشكل كبير جداً، فتسجِّل أولادها في أفضل المدارس مهما بلغت تكلفتها، وتستخدم، لو اقتضى، أفضل المعلِّمين، وإن كان ذلك كلُّه على حساب النزهات والرحلات السياحية، وحتى على حساب شراء ملابس غالية أو شراء أطعمة فاخرة.

بينما القومية الأخرى تفعل العكس تماماً؛ إذ تُولي لذائذ الأطعمة أكبر أهمية، فتأكل في أفضل المطاعم، وتنفق على أغلى الرحلات و…، بينما تُسجِّل أبناءها في أرخص المدارس!

والنتيجة الفارقة الكبيرة: ظهرت بعد عقد من الزمن أو عقدين، حيث تخرَّج من أبناء الجالية التي تستثمر في تعليم أبنائها، الكثير من الأطباء والمهندسين المتميِّزين (وكذا حالة بقيتهم ممن تخصص في حقول أخرى)، أمَّا أبناء الجالية التي رجَّحت اللذَّات الآنية فصاروا، إلَّا من خرج، موظفين عند أولئك! أو في أحسن الفروض أطباء أو مهندسين من الدرجة الثانية أو الثالثة.

ومن المهم أن نؤكد على: إنَّ المفترض بنا نحن كمسلمين أن نكون مميَّزين، بحيث تكون أعين الغرب والشرق متوجهة نحونا، متطلِّعةً إلينا، لا العكس؛ فإذا حدث مرض أو وباء أو طارئ، مثل كورونا أو غيره، فلماذا لا يجدنا العالم نحن أهالي النجف وكربلاء وقم ومشهد والخليج وبلاد الشام ومصر ونحوها، السبَّاقين إلى اكتشاف المرض واللقاح والعلاج، بحيث ينتظر كلُّ العالم، من اليابان إلى الألمان، مكتشفاتنا أو مخترعاتنا في الكيمياء والفيزياء والطب والفلك وغيرها؟ لا أن تكون كلُّ الإنجازات والاختراعات منهم ولهم، ولا يكون لنا دور إلَّا دور المتفرِّج!

إنَّ الاستثمار الكبير… الكبير… في العلم والثقافة هو الذي يتكفَّل بالإثراء وبالصعود بنا إلى أعلى مراتب الإنجازات وبإرجاعنا إلى صدارة الأمم من جديد (لكن زائداً توفير الحاضنة والنطاق والمجال، كما سيأتي).

ثانياً: علِّموا أولادكم وأهاليكم الحِرَف والمهارات

إنَّ العائلة التي تخطط كي تكون كـ(النخلة) هي الأقدر على الخروج من دائرة الفقر والانتماء إلى نادي الأغنياء، أكثر بكثير ممَّن يعمل بانفراد لكي ينهض وحده؛ ألا ترى النخلة كلَّها مثمرة منتجة؟:

فإن التمر نفسه مفيد أكبر الفوائد.

ونواته مفيدة جدّاً حيث تطعم أمثال السِّخال بها، وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: (كَانَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) إِذَا أَكَلَ التَّمْرَ يَطْرَحُ النَّوَى عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ ثُمَّ يَقْذِفُ بِهِ)[19]، وكان يطعمه العنزة والسخلة ونحوهما.

كما أنَّ جذعها يصلح كسقف أو أعمدة للكثير من الأبنية، وسعفها وأوراقها تُصنع منها الحُصُر والبواري والمهفّات وغيرها.

وهكذا.. بتحويل الأسرة كلِّها إلى أسرة منتجة يمكن النهوض بشكل أسرع جدّاً، ومن الطرق لذلك أن يوضع برنامج لتعليم أفراد الأسرة، حتى الأطفال، الحِرَفَ والمهارات؛ فبدل أن يصرف الطفل عمره في اللعب بالأجهزة الحديثة (الضارَّة بصحته وبدماغه وحتى بسلوكياته وأفكاره)، لو تعلَّمت الفتاة أو الفتى التطريز أو الحياكة أو الخياطة، أو التنضيد والإخراج والمونتاج والبرمجة ونحوها، لأمكن لهم أن يؤمنوا جزءاً لا بأس به من مصروفات الأسرة.

وقد قال لي أحد طلاب العلم من بلد آخر إنَّه تعلَّم البرمجة بجودة وكفاءة، لذا فإنَّه يعمل الآن بدوام جزئي[20] لدى إحدى الشركات، ويحصل على مبلغ جيد[21] يُعيل به أهله، ويتفرَّغ بقيَّة الوقت لطلب العلم!.

نماذج مفيدة من الاستثمار المنزلي

والأعمال المنزلية كثيرة جداً ومتنوعة حتى أنها تستهوي مختلف الأذواق وقد ذكرنا في كتاب (بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن)

يتجسد الاقتصاد المنزلي في الأعمال التطوعية التي تقوم بها الأسرة (المرأة أو الرجل أو الأولاد أو أحد الأقرباء) في البيت، سواء أكانت من قبيل أعمال الرعاية "caring"، أم من قبيل الخدمات المنزلية "Home services" أو "House works" كأعمال الصيانة للسلع المعمرة والمواسير وإصلاح الأبواب والنوافذ وغيرها، والتنظيف وغسيل الأواني والملابس وكيّها وإصلاحها وصبغ الجدران، والأعمال اليدوية البسيطة كالتطريز والخياطة لاحتياجات الأسرة، والأعمال الكهربائية البسيطة أو أعمال النجارة والبناء التي لا تحتاج إلى تخصص والتي تمارسها أكثر الأُسر في البيوت، والعناية بالحديقة وتربية الدواجن والطيور والمواشي لغرض استهلاك أفراد الأسرة أو الضيافة أو الإهداء، ورعاية الأطفال والمرضى والمسنين، إضافة إلى تعليم الأطفال وتدريبهم[22].

وقد شجعت الأحاديث الشريفة على العمل المنزلي الذي يشكل وجهاً من وجوه الاكتفاء الذاتي، أكبر تشجيع بل وصرحت بان الله تعالى يمنح عليه أعظم الثواب.

لكل خيط تنسجه المرأة مائة حسنة و...!

فقد ورد في وصايا رسول الله (صلى الله عليه وآله) لفاطمة (عليها السلام): (يا فاطمة، ما من امرأة نسجت ثوباً إلا كتب اللّه لها بكل خيط واحد مائة حسنة، ومحى عنها مائة سيئة... يا فاطمة، ما من امرأة غزلت لتشتري لأولادها أو عيالها إلا كتب اللّه لها ثواب من أطعم ألف جائع و أكسى ألف عريان)[23]، وبذلك يظهر أنّ ما ارتكز في أذهان بعض الناس من أنّ الأجر إنما هو العبادات، خطأ، بل الأجر العظيم على العمل أيضاً.

فهذا عن أجر المرأة على العمل المنتج في المنزل تطوعاً، وأما عن أجر الرجل على العمل في المنزل، فقد ورد: في جامع الأخبار عن الإمام علي (عليه السلام) قال: (دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَفَاطِمَةُ (عليها السلام) جَالِسَةٌ عِنْدَ الْقِدْرِ وَأَنَا أُنَقِّي الْعَدَسَ، قَالَ: يَا أَبَا الْحَسَنِ! قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: اسْمَعْ، وَمَا أَقُولُ إِلَّا مَا أَمَرَ رَبِّي: مَا مِنْ رَجُلٍ يُعِينُ امْرَأَتَهُ فِي بَيْتِهَا إِلَّا كَانَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ عَلَى بَدَنِهِ عِبَادَةُ سَنَةٍ، صِيَامُ نَهَارِهَا وَقِيَامُ لَيْلِهَا، وَأَعْطَاهُ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ الصَّابِرِينَ وَدَاوُدَ النَّبِيَّ وَيَعْقُوبَ وَعِيسَى (عليهم السلام) ...)[24].

وقد ذكرنا في كتاب (بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن): وذلك كله يعني: منح المكانة والشرعية الكبرى للعمل المنزلي، خلافاً للأصوات التي تدينه[25]، واعتباره عملاً من أهم الأعمال المنتجة إلى درجة أن أنزله الإمام الصادق (عليه السلام) منزلة الجهاد في سبيل الله ـ كما سبق، وأنه يعادل إطعام ألف جائع وإكساء ألف عريان، وغير ذلك، بل وصل الأمر إلى درجة أن يعد من مآثر الرسول (صلى الله عليه وآله) ووصيه وأبنته (عليهما السلام) ومفاخرهم وفضائلهم، الانشغال بمختلف الأعمال المنزلية، وأنها ـ أي الأعمال المنزلية ـ مما تطفئ النيران وتستوجب بها المرأة والرجل الجِنان، كما سيأتي[26].

الاستثمار المنزلي من وجهة نظر اقتصادية

وبوجه آخر فإنّ العمل في المنزل مع الأسرة، يزيد الكفاءة والإنتاج والإنتاجية ويخفض مِن ثَمَّ منسوب الفقر أو نسبة الضغط المالي الناجم عن الأجور التي تدفعها الأسرة لعمال يُستأجرون لأداء بعض الأعمال المنزلية. والفقر هو العدو الذي يحاربه الإسلام أشد محاربة، وقد نسب بعض إلى الإمام علي (عليه السلام) قوله: (لو تمثل لي الفقر رجلاً لقتلته)[27]، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): (مَنْ وَجَدَ مَاءً وَتُرَاباً ثُمَّ افْتَقَرَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ)[28]، وقال الإمام علي (عليه السلام): (كَادَ الْفَقْرُ أن يَكُونَ كُفْراً)[29])[30].

كما إنّ العمل المنزلي يصقل مهارات أفراد الأسرة، ويمنحهم التدريب والخبرة الضروريين لتغذية سوق العمل، على المدى المتوسط والبعيد، بعمال مهرة أكفاء ذووي إنتاجية عالية، وبتعبير آخر: أن العمل التطوعي المنزلي يعد استثماراً أساسياً واقعياً في (رأس المال البشري).

إضافة إلى ذلك فإنّ هذه الأعمال التطوعية، لا ريب في أنها تقوم بتوفير منفعة وبإشباع حاجة اقتصادية للعوائل على امتداد العالم، وتوفير المنفعة وإشباع الحاجة هو الهدف الأساس لعلم الاقتصاد، بل إن الأعمال المنزلية تعوِّض عن / وتكون البديل عن ممارسة كافة تلك الأنشطة مقابل ثمن، أي أنها البديل عن الاقتصاد الرسمي بمعناه الكلاسيكي المعهود، بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأن هذا النوع من الاقتصاد يوازي أو يوازنِ، إلى حدّ ما، مجمل الأداء الاقتصادي للبلد بأكمله ويقاربه في الحجم الكلي، بما يتضمنه من إنتاج سلع أو توفير خدمات، إضافةً إلى كونه مما يمتلك أكبر الأثر في خفض نسبة الفقر وفي توفير الرفاهية للمجتمع ككل، لا للأسرة فحسب، كما سيظهر[31].

كما أنه يؤثر على ارتفاعٍ غير مباشر ربما، لنسبة التشغيل وانخفاض نسبة البطالة أو العكس، فكلما تكفلت الأسر بأعمال المنزل (بدءاً من علاج المرضى في الأسرة، فيما إذا كان أحد أعضاء الأسرة طبيباً، وتعليم وتدريب أحد الأبوين للأبناء، بل تعليم وتدريب أي واحد من أعضاء الأسرة للآخرين، ومروراً بأعمال البستنة وزراعة الحديقة الخلفية أو رعايتها، والقيام بتمديدات كهربائية أو إصلاح أي عطل فيها ونظائرها، وانتهاءً بأعمال التنظيف والطبخ) انخفضت الحاجة بنفس النسبة إلى توفير فرص عمل لهم ليجنوا أموالاً ليوظفوا بها عمالاً ليقوم أولئك العمال بنفس الأدوار التي كانوا يتكفلون هم بها بأنفسهم، لأسرتهم بالمجان!

وبعبارة أخرى: أن الاقتصاد المنزلي يصل إلى الأهداف نفسها بأقل مقدار ممكن من الوسائط وأنشطة التبادل الاقتصادي؛ إذ أنه يلغي عدة حلقات وسيطة، ويصل إلى نفس الأهداف من دونها.

والمشكلة في الحلقات الوسيطة أنها تثقل الاقتصاد وتزيد من درجة تعقيده وإمكانية تلاعب الحكومات به، ولا وجه لذلك مادامت النتائج هي هي، وذلك يعني أن الاقتصاد وإن كان يستغني إثر تزايد الأعمال المنزلية، عن كمية كبيرة من البنائين والمعلّمين وعمّال الصيانة الكهربية والتمديدات الصحية والخيّاطين والحدّادين.. الخ، إلا أنه يعوّض بنفس النسبة بتوفير نفس فرص العمل لأفراد الأسرة، بالقدر الذي يمكنهم القيام به باحترافية، من دون أن يبذلوا أموالاً، وكما يخفض أيضاً حاجة نفس أولئك (البنائين والخياطين والمعلمين) للعمل وللمال، إذ مع انخفاض تكاليف معيشتهم، بانخفاض حاجتهم إلى استخدام عمال ومعلمين و...، نتيجة قيامهم هم بأنفسهم بها منزلياً، تنخفض حاجتهم لأن يُستوظفوا ويستأجروا، وهذه موازنة دقيقة.

كما أن الاقتصاد التطوعي ينتج خفض الحاجة إلى استيراد العمالة من الخارج في الدول التي تعتمد في أعمالها المنزلية على العمالة.

وقد اتضح من النقطة السابقة أن الاقتصاد المنزلي يحرر الاقتصاد بنسبة كبيرة من التعقيد، ويزيد حركته سلاسةً وانسيابيةً.

إضافة إلى ذلك كله فإنّ العمل التطوعي المنزلي يفسح مساحةً أكبر للأُسر للادخار والاستثمار ومراكمة رأس المال (مما حصلوا عليه من الأجور من أعمالهم في السوق أو الأرباح من تجارة رب الأسرة مثلاً أو من ريع الأرض أو مكافآت أعمال الهندسة والطب و...) بدل أن يضطروا إلى إنفاقها أو جزءٍ منها على استخدام مدبرة للبيت أو إعطائها كأجور للعمّال كي يقوموا ببعض أعمال الصيانة وغيرها، كما يوفّر لهم قدرة أكبر على الاستهلاك، إضافةً إلى أنه يكوّن بحد ذاته أنواعاً من الإنتاج[32].

الخاتمة: وقد خلصنا بذلك كله إلى ضرورة إيجاد ثقافة عامة لدى المؤمنين بأن لا يرضوا بالفقر، بل أن يخططوا لنهضة اقتصادية كبرى على مستوى الأشخاص والعوائل والجماعات والشعوب والأمة الإسلامية عامة، فإنّ الكرامة الاقتصادية تستدعي الكرامة الاجتماعية وأنّ هنالك طرقاً مهدها الله تعالى للخروج من دائرة الفقر وذلك عبر الاستثمار في الشبكة وما يولّد الأموال، بدل السمكة وما يستهلك الأموال، وانّ الاستثمار في التعلم والتعليم وفي الحِرَف والمهارات ونحوها هو الطريق متوسط المدى وبعيد المدى لكي يتحرر الإنسان من رِبقة الفقر وينتمي إلى نادي الأغنياء، مع التنبيه على أنّ طلب المال من الحلال إنما هو طريقي لا لكي يُكنَز أو تُسحق به حقوق الآخرين.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم

http://m-alshirazi.com

..............................................

[1] سورة النساء: 32.

[2] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص584.

[3] سورة الأعراف: 32.

[4] سورة البقرة: 201.

[5] مصباح المتهجد وسلاح المتعبد: ج2 ص829.

[6] وقد خرج من خرج، كالناصبي، في حدود ما خرج، بالدليل.

[7] سورة التوبة: 34-35.

[8] سورة التكاثر: 1-8.

[9] جعفر الخليلي، هكذا عرفتهم، انتشارات المكتبة الحيدرية: ج1 ص160.

[10] المصدر: ص166.

[11] المصدر: ص159-160.

[12] المصدر: ص161.

[13] الشيخ الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج5 ص318 ح59.

[14] المصدر: ص149.

[15] ومن الواضح أنّ المقصود ليس هو ان يترك كافة الناس أعمالهم ويتجهوا للتجارة ولذا قيّدنا بـ(لو دار أمره بين التوظف والتجارة)، بل المقصود هو انّ من يتوظف لمجرد ان تكون الوظيفة مصدراً للرزق له، فالأفضل أن يتجه للتجارة مع توفير شروط النجاح فيها، أما الذين يمارسون أدواراً أخرى وذوو الاختصاص في الفيزياء والكيمياء والطب والهندسة والتكنولوجيا المتطورة، والبحوث العلمية والأكاديمية ونظائرها، فليس الحديث عنهم فإن تلك الحقول واجبات كفائية كالتجارة ولا تقل عنها أهمية، بل يجب أن تتكامل وتتلاحم التجارة و الاختصاصات وغيرها لبناء الوطن المزدهر والمجتمع السعيد.

[16] استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي عليه السلام، ص171-173.

[17] كان جهاز السافاك (SAVAK) يشكّل الذراع السرية للأمن والاستخبارات في إيران إبّان حكم أسرة بهلوي، منذ تأسيسه عام 1957 وحتى سقوط النظام في الثورة الإيرانية عام 1979.

ويُعدّ الاسم اختصاراً لعبارة "سازمان اطلاعات وامنيت کشور" أي منظمة الاستخبارات والأمن القومي. وقد أُنشئ الجهاز بدعم مباشر من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والموساد الإسرائيلي، ليصبح لاحقاً أداة النظام في ملاحقة المعارضين وقمعهم عبر التعذيب والإعدامات، حتى غدا أكثر مؤسسات الدولة رهبةً وكرهاً لدى الإيرانيين.

[18] وقيل مأتا ألف دولار.

[19] عيون أخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص41.

[20] (ربَّما ساعتان).

[21] قال انه يعادل 3 ملايين دينار عراقي.

[22] السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن، دار المحجة البيضاء ـ بيروت: ج2 ص338.

[23] إسماعيل الأنصاري الزنجاني، الموسوعة الكبرى عن فاطمة الزهراء (عليها السلام): ج17 ص161.

[24] تاج الدين الشعيري، جامع الأخبار، دار الرضي للنشر ـ قم: ص102.

[25] سبق نقل هذه العبارات (العمل المنزلي يعبّر عن التخلف وضياع الوقت ـ اوجست بيبيل) و(إعلان العمل المنزلي للنساء عملاً غير منتج) بحسب الإحصاءات القومية في إنجلترا وأمريكا و(أنهن من السكان غير المشتغلين) و(أن فئة كاسبي العيش لا تشمل الزوجة والابنة التي تعمل في المنزل دون أجر) و(أن مديرة المنزل لو تزوجت من الشاب الأعزب الذي كانت تعمل عنده، لأدى هذا إلى انخفاض الدخل القومي ـ ارثر سيسل بيجو) وغير ذلك، كما وسيأتي مثل عبارة لينين (تستمر المرأة في أن تكون أمة منزلية) لأن العمل المنزلي يسحقها ويخنقها ويحط من شأنها... ويبدّد من عملها على كدح وحشي منهك للأعصاب وسفيه وساحق، وغير ذلك.

[26] السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن، دار المحجة البيضاء ـ بيروت: ج2 ص363.

[27] هذه المقولة نقلت في كتاب (علي إمام المتقين) للمؤلف عبد الرحمن الشرقاوي الذي ولد عام 1921م، وجاء في كتاب (النظام السياسي في الإسلام للقرشي): ص274، ومؤلفه معاصر أيضاً ولد تقريبًا في عام 1923م يقول (عليه السلام): (لو تمثل لي الفقر رجلاً لقتلته)، ولم يقل من أين أخذ هذه المقولة ولم يبين مصدره.

[28] عبد الله بن جعفر الحميري، قرب الإسناد، مكتبة نينوى ـ طهران: ص55.

[29] ثقة الإسلام الكليني، الكافي: ج2 ص307.

[30] السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن، دار المحجة البيضاء ـ بيروت: ج2 ص365.

[31] المصدر: ص346.

[32] المصدر: ص347-348.

اضف تعليق