q
ومع هذا العصر الجديد من الإنجازات التكنولوجية والفرص الجديدة، تبرز الحاجة إلى رسم خارطة طريق جديدة لتوجيه التوقعات والسلوك الشخصي. وكما هو الحال دائما، يقدم التاريخ دروسا في هذا الصدد. فدائما ما كان هناك أفراد تحويليون يعيدون تشكيل المعتقدات العامة، ويعملون بطرق مختلفة تمامًا عن المؤثرين المعاصرين مثل ترامب...
بقلم: هارولد جيمس

برلين- إن الرأي العام بشأن ما يحدث في العالم اليوم متشعب إلى درجة تثير الاستغراب. فالاقتصادات الصناعية الكبرى، بما فيها الصين، يسيطر عليها عموما شعور بالخوف والشك، مع أن العديد من أفرادها يعتقدون بحق أنهم بخير (ف"غيرهم" هم من يمرون بظروف سيئة للغاية). إن الأسواق تشهد مستويات قياسية جديدة، في وقت تتخذ فيه معنويات السياسيين والمستثمرين منحنيات متباينة. فالسياسة يسودها التشاؤم، في حين أن الاقتصاد يزخر بالطاقة.

وعلى مدى الأعوام الثلاثين الماضية، كان شعار المستشار السياسي الأميركي، جيمس كارفيل، الشهير الذي يقول: "إنه الاقتصاد يا غبي"، يصوغ فهمنا للسياسة، لاسيما خلال السنة الانتخابية. ولكن الزمن قد عفا على هذه الحكمة. فقد توقفت السياسة منذ عهد بعيد عن الاستجابة لما يحدث في العالم الحقيقي، بما في ذلك الاقتصاد.

لنبدأ بالولايات المتحدة، التي يبدو أنه محكوم عليها بإعادة سباق 2020 بين جو بايدن ودونالد ترامب. سيراجع هذان الرجلان المسنان، اللذان تقدما أربع سنوات في العمر منذ آخر مواجهة بينهما، الاقتراحات مرة أخرى في نوفمبر/تشرين الثاني. وعلى نحو مماثل، تستعد فرنسا لخوض الانتخابات الرئاسية مرة أخرى بقيادة الشعبوية اليمينية المتطرفة مارين لوبان.

وفي ألمانيا، نظرا لانهيار دعم الائتلاف الحاكم (بقيادة الديمقراطيين الاشتراكيين، بالشراكة مع حزب الخضر والديمقراطيين الأحرار)، الذي أظهرته استطلاعات الرأي، احتل حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف المرتبة الثانية بعد أقوى حزب في البلاد، مما يشير إلى أنه سيبقى جزءًا دائمًا من المشهد السياسي. وقد حققت الأحزاب الشعبوية في الآونة الأخيرة انتصارات كبيرة في هولندا وسلوفاكيا. وفي المملكة المتحدة، يتوقع الجميع الآن أن يفوز حزب العمال (بقيادة أكثر اعتدالا) في الانتخابات المقبلة؛ ومع ذلك فمن الواضح أن الحكومة الجديدة سوف ترث اقتصاداً ضعيفاً ونظاماً سياسياً منقسماً.

إن المؤثر الرئيسي الذي يروج لليأس هو ترامب. إذ ينسج هو ومعجبوه ومساعدوه من أوروبا قصة مثيرة عن البؤس والخوف. فرواية ترامب تقول أن أميركا "دولة في حالة انحدار، فهي دولة مضطربة، ودولة فاشلة بصراحة". إن مثل هذه التصريحات غير الرسمية، التي تصاغ بلغة بسيطة ومشوهة عن عمد، توهم الناس بأنه يقول الحقيقة. وينطبق الشيء نفسه على انتقادات ترامب لنيكي هيلي، التي صيغت بأحرف كبيرة غريبة وقواعد نحوية ذاتوية والتي جاء فيها ما يلي: "إن تصريحاتها الكاذبة، وتعليقاتها التحقيرية، والخسارة العامة المُهينة، تحط من قدر الوطنيين الأميركيين الحقيقيين".

ولنتأمل الآن الصورة الاقتصادية الكبيرة، التي تتناقض تناقضا صارخا مع هذه التقييمات السياسية القاتمة. إن الإبداع التكنولوجي يقود التقدم بوتيرة أسرع وأوضح من أي وقت مضى على مدى السنوات الخمسين الماضية.

ولطالما احتار الاقتصاديون في المفارقة، التي استكشفها روبرت غوردون من جامعة نورث وسترن، والتي تتلخص في كون تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تبدو مبهرة، ولكنها فشلت في تحقيق مكاسب إنتاجية تضاهي تلك التي أنتجتها التكنولوجيات السابقة مثل الكهرباء. وهذا معناه أن التكنولوجيا الرقمية لم تقدم سوى الترفيه الذي يهدر الوقت- وأن الملايين من العاملين في المكاتب كانوا يقضون ساعاتهم في لعب لعبة "السوليتير" وكانسة الألغام (اللعبتان اللتان ثُبِتتا مسبقا على أغلب أجهزة الكمبيوتر الشخصية في تسعينيات القرن العشرين).

وهذا لم يعد صحيحا. إن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات اليوم- الذكاء الاصطناعي على الخصوص- تزداد قدرة على حل المشاكل الأساسية بما في ذلك تلك التي أحبطت الطبقة المتوسطة على مدى العقود الأربعة الماضية. هل السكن باهظ الثمن في المدن؟ بفضل العمل عن بعد، لم تعد بحاجة إلى العيش في منطقة حضرية كبرى لتتمكن من الحصول على وظيفة في شركة كبرى. هل التعليم مكلف ويصعب الحصول عليه؟ بفضل الدورات التدريبية عبر الإنترنيت- مثل تلك التي تقدمها أكاديمية خان- يمكنك تعلم العديد من المواضيع عبر الإنترنت. هل الرعاية الصحية مكلفة للغاية، ولا يمكن الوصول إليها، واقتحامية (تتطلب اختبارات غير ضرورية)؟ سوف يساعد الذكاء الاصطناعي في مواجهة كل هذه التحديات.

إن العديد من هذه التطورات التقنية صادمة حقًا. ومن المؤكد أنها ستؤدي إلى إزاحة أعداد كبيرة من العمال الذين حصلوا على الريع من السلع النادرة في السابق؛ لكنها ستحرر أيضًا الموارد، مما يسمح للعديد من الناس بتحقيق حياة هادفة بقدر أكبر مقارنة مع تلك التي تتيحها حاليًا ما يُطلق عليها عالم الأنثروبولوجيا الراحل ديفيد غريبر "الوظائف السخيفة".

وفي لحظات سابقة من عدم اليقين، مثل فترة التضخم في سبعينيات القرن العشرين، ارتفعت معدلات الادخارـ وهذه مفارقة إلى حد ما- نظرا لكون التضخم أدى إلى تراجع المدخرات القائمة. ولكن، معدلات الادخار الآن تتراجع بوتيرة سريعة عن أعلى مستوياتها خلال الجائحة إلى ما دون مستوى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وخاصة في الولايات المتحدة. فهل يمثل هذا الاتجاه شعورا بالتفاؤل اتجاه المستقبل، أم أنه يشير إلى القدرية؟

ومع هذا العصر الجديد من الإنجازات التكنولوجية والفرص الجديدة، تبرز الحاجة إلى رسم خارطة طريق جديدة لتوجيه التوقعات والسلوك الشخصي. وكما هو الحال دائما، يقدم التاريخ دروسا في هذا الصدد. فدائما ما كان هناك أفراد تحويليون يعيدون تشكيل المعتقدات العامة، ويعملون بطرق مختلفة تمامًا عن المؤثرين المعاصرين مثل ترامب.

لقد عطل بوذا كل التسلسلات الهرمية الكهنوتية المعقدة بتحدٍ مباشر. فقد أظهرت شخصيات مثل فرانسيس أسيزي، وكاثرين سيينا، وبرناديت سوبيروس جاذبية شخصية قوية، تكثفت بسبب معاناتهم. لقد ثاروا على المؤسسة ومعتقداتها، وساعدوا الناس على رؤية إمكانية القيام بعمل فردي هادف، وأظهروا القيم بدلا من التحدث عنها. وفي النهاية، ولكن فقط بعد أن أحدثوا ثورة في حياة أعداد كبيرة من الناس، استجابت لهم مؤسسات مجتمعاتهم.

إن هذا النهج هو عكس نهج المؤثرين المعاصرين، الذين يهدفون فقط إلى تسويق التقليد والسلوك المشتق. إن ترامب لا يؤثر عن طريق أي قيم يمثلها، بل إنه يمتطي موجة معينة. إن الطابع الزائل لهذا التأثير هو جوهره.

لقد كان القديسون قادرين على التحول لأنهم فكروا وتصرفوا في سياق طويل الأمد- أبدِيٍّ في واقع الأمر. لقد تخلصوا من الخوف وانعدام الثقة عن طريق تفكيك الهوس باللحظة المباشرة. وقد يدرك منظرو اللعبة المعاصرون فعالية هذا النهج في استخدامه للتكرار لإعادة صياغة وجهات النظر. ويتعين علينا أن نستعيد القدرة على الرؤية إلى ما هو أبعد من المدى القصير إذا كنا نريد الخروج من مستنقع اليأس الذي نعيشه اليوم.

* هارولد جيمس، أستاذ التاريخ والشؤون الدولية بجامعة برينستون، وهو زميل أقدم في مركز الابتكار الدولي للحكم ومتخصص في التاريخ الاقتصادي الألماني والعولمة، ومؤلف مشارك لكتاب: اليورو ومعركة الأفكار ومؤلف كتاب إنشاء وتدمير القيمة: دورة العولمة
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق