فقالَ الحُسينُ السِّبطُ (ع)؛ يا أَخي والله لَو لَم يكُن في الدُّنيا ملجأٌ ولا مأوى لما بايعتُ يزيد بن مُعاوية. فقطعَ محمَّدُ بن الحنفيَّةَ عليهِ الكَلامَ وبكى فبَكى الحُسينُ (ع) معهُ ساعةً ثمَّ قالَ (ع) يا أَخي جزاكَ الله خيراً فقد نصحتَ وأَشفقتَ وأَرجو أَن يكونَ...
٤/ وعندما سأَلَ مُحمَّد بن الحنفيَّة بن أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) أَخاهُ الحُسين السِّبط (ع) عن وجهتهِ عندما يُغادر المدينةَ المنوَّرةَ ردَّ عليهِ بالقَولِ؛ مكَّةَ المُكرَّمةَ ثُمَّ أَرى أَمري، وأَضافَ (ع) {وإِنِّى قد عزمتُ على الخرُوجِ إِلى مكَّةَ، وقد تهيَّأتُ لذلكَ أَنا وإِخوتي وبنُو إِخوَتي وشيعتي وأَمرهُم أَمري ورأيهُم رأيِي، وأَمَّا أَنتَ يا أَخي فلا عليكَ أَن تُقيمَ بالمدينةِ فتكونَ لي عَيناً عليهِم ولا تُخفِ عليَّ شيئاً من أُمورهِم}.
وفي هذا النصِّ حقائِقَ عدَّةً؛
أ/ إِنَّهُ (ع) عندما تركَ المدينةَ المُنوَّرةَ لم يكُن قد قرَّرَ الهِجرةَ من مكَّةَ المُكرَّمةَ بعدُ، وإِنَّما اختارَها ليحضرَ فيها مَوسمَ الحجِّ الذي يحضرهُ المسلمُونَ من كُلِّ الأَمصارِ لتبليغِ رسالتهِ وإِيصالِ مَوقفهِ الرَّافضِ للبَيعةِ للطَّاغيةِ فيُسقِطُ شرعيَّةَ الحُكمِ الجديدِ ويُجرِّدهُ من الشَّرعيَّةِ الدينيَّةِ والسياسيَّةِ والواقعيَّةِ، وليُحشِّدَ الرَّأي العام ضدَّ حُكمِ الطَّاغيةِ يزيدٍ.
ولقد مكثَ (ع) في مكَّةَ أَشهُراً يلتقي ويجتمع ويُخاطب ويتحدَّث ويُحاور، للتَّهيئةِ لمشروعِهِ النَّهضوي التَّغييري والإِصلاحي.
ب/ وفي نيَّتهِ دراسةَ الظُّروفِ والتطوُّراتِ بالإِعتمادِ على ما سيُزوِّدهُ أَخوهُ إِبنُ الحنفيَّةَ من أَخبارٍ أَوَّلاً بأَوَّلٍ مِن المدينةِ المُنوَّرةِ التي هيَ العاصِمةُ الدينيَّةُ وحاضِرةُ العالَم الإِسلامي، فتطوُّراتها وتغيُّرِ أَحوالِها ومواقفَ أَهلِها من الصَّحابةِ والتَّابعينَ لهُ أَثرهُ على تطوُّرِ الحالةِ العامَّةِ في كُلِّ البلادِ الإِسلاميَّةِ، فيما يُساعِدُ كُلَّ ذلكَ، كذلكَ، في بناءِ المَوقفِ السَّليمِ والقرارِ الصَّحيحِ وتحديدِ وِجهةِ السَّيرِ والحركةِ التَّاليةِ.
وأَرى أَنَّ من المُفيدِ جدَّاً نقلُ النصِّ التَّاريخي التَّالي المُتواردِ لتتَّضِحَ صُورة تركِ الحُسين السِّبط (ع) لمدينةِ جدِّهِ إِلى مكَّةَ المُكرَّمةَ، ففيهِ دلائلَ واضِحةً على فلسفةِ هذا الخرُوجِ وكيفَ كانَ يُفكِّرُ (ع) وكيفَ أَنَّهُ استحسنَ رأيَ أَخيهِ إِبنُ الحنفيَّةِ بهذا الصَّددِ؟!.
يقولُ النصُّ الذي أَوردَ الحِوار التَّالي بينَ الإِمام (ع) وأَخيهِ مُحمَّد؛
لمَّا علِمَ إِبنُ الحنفيَّةِ عزمهُ (ع) على الخرُوجِ من المدينةِ لم يَدرِ أَينَ يتوجَّهُ، فقالَ لهُ؛ يا أَخي أَنتَ أَحبُّ النَّاسِ إِليَّ وأَعزَّهم عليَّ ولستُ والله أَدَّخرُ النَّصيحةَ لأَحدٍ من الخلقِ وليسَ أَحدٌ من الخلقِ أَحقُّ بها منكَ لأَنَّكَ مِزاجُ مائي ونفسي ورُوحي وبصرِي وكبيرُ أَهلِ بيتي ومَن وجبَت طاعتهُ في عنُقي لأَنَّ الله قد شرَّفكَ عليَّ وجعلكَ من ساداتِ أَهلِ الجنَّةِ، تنحَّ ببيعتِكَ عن يزيدٍ وعن الأَمصارِ ما استطعتَ ثمَّ ابعث رُسلكَ إِلى النَّاسِ فادعهُم إِلى نفسِكَ فإِن تابعكَ النَّاسُ وبايعُوا لكَ حمدتَ الله على ذلكَ وإِن اجتمعَ النَّاسُ على غيرِكَ لم يُنقِصُ الله بذلكَ دينكَ ولا عقلكَ ولا تذهَب بهِ مرُوءتكَ ولا فضلكَ وإِنِّي أَخافُ عليكَ أَن تدخُلَ مِصراً من هذهِ الأَمصار فيختلفَ النَّاسُ بينهُم فمِنهُم طائِفةٌ معكَ وأُخرى عليكَ فيقتتِلُونَ فتكونَ لأَوَّلِ الأَسنَّةِ غرضاً فإِذا خيرُ هذهِ الأُمَّةَ كُلَّها نفساً وأَباً وأُمّاً أَضيعَها دماً وأَذلَّها أَهلاً.
فقالَ لهُ الحُسين السِّبط (ع) فأَينَ أَذهبُ يا أَخي؟ قالَ تخرُج إِلى مكَّةَ فإِن اطمأَنَّت بكَ الدَّارُ بها فذاكَ وإِن تكُن الأُخرى خرجتَ إِلى بلادِ اليمنِ فإِنَّهُم أَنصارُ جدِّكَ وأَبيكَ وهُم أَرأَفُ النَّاسَ وأَرقَّهُم قلوباً وأَوسعَ النَّاسَ بِلاداً فإِن اطمأَنَّت بكَ الدَّارُ وإِلَّا لحِقتَ بالرِّمالِ وشعفِ الجبالِ وجِزتَ من بلدٍ إِلى بلدٍ حتَّى تنظُرَ ما يؤُولُ إِليهِ أَمرَ النَّاسِ ويحكُمَ الله بيننا وبينَ القومِ الفاسِقينَ فإِنَّكَ أَصوَبُ ما تكونُ رأياً حينَ تستقبِلَ الأَمرَ استقبالاً.
فقالَ الحُسينُ السِّبطُ (ع)؛ يا أَخي والله لَو لَم يكُن في الدُّنيا ملجأٌ ولا مأوى لما بايعتُ يزيد بن مُعاوية.
فقطعَ محمَّدُ بن الحنفيَّةَ عليهِ الكَلامَ وبكى فبَكى الحُسينُ (ع) معهُ ساعةً ثمَّ قالَ (ع) {يا أَخي جزاكَ الله خيراً فقد نصحتَ وأَشفقتَ وأَرجو أَن يكونَ رأيكَ سديداً مُوفَّقاً وأَنا عازمٌ على الخروجِ إِلى مكَّةَ وقد تهيَّأتُ لذلكَ أَنا وإِخوتي وبنُو إِخوَتي وشيعتي وأَمرهُم أَمري ورأيهُم رأيِي، وأَمَّا أَنتَ يا أَخي فلا عليكَ أَن تُقيمَ بالمدينةِ فتكونَ لي عَينا عليهِم ولا تُخفِ عليَّ شيئاً من أُمورهِم}.
ج/ ولقد ظلَّ الحُسينُ السِّبطِ (ع) في مكَّةَ المُكرَّمة أَشهُراً يُراقِبُ ويتواصلُ حتَّى جاءتهُ كُتُبَ شيعةِ الكوفةِ حسبَ التَّفاصيل التَّالية، فبنى عليها مَوقفهُ السِّياسي ولَو كانت قد وصلتهُ من غيرِ مِصرَ [اليمَن مثلاً أَو مِصر] لذهبَ إِليهِ ولم يذهَب إِلى الكُوفةِ، وهذا من تدبيرِ السِّياسةِ والحكومةِ.
يذكُر التَّاريخُ ما نصَّهُ؛
وبلغَ أَهلُ الكوفةِ هلاكَ مُعاوية، فأَرجفُوا بيزيدٍ وعرفُوا خبرَ الحُسين (ع) وامتناعهِ من بيعتهِ وما كانَ مِن أَمرِ إِبنِ الزُّبَير في ذلكَ وخرُوجهُما إِلى مكَّة، فاجتمعَت الشِّيعةُ بالكُوفةِ في منزلِ سُليمان بن صردِّ الخُزاعي فذكرُوا هلاكَ مُعاوية فحمدُوا الله وأَثنَوا عليهِ، فقالَ سُليمان؛ إِنَّ مُعاوية قد هلكَ وإِنَّ حُسيناً قد نقضَ على القومِ بيعتهُ، وقد خرجَ إِلى مكَّة، وأَنتُم شيعتهُ وشيعةُ أَبيهِ فإِن كنتُم تعلمُونَ أَنَّكُم ناصرُوهُ ومجاهِدُوا عدُوِّهِ، فاكتبُوا إِليهِ فإِن خفتُم الفشلَ والوهنَ فلا تغرُوا الرَّجُلَ في نفسهِ، قالُوا؛ لا، بل نُقاتلُ عدوَّهُ، ونقتُلَ أَنفُسنا دونَهُ، فاكتبُوا إِليهِ.
فكتبُوا إِليهِ؛ بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ للحُسينِ بن عليٍّ من سُليمان بن صردِّ والمُسيَّبِ بن نجبةَ ورَفاعةَ بن شدَّادٍ البجليٍّ وحبيب بن مَظاهر وشيعتهِ المُؤمنِينَ والمُسلمينَ من أَهلِ الكوفةِ، سلامٌ عليكَ فإِنَّا نحمدُ إِليكَ الله الذي لا إِلهَ إِلَّا هوَ أَمَّا بعدُ فالحمدُ لله الذي قصمَ عدُوَّكَ الجبَّارَ العنيدِ، الذي انتزى على هذهِ الأُمَّة فابتزَّها أَمرها، وغصبَها فيئِها، وتأَمَّرَ عليها بغَيرِ رضىً منها ثمَّ قتلَ خِيارها واستبقى شِرارها، وجعلَ مالَ الله دُولةً بينَ جبابرتِها وأَغنيائِها، فبُعداً لهُ كما بعُدت ثَمود، إِنَّهُ ليسَ علينا إِمامٌ فأَقبِل لعلَّ الله أَن يجمعَنا بكَ على الحقِّ، والنُّعمانُ بنُ بشيرٍ [والي الأَموييِّنَ على الكُوفةِ] في قصرِ الإِمارةِ، لسنا نجتَمعُ معهُ في جُمعةٍ، ولا نخرجُ معهُ إِلى عيدٍ، ولَو قد بلغْنا أَنَّكَ قد أَقبلتَ إِلينا أَخرجناهُ حتَّى نُلحِقهُ بالشَّامِ إِن شاءَ الله.
ثمَّ سرَّحُوا بالكتابِ معَ عبد الله بن مُسمِع الهمَداني وعبد الله بن وأَل وأَمرُوهُما بالنَّجا، فخرَجا مُسرعينَ حتَّى قدَما على الحُسين (ع) بمكَّةَ لعشرٍ مضَينَ من شهرِ رمَضان.
وهيَّ أَوَّلُ كِتابٍ يصِلُ إِليهِ (ع) من أَهلِ الكُوفةِ، وكما نرى ونقرأُ فإِنَّهُ يقطرُ سياسةً من أَوَّلهِ إِلى آخرهِ، فكانتِ الإِستجابةُ لهُ، حسبَ المنطقِ، سياسيَّةٌ بامتيازٍ!.
فعندما بعثَ الحُسينُ السِّبطِ (ع) لهُم ثِقتهُ مُسلم بن عقيلٍ (ع) إِستجابةً لطلبِ الكتابِ الذي حملَ خطاباً سياسيّاً بِلا مُنازِعٍ إِنَّما ليُوطِّئ لهُ أَمرَ الحكومةِ التي سيُؤَسِّسها من خلالِ التثبُّتِ من حقيقةِ الأَوضاعِ وأَخذِ البيعةِ لهُ من أَهلِ الكوفةِ، وكُلُّ ذلكَ سياسةٌ في سياسةٍ، فلَو كانت الأُمور قد اتَّسقَت كما هوَ مرسُومٌ ومُخطَّطٌ لها من قِبَلِ شيعةِ الإِمامِ (ع) في الكوفةِ ومِن قِبلِ الإِمامِ نفسهُ وثقتهُ وسفِيرهُ إِليهِم لكانَ الإِمامُ (ع) قد تركَ مكَّةَ المُكرَّمة قاصِداً الكُوفةَ لتثبيتِ أَركانِ حكومةِ الحقِّ والعدلِ.
لنستمِعَ للإِمامِ (ع) وهو يُذكِّرُ أَهلَ الكُوفةِ الذينَ حضرُوا كربلاء لقتلهِ في يومِ عاشُوراء، بما كتبُوا لهُ وفيما إِذا كانت في ذلكَ مُؤَشِّرٌ على سعيهِم معهُ لتغييرِ الحكُومةِ أَم لا، لَولا إِنقلابِ الصُّورةِ؟!.
قالَ لهُم (ع) {أَلم تكتبُوا إِليَّ أَن قد أَينعتِ الثِّمارُ وآخضرَّ الجنابُ، وإِنَّما تقدُمُ على جُندٍ لكَ مُجنَّدٌ؟!}.
فهل في هذهِ المُحاججةِ ما يخرجُ عن مفاهيمِ السِّياسةِ والحكُومةِ؟!.
وماذا يعني قَولهُم [ولَو قد بلغْنا أَنَّكَ قد أَقبلتَ إِلينا أَخرجناهُ (والي الأَموييِّنَ على الكُوفةِ) حتَّى نُلحِقهُ بالشَّامِ إِن شاءَ الله] إِلَّا استعدادهُم لتنفيذِ إِنقلابٍ على الحُكمِ القائمِ واستلامِ السُّلطةِ؟!.
يتبع...
اضف تعليق