لو كانت بريطانيا وفرنسا قادرتين على تسليح تشيكوسلوفاكيا بشكل فعّال في عام 1938، ما كان الغزو الألماني ليحدث، وربما ما كانت الحرب العالمية الثانية لتندلع. لكن هذا ببساطة لم يكن في حكم الممكن في ذلك الوقت. الأمر مختلف اليوم. ذلك أن فرنسا وبريطانيا تمتلكان بالفعل وسائل الردع، كما...
بقلم: هارولد جيمس

برنستون ــ يقول الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إنه يريد إحلال السلام في أوكرانيا. لكن نهجه من غير الممكن أن ينجح، لأنه يعجز عن معالجة مشكلة الضمانات الأمنية. لن يحل السلام ما دامت أوكرانيا مضطرة إلى مواجهة روسيا بمفردها.

ولكن ربما يكون بمقدورنا التغلب على هذا الخلل. نظريا، قد يوفر الإبداع التقني في مجال تصغير رقعة الحرب طرقا جديدة لضمان السلام، ومن الممكن أن تتدخل فرنسا والمملكة المتحدة ــ وكل منهما قوة نووية ــ بينما تتراجع أمريكا.

الآن حان وقت النظر في مثل هذه الاحتمالات. في حديثه أمام مجموعة الاتصال المعنية بالدفاع عن أوكرانيا في بروكسل هذا الأسبوع، يبدو أن وزير الدفاع الأمريكي بيتر هيجسيث هَـجَـرَ للتو عدد كبيرا من العناصر الرئيسية التي كانت لتخضع للمفاوضات. فحتى قبل أن تبدأ المحادثات، تقول الولايات المتحدة إنها ستفرض على أوكرانيا خسائر من أراضيها وتمنعها من الانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). الأسوأ من ذلك أن هذه التعليقات أعقبها على الفور منشور مبتهج على وسائط التواصل الاجتماعي من ترمب حول محادثة أجراها مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن.

مع اقتراب طَـرَفـيّ الحرب من الإنهاك، ليس من الحماقة استكشاف خيارات تحقيق سلام دائم في غياب الاستسلام الكامل من أحد الطرفين. لكن المسار الذي اختاره ترمب يقود مباشرة إلى أدغال بغيضة. فالحل الدائم الجدير بالثقة يتطلب إزالة سبب الحرب. ولكن ما هو ذلك السبب؟

من منظور الأوكرانيين، يتلخص السبب في القرار الذي اتخذه بوتن بشن غزو شامل في الرابع والعشرين من فبراير/شباط 2022. وبالتالي فإن إزالة السبب تتطلب تغيير الحكومة الروسية ــ وهي نتيجة غير محتملة.

أمّـا بوتن فهو يرى أن الحكومة غير الشرعية في أوكرانيا هي السبب. الواقع أنه، كما أوضح في مقال شمل موضوعات شـتّى نُشر في يوليو/تموز 2021، ينكر شرعية استقلال أوكرانيا ذاتها. وعلى هذا فإن إزالة السبب تتطلب محو أوكرانيا كدولة قومية ذات سيادة.

التاريخ عامر بالمفارقات، وتأتي أحدث موجة من مبادرات السلام قبل مؤتمر ميونيخ للأمن مباشرة، وهو اجتماع يُـعـقَد على بُـعد بضع مئات من الأمتار من موقع أشهر محاولة فاشلة لصنع السلام في التاريخ الحديث. فهناك في عام 1938، تمكن أدولف هتلر من إقناع بريطانيا وفرنسا بأن تشيكوسلوفاكيا، وليس ألمانيا النازية، هي السبب وراء الصراع في القارة.

بعد شهر من دبلوماسية الأزمات، اجتمع قادة بريطانيا وفرنسا وإيطاليا بهتلر في مقر الفوهرر (القائد) في ميونيخ وفرضوا تسوية سياسية على تشيكوسلوفاكيا، فجردوها مما يُـسَمّى إقليم السوديت (Sudetenland)، منطقة في الغرب تسكنها أقلية كبيرة ناطقة باللغة الألمانية كانت اكتسبت نزعة راديكالية بفعل الدعاية النازية.

برغم أن اتفاقات السلام تكون مدفوعة غالبا بالنفور من أهوال الحرب، فإنها تمهد الطرق في كثير من الأحيان أيضا لنزاعات جديدة. في خطاب إذاعي موجه إلى الشعب البريطاني في السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول 1938، قال رئيس الوزراء نيفيل تشامبرلين: "كم هو فظيع، ورائع، ولا يصدق، أننا يجب أن نحفر الخنادق ونجرب أقنعة الغاز هنا بسبب شِجار وقع في بلد بعيد بين أناس لا نعرف عنهم شيئا". في غضون عام، كان البريطانيون يرتدون أقنعة الغاز ويبنون الدفاعات.

في هذه الأثناء، في فرنسا، كانت الحجة لصالح السلام (الاسترضاء) في عامي 1938 و1939 تتلخص في السؤال "Mourir pour Dantzig?" ("هل نموت من أجل جدانسك؟"). ولكن سرعان ما كان أولئك الذين اعتقدوا أنهم نجحوا في الحفاظ على سلامتهم من خلال الدبلوماسية الذكية يموتون من أجل فرنسا.

تتبع لغة صنع السلام الفاشلة نمطا مألوفا. أولا، يُقال لنا أن الكبار سيتعاملون مع الأمر من خلال تهميش الدول الصغيرة المزعجة بتاريخها المعقد. أو كما قال ترمب عن محادثته مع بوتن: "لقد تأمل كلانا في تاريخ أمتينا العظيم". لقد أظهرت القوى الأوروبية الكبرى ذات الغطرسة في عام 1938.

ثانيا، قيل لنا أن المنطق البسيط سيكون كافيا. أو على حد تعبير ترمب: "حتى أن الرئيس بوتن استخدم شعار حملتي الانتخابية البالغ القوة "حُـسن الإدراك". كان من حسن الإدراك أيضا أن تُـعَـد مسألة السوديت، وليس رغبة هتلر في توحيد أوروبا تحت الحكم النازي، في قلب أزمة عام 1938.

ثالثا، يتذرع دعاة السلام غير الواقعيين بتهديد الانهيار الحضاري. فقد هددت روسيا باستمرار بالحرب النووية، وعملت مخاوف مماثلة من التصعيد على تشكيل عملية صنع القرار البريطاني في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين. في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول 1938، قال تشامبرلين أمام مجلس العموم البريطاني: "الانتصار الحقيقي هو أن يدرك ممثلو أربع قوى عظمى أنه من الممكن الاتفاق على وسيلة لتنفيذ عملية صعبة وحساسة عن طريق المناقشة بدلا من قوة السلاح، وبهذا تمكنوا من تجنب كارثة كانت لتنهي الحضارة كما عرفناها".

مع الاستفادة من الإدراك اللاحق للأحداث الآن، نستطيع أن نقول إن الانتصار الحقيقي كان ليتمثل في تجميد الصراع إلى أن يتسنى التوصل إلى حل حقيقي. قد يستغرق ذلك عقودا من الزمن، كما حدث في ألمانيا بعد الحرب، أو حتى وقتا أطول، كما هي الحال في شبه الجزيرة الكورية منذ هدنة عام 1953. قد يذوب الجليد تدريجيا كما حدث في العلاقات بين ألمانيا الشرقية والغربية، أو قد لا يذوب. في كلتا الحالتين، ظلت كل من ألمانيا الغربية وكوريا الجنوبية آمنة بعد توقف القتال لأنهما كانتا محميتين بإطار الردع الغربي في زمن الحرب الباردة.

على نحو مماثل، يُـعَـد الردع الفعّـال المفتاح لضمان بقاء الصراع في أوكرانيا مجمدا حقا، وامتناع روسيا عن استغلال التجميد لبناء قدرتها العسكرية حتى تتمكن من توظيف قوة لا تقاوم. أثناء الحرب الباردة، تحقق مثل هذا الردع بفعل تهديد التدمير المتبادل المؤكد. ومن الممكن أن توفر الآلية ذاتها مَـخرَجا الآن.

ومن الممكن تطبيقها من جانب فرنسا والمملكة المتحدة، وهما إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا من أطراف مذكرة بودابست لعام 1994، والتي بموجبها وافقت أوكرانيا على التخلي عن أكثر من 1700 سلاح نووي من الحقبة السوفيتية مقابل الوعد من جانب الأطراف الأخرى بضمان وحدة وسلامة أراضي أوكرانيا. وبوسع فرنسا أو المملكة المتحدة ــ أو يفضل كلاهما ــ تزويد أوكرانيا وأي أهداف أخرى معرضة للعدوان الروسي بالأسلحة النووية.

لو كانت بريطانيا وفرنسا قادرتين على تسليح تشيكوسلوفاكيا بشكل فعّال في عام 1938، ما كان الغزو الألماني ليحدث، وربما ما كانت الحرب العالمية الثانية لتندلع. لكن هذا ببساطة لم يكن في حكم الممكن في ذلك الوقت. الأمر مختلف اليوم. ذلك أن فرنسا وبريطانيا تمتلكان بالفعل وسائل الردع، كما أصبحت التحويلات التكنولوجية أسهل كثيرا.

لفترة طويلة، دار الحديث حول إيجاد شكل جديد من أشكال التعددية في عالم أصبح أكثر تفتتا وتعددا للأقطاب. والآن، الفرصة سانحة لفرنسا وبريطانيا لإظهار الكيفية التي قد يتسنى بها إنجاح هذا الأمر، وكيف من الممكن أن يعيد بعض السلام والأمن إلى عالم يترنح على حافة الهاوية.

* هارولد جيمس، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة برينستون، وهو زميل أقدم في مركز الابتكار الدولي للحكم ومتخصص في التاريخ الاقتصادي الألماني والعولمة، ومؤلف مشارك لكتاب: اليورو ومعركة الأفكار ومؤلف كتاب إنشاء وتدمير القيمة: دورة العولمة، وكتاب "كروب: تاريخ الشركة الألمانية الأسطورية"، تشكيل الاتحاد النقدي الأوروبي، وحرب الكلمات، وكتاب "سبعة حوادث انهيار: الأزمات الاقتصادية التي شكلت العولمة".

https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق