دعونا لا نعمي أنفسنا عن اختلافاتنا، ولكن دعونا أيضًا نوجه الانتباه إلى مصالحنا المشتركة والوسائل التي يمكن بها حل تلك الخلافات. وإذا لم نتمكن من إنهاء خلافاتنا الآن، فيمكننا على الأقل المساعدة في جعل العالم آمنا للتنوع. لأنه في التحليل الأخير، يتمثل الرابط المشترك الأساسي لدينا...
بقلم: جيفري د. ساكس‏ - (كومون دريمز) 

‏‏سوف يصادف العام المقبل حلول الذكرى السنوية الـ230 لمقال إيمانويل كانط الشهير عن "‏‏السلام الدائم"‏ (1795). وفيه، طرح الفيلسوف الألماني العظيم مجموعة من المبادئ التوجيهية لتحقيق السلام الدائم بين الأمم في عصره. وبينما نتصارع الآن مع عالم في حالة حرب، وفي الحقيقة تحت خطر شديد لمواجهة يوم قيامة نووي، ينبغي أن نبني على نهج كانط للتعامل مع التحديات في وقتنا الراهن. وينبغي النظر في مجموعة محدَّثة من المبادئ في مؤتمر قمة الأمم المتحدة للمستقبل المقرر عقدها في أيلول (سبتمبر).

كان كانط يدرك تمامًا أن مقترحاته ستواجَه بشكوك السياسيين "العمَليين":

يتخذ السياسي العملي موقف النظر بازدراء كبير إلى المُنظِّر السياسي باعتباره متحذلقًا لا تهدد أفكاره الفارغة بأي طريقة من الطرق أمن الدولة، بالنظر إلى حقيقة أن الدولة يجب أن تمضي قدمًا في إعمال المبادئ التجريبية؛ ولذلك يُسمح للمنظر بأن يُمارس لعبته من دون تدخل من رجل الدولة الحكيم المتمرس دنيوياً.‏

‏مع ذلك، وكما أشار المؤرخ مارك مازوير Mark Mazower في ‏‏سرده الذي يحظى بسلطة كبيرة بشأن الحكم العالمي‏‏، فإن نص كانط كان "نصاً من شأنه أن يؤثر في فترات متكررة على أجيال من المفكرين حول الحكومة العالمية حتى يومنا هذا"، والذي يساعد على إرساء أساس للأمم المتحدة والقانون الدولي بشأن حقوق الإنسان، وإدارة الحرب، والحد من التسلح والسيطرة عليه.

تركزت مقترحات كانط الأساسية على ثلاث أفكار.

 أولاً، رفض فكرة الجيوش الدائمة. فالجيوش الدائمة "تهدد على الدوام الدول الأخرى من خلال استعدادها للظهور في جميع الأوقات مستعدة للحرب". وفي هذا، استبق كانط، قبل قرن ونصف، ‏‏التحذير الشهير الذي أطلقه الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور‏‏ من مخاطر المجمع الصناعي العسكري.

 ثانيًا، دعا كانط إلى عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. في هذا الجزء، انتقد كانط هذا النوع من العمليات السرية التي تستخدمها الولايات المتحدة بلا هوادة للإطاحة بالحكومات الأجنبية.

 ثالثًا، دعا كانط إلى تكوين "اتحاد للدول الحرة"، وهو ما أصبح في عصرنا الأمم المتحدة؛ "اتحادًا" مؤلفًا من 193 دولة تعهدت بالعمل بموجب ميثاق الأمم المتحدة.

وضع كانط آمالا كبيرة على نظام "‏‏الجمهورية"‏‏ بدلاً من حكم الشخص الواحد كعامل ضبط لنشوب الحرب. واستنتج كانط أن حاكمًا واحدًا يمكن أن يستسلم بسهولة لإغراء الحرب: ‏

‏"... إن إعلانًا للحرب هو أسهل شيء في العالم يمكن اتخاذ قرار بشأنه، لأن الحرب لا تتطلب من الحاكم، الذي هو مالك الدولة وليس عضوًا فيها، أقل تضحية بملذات مائدته، ورحلات صيده، وبيوته الريفية، ووظائف بلاطه، وما شابه. ولذلك، قد يقرر بشأن الحرب كما لو أنها حفلة للمتعة لأتفه الأسباب، وبلامبالاة تامة يترك التبرير الذي تتطلبه اللياقة للسلك الدبلوماسي المستعد دائمًا لتقديمه".

وعلى النقيض من ذلك، وفقًا لكانط: ‏

‏"... إذا كانت موافقة المواطنين مطلوبة لتقرير أنه يجب إعلان الحرب (وفي هذا الدستور (الجمهوري) لا يمكن سوى أن يكون الأمر كذلك)، فلا شيء أكثر طبيعية من أن يكونوا حذرين للغاية إزاء بدء مثل هذه اللعبة البائسة، وأن يقرروا لأنفسهم بالنظر إلى جميع مصائب الحرب".

كان كانط متفائلاً للغاية بشأن قدرة الرأي العام على تقييد صنع الحرب. كانت كل من الجمهوريات الأثينية والرومانية محبة للحرب بشكل ملحوظ. وكانت بريطانيا هي الديمقراطية الرائدة في القرن التاسع عشر، لكنها ربما كانت القوة الأكثر عدوانية فيه. وعلى مدى عقود، انخرطت الولايات المتحدة في حروب اختيار لا تتوقف وتدبير انقلابات عنيفة على الحكومات الأجنبية.

ثمة ثلاثة أسباب على الأقل وراء خطأ كانط في فهم هذا الترتيب.

 أولاً، حتى في الديمقراطيات، كان خيار شن الحروب يقع دائمًا تقريبًا في يد مجموعة صغيرة من النخبة التي هي في الواقع منعزلة إلى حد كبير عن الرأي العام.

 ثانيًا، وبالقدر نفسه من الأهمية، من السهل نسبياً التلاعب بالرأي العام من خلال الدعاية الهادفة التي تقصد كسب الدعم الشعبي للحرب.

 ثالثًا، يمكن عزل الجمهور على المدى القصير عن التكاليف المرتفعة للحرب عن طريق تمويل الحرب من خلال الديون بدلاً من الضرائب، والاعتماد على المقاولين والمجندين المأجورين والمقاتلين الأجانب بدلاً من التجنيد العام للمواطنين.

ساعدت أفكار كانط الأساسية حول السلام الدائم في تحريك العالم نحو القانون الدولي، وحقوق الإنسان، والسلوك اللائق في الحرب (مثل اتفاقيات جنيف) في القرن العشرين. ولكن، على الرغم من الابتكارات في المؤسسات العالمية، ما يزال العالم بعيدًا عن السلام إلى حد مروع. وفقًا لتقدير "ساعة يوم القيامة" التي وضعتها "‏‏نشرة علماء الذرة‏‏"، فإننا نقف على بعد 90 ثانية فقط من "منتصف الليل"، و‏‏أقرب إلى الحرب النووية من أي وقت مضى منذ إنشاء "الساعة" في العام 1947‏‏. ‏

يمكن القول بأن الجهاز العالمي للأمم المتحدة والقانون الدولي قد منعا نشوب حرب عالمية ثالثة حتى الآن. وعلى سبيل المثال، لعب الأمين العام للأمم المتحدة، يو ثانت U Thant دوراً حيوياً في الحل السلمي لأزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962. ومع ذلك، فإن الهياكل التي تضمها الأمم المتحدة هشة وتحتاج إلى تحديث عاجل.

‏لهذا السبب، أحث على صياغة واعتماد مجموعة جديدة من المبادئ التي تستند إلى أربع حقائق جيوسياسية رئيسية في عصرنا:

أولاً، نحن نعيش وسيف ديموقليس النووي مسلط على رؤوسنا. وقد عبّر الرئيس جون ف. كينيدي عن ذلك ببلاغة قبل 60 عامًا في "‏‏خطاب السلام"‏‏ الشهير الذي ألقاه، عندما أعلن:

‏"أنا أتحدث عن السلام بسبب الوجه الجديد للحرب. الحرب الشاملة لا معنى لها في عصر يمكن فيه للقوى العظمى الاحتفاظ بقوات نووية كبيرة ومحصنة نسبي، ورفض الاستسلام من دون اللجوء إلى تلك القوات. إنه لا معنى لها في عصر يحتوي فيه سلاح نووي واحد على ما يقرب من 10 أضعاف قوة التفجير التي أنتجتها جميع القوى الجوية المتحالفة في الحرب العالمية الثانية".

‏ثانيًا، لقد وصلنا إلى تعددية قطبية حقيقية. لأول مرة منذ القرن التاسع عشر تفوقت آسيا على الغرب في الناتج الاقتصادي. وقد تجاوزنا منذ فترة طويلة حقبة "الحرب الباردة" التي هيمنت فيها الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، أو "اللحظة أحادية القطب" التي سيطرت فيها الولايات المتحدة بعد زوال الاتحاد السوفياتي في العام 1991. إن الولايات المتحدة هي الآن واحدة من قوى عظمى عدة، بما فيها روسيا والصين والهند، مع العديد من القوى الإقليمية أيضًا (بما فيها إيران وباكستان وكوريا الشمالية). ولا يمكن للولايات المتحدة وحلفائها أن يفرضوا إرادتهم من جانب واحد في أوكرانيا أو الشرق الأوسط أو منطقة المحيطين الهندي والهادئ. يجب على الولايات المتحدة أن تتعلم التعاون مع القوى الأخرى.

‏ثالثا، لدينا الآن مجموعة واسعة وغير مسبوقة تاريخياً من المؤسسات الدولية لصياغة واعتماد الأهداف العالمية (على سبيل المثال، فيما يتعلق بالمناخ والتنمية المستدامة ونزع السلاح النووي)، والفصل في مسائل القانون الدولي، والتعبير عن إرادة المجتمع العالمي (على سبيل المثال، في الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة). نعم، ما تزال هذه المؤسسات الدولية ضعيفة عندما تختار القوى العظمى تجاهلها، لكنها تشكل مع ذلك أدوات لا تقدر بثمن لبناء اتحاد حقيقي للأمم بالمعنى الذي عبر عنه كانط. ‏

رابعا، أصبح مصير البشرية أكثر ترابطًا وتعالقًا الآن من أي وقت مضى. إن المنافع العامة العالمية -التنمية المستدامة، ونزع السلاح النووي، وحماية التنوع البيولوجي لكوكب الأرض، ومنع الحروب، والوقاية من الأوبئة ومكافحتها- هي الآن أكثر أهمية بكثير لمصيرنا المشترك من أي وقت مضى في تاريخ البشرية. مرة أخرى، يمكننا أن نتجه إلى حكمة جون كنيدي، التي تبدو صحيحة اليوم كما كانت في ذلك الوقت: ‏

"لذلك دعونا لا نعمي أنفسنا عن اختلافاتنا، ولكن دعونا أيضًا نوجه الانتباه إلى مصالحنا المشتركة والوسائل التي يمكن بها حل تلك الخلافات. وإذا لم نتمكن من إنهاء خلافاتنا الآن، فيمكننا على الأقل المساعدة في جعل العالم آمنا للتنوع. لأنه في التحليل الأخير، يتمثل الرابط المشترك الأساسي لدينا في أننا جميعا نعيش على هذا الكوكب الصغير. كلنا نتنفس الهواء نفسه. كلنا نقدر مستقبل أطفالنا. ونحن جميعًا بشر".

أي مبادئ هي التي يجب أن نعتمدها في عصرنا والتي يمكن أن تسهم في جلب السلام الدائم؟ أقترح في ما يلي 10 مبادئ للسلام الدائم في القرن الحادي والعشرين، وأدعو الآخرين إلى المراجعة، أو التحرير، أو إنشاء قوائمهم الخاصة.

المبادئ الخمسة الأولى من مبادئي هي ‏‏مبادئ التعايش السلمي التي اقترحتها الصين قبل 70 عامًا‏‏ واعتمدتها فيما بعد دول عدم الانحياز. وهذه هي:

‏1. الاحترام المتبادل بين جميع الدول للسلامة الإقليمية للدول الأخرى وسيادتها؛ ‏

‏2. عدم الاعتداء المتبادل لجميع الأمم على الدول الأخرى؛ ‏

‏3. عدم التدخل المتبادل من قبل جميع الدول في الشؤون الداخلية للدول الأخرى (مثل الحروب الاختيارية أو عمليات تغيير النظام أو العقوبات أحادية الجانب)؛ ‏

‏4. المساواة والمنافع المتبادلة في التفاعلات بين الأمم؛ و،

5‏‏. التعايش السلمي بين جميع الأمم.‏

لتنفيذ هذه المبادئ الأساسية الخمسة، أوصي بخمسة مبادئ محددة للعمل:‏

6. إغلاق القواعد العسكرية في الخارج، ‏‏والتي لدى الولايات‏‏ المتحدة والمملكة ‏‏المتحدة‏‏ أكبر عدد منها وبما لا يقاس.

‏7. إنهاء العمليات السرية لتغيير النظام والتدابير الاقتصادية القسرية الانفرادية، التي تشكل انتهاكات جسيمة لمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. (‏‏وقد وثق‏‏ العالم السياسي ليندسي أورورك Lindsey O’Rourke بعناية 64 عملية أميركية سرية لتغيير النظام خلال الفترة 1947-1969، وزعزعة الاستقرار المنتشرة الناجمة عن مثل هذه العمليات). ‏

‏8. التزام جميع القوى النووية (الولايات المتحدة وروسيا والصين والمملكة المتحدة وفرنسا والهند وباكستان ‏‏وإسرائيل‏‏ وكوريا الشمالية) ‏‏بالمادة السادسة من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية‏‏: "يجب على جميع الأطراف متابعة المفاوضات بحسن نية بشأن التدابير الفعالة المتعلقة بوقف سباق التسلح النووي ونزع السلاح النووي، والعمل على معاهدة لنزع السلاح العام الكامل في ظل رقابة دولية صارمة وفعالة". ‏

‏9. التزام جميع الدول "بعدم تعزيز أمنها على حساب أمن الدول الأخرى" (وفقًا ‏‏لميثاق منظمة الأمن والتعاون في أوروبا‏‏). لن تدخل الدول في تحالفات عسكرية تهدد جيرانها، وتلتزم بحل النزاعات من خلال المفاوضات السلمية والترتيبات الأمنية التي يدعمها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة.

‏10. التزام جميع الدول بالتعاون في حماية المشاعات العالمية وتوفير المنافع العامة العالمية، بما في ذلك الوفاء بالتزامات اتفاق باريس للمناخ، وأهداف التنمية المستدامة، وإصلاح مؤسسات الأمم المتحدة.‏

إن المواجهات الجارية بين القوى العظمى اليوم، وخاصة صراعات الولايات المتحدة مع روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية، ترجع إلى حد كبير إلى سعي أميركا المستمر إلى تكريس الأحادية القطبية من خلال عمليات تغيير النظام، وحروب الاختيار، والعقوبات القسرية أحادية الجانب، والشبكة العالمية من القواعد والتحالفات العسكرية الأميركية. وسوف تساعد المبادئ العشرة المذكورة أعلاه في نقل العالم إلى تعددية سلمية للأطراف، والتي يحكمها ميثاق الأمم المتحدة وسيادة القانون الدولي.

* المصدر: صحيفة الغد

https://alghad.com/

....................................

- ‏جيفري دي ساكس Jeffrey D. Sachs: أستاذ جامعي ومدير مركز التنمية المستدامة في جامعة كولومبيا، حيث أدار "معهد الأرض" من العام 2002 حتى العام 2016. وهو أيضًا رئيس شبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة ومفوض لجنة النطاق العريض التابعة للأمم المتحدة من أجل التنمية. كان مستشارًا لثلاثة أمناء عامين للأمم المتحدة، ويعمل حاليًا كمدافع عن أهداف التنمية المستدامة في عهد الأمين العام أنطونيو غوتيريش. وهو مؤلف كتاب "سياسة خارجية جديدة: ما وراء الاستثنائية الأميركية" A New Foreign Policy: Beyond American Exceptionalism (2020). ومن كتبه الأخرى: "بناء الاقتصاد الأميركي الجديد: ذكي وعادل ومستدام" Building the New American Economy: Smart, Fair, and Sustainable (2017)، و"عصر التنمية المستدامة" The Age of Sustainable Development (2015) مع بان كي مون.‏

*نشر هذا المقال تحت عنوان: 10 Principles for Perpetual Peace in the 21st Century

اضف تعليق