صعود الذكاء الاصطناعي سيف ذو حدين. فقد تعمل هذه التكنولوجيا كأداة قوية لتحقيق التوازن أو كمصدر للانقسام، اعتمادا على كيفية نشرها ومن يتحكم فيها. وهي كمثل الثورات التكنولوجية السابقة، تَعِد بخلق فرص عمل جديدة بينما تهدد في الوقت ذاته بإزاحة وظائف قائمة. قد يؤدي إلى نشوء فجوة متزايدة...
بقلم: برتراند بدري، تشارلز جورينتن
باريس ــ يستثير التقدم السريع الذي طرأ على الذكاء الاصطناعي الدهشة والـوَجَـل في آن واحد. وينظر كثيرون إلى الذكاء الاصطناعي باعتباره موضوعا للعجب والرهبة (Stupor Mundi بمعنى "أعجوبة العالم"، إذا استعرنا العبارة اللاتينية)، في حين يعتقد آخرون أنه قد يكون "مُـخَـلِّـص العالم" (Salvator Mundi). سواء كان الذكاء الاصطناعي يُـعَـد معجزة أو مجرد أداة مفيدة، فإن السؤال يظل قائما: كيف نضمن إتاحة فوائده للجميع؟
للإجابة على هذا السؤال، نحتاج إلى فهم دقيق للذكاء الاصطناعي. وهذا يعني رفض عدد كبير من الروايات التبسيطية: الرواية الوظيفية، التي تقول إن البشر يجب أن يتكيفوا ويعززوا أنفسهم لمواكبة التقدم التكنولوجي؛ والرواية الحسية، التي تصور الذكاء الاصطناعي على أنه تهديد وجودي؛ والهازئة، التي تسعى إلى استغلال الذكاء الاصطناعي لتحقيق الربح؛ والقدرية، التي تنطوي ضمنا على قبول مستسلم لصعود الذكاء الاصطناعي الحتمي.
ما تتجاهله هذه السيناريوهات هو أن المستقبل لا يزال في متناول أيدينا نشكله كيفما نشاء. إن تبني مبدأ الحقيقة ــ المعرفة من خلال التصنيع ــ يشكل أهمية بالغة لتطوير فهم أكثر عمقا لقدرات الذكاء الاصطناعي والتأثيرات المترتبة عليه.
لمنع أي أقلية من الاستيلاء على الإمكانات التحويلية التي يتمتع بها الذكاء الاصطناعي، لا بد من إدارته ديمقراطيا. والوصول العادل هو المفتاح لضمان تقاسم فوائد التقدم التكنولوجي على نطاق واسع، وعمل الذكاء الاصطناعي كقوة مُـوَحِّـدة، وأنه لن يتسبب في تفاقم الانقسامات داخل مجتمعاتنا الهشة.
الفوائد المحتملة هائلة. في تسعينيات القرن العشرين، لاحظ جوزيف ستيجليتز أن "أي طفل يمكنه الوصول إلى الإنترنت في أي مكان في العالم قادر على تحصيل قدر من المعرفة أعظم مما كان بوسع طفل في أفضل المدارس في البلدان الصناعية تحصيله قبل ربع قرن من الزمن". من خلال جعل الوصول إلى الذكاء الاصطناعي من الحقوق الديمقراطية، يصبح بوسعنا تمكين أطفال اليوم من التفاعل مع ألمع العقول البشرية على النحو الذي يلبي احتياجاتهم الفردية.
لكن تحقيق هذه الغاية يتوقف على كيفية تشكيل السرد المحيط بتبني الذكاء الاصطناعي والتأثيرات المترتبة على ذلك في المستقبل. بدلا من بذل الوعود النبيلة مثل "الذكاء الاصطناعي سوف يحل مشكلة الجوع في العالم"، ينبغي لنا أن نركز على قدرته على إحداث تحسينات تدريجية ولكن ذات مغزى في حياة الناس اليومية.
في هذا الصدد، تعمل قدرات التكنولوجيا السريعة التوسع وانخفاض تكاليفها على خلق فرص جديدة لنماذج أصغر حجما وتمكين المستخدمين الأفراد من تخصيص حلول الذكاء الاصطناعي، على النحو الذي يعكس أيام الإنترنت المتحررة المبدعة الأولى. قبل عامين فقط، على سبيل المثال، كان نموذج الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر الرائد هو OPT-175B من شركة Meta. اليوم، أصبح النموذج الرائد المفتوح المصدر Mistral 7B أصغر بنحو أربعين مرة، وتشغيله أرخص بنحو أربعين مرة على الأقل، ومتفوقا في الأداء على سابقه. ومن اللافت للنظر أن تطويره كان بواسطة شركة تتألف من 18 شخصا فقط.
هذه ليست سوى البداية. إذ يختبر الذكاء الاصطناعي حاليا نسخته الخاصة من قانون مور، فيمهد الساحة للاستيعاب السريع، على نحو أقرب إلى انتشار الهواتف وأجهزة التلفزيون. تستدعي هذه العملية المتسارعة تحول التركيز نحو تطوير تطبيقات عملية وتخفيف المخاطر، بدلا من التركيز على خفض التكاليف.
الواقع أن صعود الذكاء الاصطناعي سيف ذو حدين. فقد تعمل هذه التكنولوجيا كأداة قوية لتحقيق التوازن أو كمصدر للانقسام، اعتمادا على كيفية نشرها ومن يتحكم فيها. وهي كمثل الثورات التكنولوجية السابقة، تَعِد بخلق فرص عمل جديدة بينما تهدد في الوقت ذاته بإزاحة وظائف قائمة. يؤكد تقرير حديث صادر عن صندوق النقد الدولي على هذه النقطة، محذرا من أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي إلى نشوء فجوة متزايدة الاتساع بين الأفراد البارعين في استخدام التكنولوجيا، الذين هم في وضع جيد يسمح لهم بجني فوائد الإبداع الاقتصادية، وأولئك المهددين بالتخلف عن الركب.
لكن فهمنا لهذه التكنولوجيات يجب أن يعكس تعقيداتها وقوة الإبداع البشري. من خلال تطوير وتعزيز أنظمة الذكاء الاصطناعي التي تعمل على تحسين الخدمات الأساسية بشكل كبير، وخاصة في المناطق المحرومة، يصبح بوسعنا ضمان تقاسم فوائدها على نطاق واسع. ولتحقيق هذه الغاية، يجب نشر تقنيات الذكاء الاصطناعي بهدف واضح يتمثل في تضييق فجوات التفاوت القائمة.
في الوقت ذاته، تجدر الإشارة إلى أن الذكاء الاصطناعي سيعمل في الأرجح على زيادة فائض المستهلك الإجمالي عن طريق خفض التكاليف المرتبطة بخدمات بعينها. ولضمان وصول هذه الفوائد إلى أغلبية الناس، من الضروري اتباع استراتيجية ذات شقين: تمكين الأفراد من تسخير هذه القيمة محليا مع إعادة توزيع المكاسب الإجمالية على أولئك من غير القادرين على الوصول إليها.
على هذا فإن تعزيز إمكانية الوصول إلى الذكاء الاصطناعي أمر ممكن وبالغ الأهمية. ولتحقيق الاستفادة من هذه التكنولوجيات في التصدي للمشكلات الاجتماعية الملحة، من الأهمية بمكان تحديد مجالات بعينها حيث من الممكن أن يُـحـدِث الذكاء الاصطناعي فارقا كبيرا، مثل الرعاية الصحية، والتعليم، والاستدامة البيئية، والحوكمة. لكن تحديد الأولويات الصحيحة وتنفيذ الحلول التكنولوجية يتطلب جهودا متضافرة. وينبغي دمج مفهوم الذكاء الاصطناعي لتحقيق الصالح العام في استراتيجيات المؤسسات التنموية والمنظمات المتعددة الأطراف.
ولكن أولا، يجب أن يتحول الحوار العالمي حول الذكاء الاصطناعي من "الانبهار" إلى التساؤل حول "ماذا" و"كيف". لقد حان الوقت للابتعاد عن الافتتان بالتكنولوجيا الناشئة والانتقال إلى تحديد التحديات التي يمكنها معالجتها ووضع استراتيجيات لدمجها في الأنظمة التعليمية والاجتماعية في البلدان المتقدمة والنامية على حد سواء. يتطلب إعداد المجتمع لمستقبل معزز بالذكاء الاصطناعي أكثر من مجرد الإبداع التكنولوجي؛ فهو يستلزم إنشاء أطر أخلاقية، وتحديث عملية صنع السياسات، وتعزيز المعرفة بالذكاء الاصطناعي عبر المجتمعات.
بينما نبحر عبر مرحلة العجب والرهبة في مملكة الذكاء الاصطناعي، مفتونين بقدراته السحرية، لا يجوز لنا أن نغفل أبدا عن حقيقة مفادها أن أي تأثير تخلفه التكنولوجيا يعتمد على الكيفية التي نستخدمها بها. والاختيارات التي نتخذها اليوم ستحدد ما إذا كان الذكاء الاصطناعي ليعود بالفوائد والثراء على قِلة مختارة أو يتطور إلى قوة عاتية تدفع باتجاه التغير الاجتماعي الإيجابي. لتحقيق وعد "مُـخَـلِّـص العالم"، ينبغي لنا أن نعمل على تسخير هذه التكنولوجيات الناشئة لصياغة مستقبل أفضل وأكثر شمولا للجميع.
اضف تعليق