رغم أن التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران تم احتواؤه بجهد وضغط أميركي كبير على الجانبين، فإن تطورات الأسابيع الثلاثة الأولى من نيسان/ أبريل 2024 أوضحت مدى هشاشة الوضع وإمكانية وقوع خطأ في التقديرات قد يؤدي مع استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة إلى إشعال المنطقة بكاملها...
أدت الولايات المتحدة الأميركية دورًا مهمًا في منع تحول الهجمات المتبادلة بين إيران وإسرائيل، خلال نيسان/ أبريل 2024، إلى صراع عسكري مفتوح يمكن أن يجرّها إلى حرب جديدة في منطقة الشرق الأوسط. فمن جهة، بذلت إدارة الرئيس جو بايدن جهدًا كبيرًا، بالتعاون مع حلفائها، في صد الهجوم الإيراني على إسرائيل، ومن ثم منع وقوع خسائر كبيرة قد تدفع هذه الأخيرة إلى الرد بقوة.
ومن جهة ثانية، مارست ضغوطًا كبيرة على إسرائيل، لعدم الرد مطلقًا على الهجوم الإيراني الذي وقع في 14 نيسان/ أبريل، والاكتفاء بما أسمته "النجاح الكبير" في صده، أو حصره في نطاق ضيق في حالة الإصرار على الرد، وهو ما جرى فعلًا في الهجوم الإسرائيلي "الرمزي" على مواقع في محيط مدينة أصفهان الإيرانية في 19 من الشهر ذاته.
هل تغيرت قواعد الاشتباك؟
تخوض إيران وإسرائيل منذ عقود "حرب ظل" على امتداد المنطقة؛ إذ يتبادل الطرفان الهجمات، سواء مباشرة أم عبر وكلاء[1]. إلا أن قيام إسرائيل بضرب القنصلية الإيرانية في دمشق، مطلع نيسان/ أبريل 2024، والذي قُتل فيه سبعة من ضباط الحرس الثوري الإيراني، اثنان منهم برتب عالية، هو أمر اعتبرته إيران محاولة من إسرائيل لتغيير قواعد الاشتباك؛ ما فرض ردًا مباشرًا اقتضته ضرورات الحفاظ على هيبتها بوصفها قوة إقليمية، والعودة إلى قواعد الردع المتبادل، دون الانجرار إلى حرب شاملة[2].
شنّت إيران في 14 نيسان/ أبريل هجومًا على إسرائيل من داخل أراضيها استخدمت فيه أكثر من 300 طائرة مسيرة وصاروخ باليستي ومجنح (كروز)، لكن لم تحدث المقذوفات الإيرانية أضرارًا كبيرة؛ إذ تمَّ إسقاط أغلبها بقيادة أميركية. وفي 19 من الشهر نفسه، شنّت إسرائيل هجومًا انتقاميًا محدود النطاق، لم تتبنّه رسميًا، على قاعدة عسكرية جوية قرب مدينة أصفهان، لكن لم يحدث أضرارًا كبيرة، بدوره. كما شمل الرد الإسرائيلي هجومًا على قاعدة رادار عسكرية جنوب سورية، وهجومًا آخر، في اليوم التالي، على قاعدة عسكرية (كالسو) في محافظة بابل العراقية، جنوب العاصمة بغداد، تضم مركز قيادة لهيئة الحشد الشعبي التي تنضوي تحتها ميليشيات تابعة لإيران. وفي حين سعت الأخيرة إلى التقليل من حجم الهجوم على القاعدة الجوية في أصفهان عبر التصريح بأنه تمَّ بطائرات مسيرة صغيرة انطلقت من داخل إيران نفسها، وتمكنت دفاعاتها الجوية من إسقاطها، إلا أن ثمَّة معلومات نشرتها وسائل إعلام أميركية وإسرائيلية، تعتمد على مصادر رسمية غير محددة، تبيّن أن الهجوم تضمّن قصفًا بصواريخ من طائرات حربية[3]. وقد فُهِم الصمت الإسرائيلي الرسمي عن الهجوم، وتقليل إيران من حجمه وإغفالها مصدرَه[4] بأنه محاولة من الطرفين للتهدئة، ومن ثم العودة إلى قواعد "حرب الظل"، دون إغفال التغيرات التي طرأت على علاقتهما، خصوصًا أن الهجوم الإيراني المباشر على إسرائيل من أراضيها يعد الأول منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979.
تقديرات إيران وإسرائيل
تدل الهجمات المتبادلة التي حصلت خلال الأسابيع الثلاثة الماضية على وجود رغبة مشتركة لدى إيران والولايات المتحدة وإلى حد أقل إسرائيل، لتجنب الانجرار إلى حرب شاملة؛ فإيران تعاني وطأة العقوبات الاقتصادية الأميركية عليها والتي تمت إعادة فرضها بعد انسحاب الرئيس السابق دونالد ترامب من الاتفاق النووي عام 2018. كما أن موازين القوى العسكرية مختلة بشدة لصالح إسرائيل التي تحظى بدعم أميركي وغربي كبير، برهنت عليه الحرب على غزة والرد على الهجمات الصاروخية التي قامت بها إيران ضد إسرائيل.
من هنا، ورغم أن إيران بدت مضطرة إلى الرد على هجوم إسرائيل على قنصليتها في دمشق، فإن الطريقة التي صممت بها الضربة كانت تستهدف، على الأرجح، عدم استدعاء رد إسرائيلي، وربما أميركي، كبير عليها. وقد اعترف وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، أن بلاده أعطت بعض الدول المجاورة، بما في ذلك دولٌ حليفة للولايات للمتحدة، إشعارًا قبل 72 ساعة من بدء الهجوم[5]. ووفقًا لمصادر أميركية، فإن كلًّا من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أبلغتا الولايات المتحدة بذلك[6]. وقد فُهم ذلك على أنه حرص من جانب إيران على إعطاء وقت كافٍ للولايات المتحدة وإسرائيل للاستعداد لتلك الهجمات، رغم أن إيران كانت تقصد من خلال تصميم الهجوم بالطريقة التي تم بها، الوصول إلى قاعدة "نفاتيم" الجوية في صحراء النقب بالقرب من مدينة بئر السبع، وذلك لتأكيد قدرتها على بلوغ هدفها رغم كل الدفاعات التي أنشأتها إسرائيل وحلفاؤها لصد الضربة الإيرانية[7].
وتعتبر قاعدة "نفاتيم" الحظيرة الرئيسة لمقاتلات إف-35 الإسرائيلية التي يعتقد أن الهجوم على القنصلية الإيرانية انطلق منها. وحسب صور الأقمار الصناعية، فقد تعرضت "نفاتيم" وقاعدة عسكرية أخرى، توجد في نفس المنطقة، لأضرار طفيفة. في المقابل، ورغم أن بنيامين نتنياهو يرغب في جر الولايات المتحدة إلى مواجهة واسعة مع إيران، فإن تأكيد إدارة بايدن أنها لن تشارك في الهجوم خفف من حماسة حكومة إسرائيل التي حاولت الموازنة بين التمسك بهيبة الردع من جهة، خصوصًا بعد عملية "طوفان الأقصى"، وأن لا يتسبب ردها في حرب شاملة مع إيران من جهة أخرى، خاصة أنها مستغرقة في حرب غزة ومواجهات ما فتئت تتصاعد مع حزب الله في لبنان[8].
وبناءً عليه، راوحت الخيارات الإسرائيلية بين شن ضربات على منشآت إيرانية استراتيجية، بما في ذلك المواقع النووية أو قواعد الحرس الثوري، والقيام بعمليات سرية واغتيالات وهجمات إلكترونية على المنشآت الصناعية، فاستهدفت قاعدة جوية قرب مدينة أصفهان، بحيث تكون قريبة بدرجة كافية من المنشآت النووية الإيرانية، لتأكيد قدرتها على الوصول إليها، لكن من دون أن تتسبب في أضرار كبيرة، تحرج إيران وتدفعها إلى الرد. وقد جاء الضرر طفيفًا إلى درجة سمحت لإيران بنفي وقوع هجوم إسرائيلي من عليها.
حسابات واشنطن
على الرغم من الضغوط التي مارستها إدارة بايدن على إسرائيل لعدم الرد على الهجوم الإيراني، إلا أن الحكومة الإسرائيلية لم تتجاوب مع ذلك، وهو ما عده بعض المسؤولين في الإدارة الأميركية نوعًا من الإهانة للولايات المتحدة ولبايدن شخصيًا[9]. ونُقل عن بايدن أنه أسرَّ لبعض مساعديه أن نتنياهو "يحاول جرَّ واشنطن إلى صراع أوسع"؛ ما عُدَّ مؤشرًا على مدى ضعف النفوذ الأميركي على نتنياهو وحكومته[10]. ووفقًا للمقاربة الأميركية، فإن نجاح الدفاعات الجوية في التحالف الذي قادته واشنطن كان "استثنائيًا" في إحباط الهجوم الإيراني؛ إذ دمّر أغلب الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية قبل أن تصل أجواء إسرائيل، في حين تكفلت الدفاعات الجوية الإسرائيلية بأغلب ما تبقى منها.
وعلى هذا الأساس فقد طلب بايدن من نتنياهو التفكير بعناية وبشكل استراتيجي آخذًا في الاعتبار التحالف الدولي والإقليمي، الذي شكلته واشنطن للدفاع عن إسرائيل، وضم دول عربية، وأن عدم الرد يزيد في عزلة إيران وينهي عزلة إسرائيل التي نشأت بسبب حربها في قطاع غزة. وعندما صار واضحًا أن إسرائيل لا تريد الإصغاء للنصائح الأميركية، حرصت إدارة بايدن على التأكيد أنها لن تشارك في أي عملية هجومية إسرائيلية ضد إيران، وتبقى ملتزمة بالدفاع عنها أمام أي هجوم إيراني. ويبدو أن موقف واشنطن دفع إسرائيل إلى العملية المحدودة التي قامت بها قرب أصفهان.
تولت القيادة المركزية للولايات المتحدة (CENTCOM) ، والتي تقع منطقة الشرق الأوسط ضمن نطاق عملها، عمليًا تنسيق جهود صد الهجوم على إسرائيل، بالتعاون مع كل من بريطانيا وفرنسا والأردن، بالإضافة إلى أنباء عن وجود دور لوجستي سعودي وإماراتي. وحسب بيان "للقيادة المركزية"، فقد أسقطت القوات الأميركية حوالى 80 طائرة بدون طيار وستة صواريخ باليستية باستخدام طائرات إف-15 وإف-16، وصواريخ نظام الدفاع الجوي، باتريوت، بالإضافة إلى مدمرتين تابعتين للبحرية الأميركية في شرق البحر الأبيض المتوسط، بالتعاون مع الحلفاء. وأسقطت القوات الأميركية صاروخًا بالقرب من أربيل بالعراق يُعتقد أنه كان متجهًا نحو إسرائيل، كما "شمل ذلك صاروخًا باليستيًا كان جاهزًا للإطلاق وسبع طائرات بدون طيار تم تدميرها على الأرض في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون المدعومون من إيران في اليمن قبل إطلاقها"[11].
وبعد الهجوم الإيراني، حاولت إدارة بايدن ثني إسرائيل عن مهاجمة إيران، من خلال فرض عقوبات إضافية على الأخيرة استهدفت "القادة والكيانات المرتبطة بالحرس الثوري، ووزارة الدفاع الإيرانية، وبرنامج الصواريخ والطائرات بدون طيار التابع للحكومة الإيرانية"[12]. وأكدت إدارة بايدن أنها ستواصل العمل "لتعزيز وتوسيع التكامل الناجح للدفاع الجوي والصاروخي وأنظمة الإنذار المبكر في جميع أنحاء الشرق الأوسط لإضعاف قدرات إيران الصاروخية وأسطولها من الطائرات بدون طيار"[13]. كما دفعت زعماء مجموعة الدول الصناعية السبع إلى إدانة الهجوم الإيراني ضد إسرائيل والتهديد بـعقوبات وإجراءات إضافية لتقييد برامج إيران العسكرية، وهو ما تجاوب معه هؤلاء بتأكيدهم على "الاستعداد لاعتماد المزيد من العقوبات أو اتخاذ إجراءات أخرى، ردًا على المزيد من المبادرات المزعزعة للاستقرار"[14].
والجدير بالذكر أنّ إسرائيل أبلغت الولايات المتحدة قبل شنها الهجوم بيوم واحد، أنها تعتزم فعله خلال 24 إلى 48 ساعة القادمة[15]، وقد أبدى بايدن ارتياحًا إلى محدودية هذا الهجوم، وأنه لم يؤدِ إلى تصعيد إقليمي[16].
خاتمة
رغم أن التصعيد الأخير بين إسرائيل وإيران تم احتواؤه بجهد وضغط أميركي كبير على الجانبين، فإن تطورات الأسابيع الثلاثة الأولى من نيسان/ أبريل 2024 أوضحت مدى هشاشة الوضع وإمكانية وقوع خطأ في التقديرات قد يؤدي مع استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة إلى إشعال المنطقة بكاملها، وقد تجد الولايات المتحدة نفسها منخرطة فيه عن غير رغبة منها، خاصة أن إسرائيل لا تبدي أي اعتبار للمصالح الأميركية، ولا تكترث لضغوطها ونصائحها. مع ذلك، تستمر الولايات المتحدة في تقديم كل أشكال الدعم لإسرائيل، وآخر حلقة في سلسة الدعم هذه كان تصويت مجلس النواب الأميركي في 20 نيسان/ أبريل 2024 على قانون ينص على تقديم مساعدات عسكرية جديدة لإسرائيل بقيمة 26 مليار دولار؛ ما يمكّنها من استمرار عدوانها على قطاع غزة، والاستعداد للهجوم على رفح، متجاهلة المواقف الدولية المعارضة، والتحذيرات الأميركية من احتمال وقوع مجازر مروعة، نتيجة وجود أكثر من 1.3 مليون فلسطيني في مساحة لا تتجاوز 60 كيلومترًا مربعًا.
اضف تعليق