ميثاق المستقبل يعترف بهذا التعدد القطبي المتزايد من خلال التقدم الملموس، وإن كان تدريجيا، في واحدة من أكثر مشكلات الأمم المتحدة تعقيدا: إصلاح مجلس الأمن. بعد عقود من البدايات الخاطئة، تعمل الدول الأعضاء على الدفع بهذه العملية إلى الأمام من خلال الموافقة على تمثيل أكبر في المجلس...
بقلم: توماس هيل، آن ماري سلوتر

أكسفورد/واشنطن، العاصمة- يميل التعاون الدولي إلى أن يكون أصعب منالا عندما تشتد الحاجة إليه. هذا الأسبوع، اجتمع زعماء العالم في نيويورك لحضور قمة المستقبل التي تَـعقدها الأمم المتحدة، والتي دعت إليها الدول الأعضاء في عام 2020، بمناسبة الذكرى السنوية الخامسة والسبعين لتأسيس لأمم المتحدة. كانت أجندة الاجتماع طموحة كما يوحي اسمها، وتستهدف صياغة الإجماع حول السلام والأمن، والتنمية، والتكنولوجيات الجديدة، وحماية أجيال المستقبل.

تتفق الدول الأعضاء على نقطة واحدة: احتياج النظام المتعدد الأطراف الذي تأسس في عام 1945 إلى تحسينات كبرى لتمكينه من مواجهة أزمات اليوم العالمية. وهي تدرك تمام الإدراك عجز الأمم المتحدة عن وقف أو حتى إبطاء الحروب في السودان، ووسط أفريقيا، وغزة، وأوكرانيا، وعشرات غيرها من مناطق الصراع. كما أنها تعترف بفشلها في إعداد العالم للجائحة التالية، حتى بعد أن شهدت الدمار الذي خلفته جائحة كوفيد-19. وهي تدرك أيضا الحاجة إلى اتخاذ تدابير سريعة وجادة لمعالجة أزمة الديون السيادية، وأزمة المناخ المتزايدة الـحِـدّة، وظهور تكنولوجيات جديدة مثل الذكاء الاصطناعي وتعديل الجينات. 

ولكن من المؤسف أن الاتفاق على الحاجة إلى إصلاح النظام لا يمتد إلى كيفية إصلاحه. فقد انتهت مفاوضات شاقة دامت أكثر من عام حول ميثاق المستقبل، وثيقة القمة الختامية، إلى نتيجة دراماتيكية صباح يوم الأحد، حيث احتجت روسيا على اعتماد الوثيقة النهائية، وكانت النتيجة رفضها. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، نددت الأرجنتين بالميثاق واصفة إياه بأنه "أجندة استبدادية". في واقع الأمر، تكرر الوثيقة إلى حد كبير استخدام لغة مجردة متفق عليها سابقا. ولكن وسط الكلمات النبيلة، لا يخلو الأمر من دلائل تشير إلى اتجاهات من شأنها أن تعيد تشكيل السياسة العالمية وتساعد في بناء الأسس لنظام دولي قادر على مواجهة التحديات الحالية والمتوقعة في المستقبل. 

بعد تجربة حربين عالميتين ومواجهة خطر التصعيد النووي، صمم مهندسو الأمم المتحدة نظاما متعدد الأطراف من شأنه أن يمكن حفنة من القوى العظمى من توجيه العالم نحو السلام وتعزيز مصالحها الخاصة. بيد أن هذا النوع من الحكم العالمي لم يَـعُـد صالحا لعالم اليوم ــ وخاصة من منظور نحو أربعة مليارات شخص تحت سن الثلاثين. وحتى في مواجهة الصراع المتواصل في قارات متعددة، لم تعد الحرب البند الوحيد على الأجندة العالمية. إذ تتطلب تحديات مثل الجوائح الـمَـرَضية، وتغير المناخ، والفقر، والهجرة الجماعية، والكوارث التكنولوجية عملا دوليا فعالا وشاملا. 

فضلا عن ذلك، تتمتع مجموعة أوسع كثيرا من البلدان بالقدر الكافي من القوة للتأثير على الشؤون العالمية. استحوذ صعود الصين على القدر الأعظم من الاهتمام، لكنها ليست الدولة الوحيدة التي تشكل الأجندة العالمية: فقد دفعت بربادوس نحو إصلاح النظام المالي الدولي، وسعت الإمارات العربية المتحدة إلى إعادة تشكيل العلاقات الإقليمية. وسوف تستضيف البرازيل مجموعة العشرين هذا العام ومؤتمر الأمم المتحدة لتغير المناخ (مؤتمر الأطراف الثلاثين) الحاسم العام المقبل. 

من المثير للدهشة أن ميثاق المستقبل يعترف بهذا التعدد القطبي المتزايد من خلال التقدم الملموس، وإن كان تدريجيا، في واحدة من أكثر مشكلات الأمم المتحدة تعقيدا: إصلاح مجلس الأمن. بعد عقود من البدايات الخاطئة، تعمل الدول الأعضاء على الدفع بهذه العملية إلى الأمام من خلال الموافقة على تمثيل أكبر في المجلس يشمل "الدول النامية والدول الصغيرة والمتوسطة الحجم". كما يُـلزِم الميثاق الدول الأعضاء بمناقشة فرض قيود على "نطاق واستخدام" حق النقض الذي تمارسه الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وينظر بروية في التعامل مع تمثيل الدول الأفريقية باعتباره "حالة خاصة"، ويؤيد تكليف الجمعية العامة بدور نشط عندما يفشل مجلس الأمن في التحرك.

يتمثل اتجاه آخر انعكس في المفاوضات في الدور المهم الذي تضطلع به الشركات، والمنظمات غير الحكومية، والمدن، وغير ذلك من القوى الفاعلة في معالجة التحديات العالمية، وتشكيل شبكات تكمل عمل الحكومات الوطنية. من تغير المناخ إلى الذكاء الاصطناعي والمعلومات المضللة، تعمل كيانات غير تابعة لدولة بعينها بصورة متزايدة على تشكيل النتائج الأكثر أهمية للناس. ويتعهد ميثاق المستقبل "بتعزيز الشراكات" عبر "المجتمع بالكامل"، بما في ذلك الحكومات المحلية والإقليمية، والقطاع الخاص، والمجتمعات الأكاديمية والعلمية، والجماعات الدينية، والشعوب الأصلية. ويحدد الميثاق الرقمي العالمي، الذي جرى الاتفاق عليه كملحق للميثاق، القطاع الخاص والباحثين ومنظمات المجتمع المدني باعتبارها قوى "أساسية" لتحقيق أهدافه، ويلتزم بالتعاون بين أصحاب المصلحة المتعددين.

وأخيرا، تبنت القمة التحول نحو الحوكمة الأطول أمدا. إن تغير المناخ، وخطط معاشات التقاعد، والاستثمار في البنية الأساسية، وغيرها من "المشكلات الطويلة الأمد" لها أسباب وعواقب تتكشف على مدى أجيال عديدة. وفي الإعلان بشأن أجيال المستقبل، وهو ملحق ثان للميثاق، تؤكد البلدان التزامها "بحماية احتياجات ومصالح أجيال المستقبل"، وهذا يعكس فحوى السطر الأول من ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945، حيث تعهد الأسلاف "بإنقاذ الأجيال القادمة من ويلات الحرب".

 تستند هذه التصريحات العظيمة إلى إجراءات محددة اتخذتها حكومات وطنية عازمة على توسيع أفق صنع القرار. في عام 2015، كانت ويلز أول حكومة تنشئ منصب المفوض لأجيال المستقبل. وفي هذا الشهر، عينت المفوضية الأوروبية مفوضا للعدالة بين الأجيال. كما تحركت كوريا الجنوبية مؤخرا في هذا الاتجاه، حيث أمرت المحكمة الدستورية الحكومة بوضع أهداف مناخية أكثر طموحا لحماية أجيال المستقبل. وبقدر ما يحفز الإعلان مزيدا من التغيير، يمكن اعتباره في النهاية قوة تحويلية، تماما مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948. 

في تقريره الصادر بعنوان "أجندتنا المشتركة" في عام 2021، توقع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش "مستقبلا من الأزمات الدائمة، أو اختراقا إلى مستقبل أفضل وأكثر استدامة وسلاما لشعبنا وكوكبنا". صحيح أن ميثاق المستقبل ليس الاختراق الذي كان يأمله كثيرون، لكنه يبدأ في تحديد ملامح نظام جديد قادر على تصحيح أوجه القصور التي تعيب النظام القديم.

* توماس هيل، أستاذ السياسات العامة العالمية في كلية بلافاتنيك للحكم بجامعة أكسفورد، هو مؤلف كتاب "المشاكل الطويلة: تغير المناخ وتحدي الحكم عبر الزمن".

آن ماري سلوتر، مديرة سابقة للتخطيط السياسي في وزارة الخارجية الأمريكية، هي الرئيسة التنفيذية لمؤسسة نيو أميركا الفكرية، وأستاذة فخرية في السياسة والشؤون الدولية بجامعة برينستون، ومؤلفة كتاب "التجديد: من الأزمة إلى التحول في حياتنا وعملنا وسياساتنا".

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق