هناك أيضاً مخاطرة أن يقرر حزب الله نفسه فتح جبهة ثانية. يذكر أشخاص مقربون من الحزب “خطين أحمرين” يمكن أن يؤدي تجاوزهما إلى مثل ذلك التحرك: الأول، إذا قامت إسرائيل بالتهجير القسري لعدد كبير من سكان غزة إلى مكان آخر خارج القطاع وتبدو مصر المقصد الوحيد المحتمل والثاني...
بقلم: هيكو ويمن
حتى الآن، لا تزال تبادلات إطلاق النار بين حزب الله وإسرائيل في تشرين الأول/أكتوبر ضمن الخطوط الحمر للطرفين. لكن مع قرب احتمال حدوث غزو بري لقطاع غزة، فإن المخاطر كبيرة جداً. وفي حين أن وقفاً لإطلاق النار أمر غير محتمل، فإنه يبقى السبيل الوحيد لتجنب حرب أوسع.
منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر، اليوم الثاني لحرب غزة المتصاعدة، تبادل حزب الله وإسرائيل نيراناً متفرقة عبر الحدود اللبنانية–الإسرائيلية. حتى الآن، يبدو الطرفان حريصين على الالتزام بـ “قواعد اللعبة” القائمة – وهي تفاهمات غير مكتوبة حول الخطوط الحمر التي لا ينبغي لأحدهما أن يتجاوزها – لتجنب حدوث تصعيد. إلا أن الأمور يمكن أن تصبح مميتة في أي لحظة. فقد أطلق مسلحون فلسطينيون يعملون على الأراضي اللبنانية صواريخ على إسرائيل وحاولوا اختراق الحدود، الأمر الذي استدعى قصفاً إسرائيلياً تسبب بوقوع قتلى، ما دفع حزب الله إلى الرد. في حال حصول اشتباكات إضافية تؤدي إلى سقوط قتلى إسرائيليين، على نحو يثير رداً إسرائيلياً كبيراً، فإن الحزب الإسلامي الشيعي سيكون في موقف صعب للغاية.
على صعيد منفصل، فإن العمليات الإسرائيلية الجارية في غزة قد تتجاوز حدوداً تدفع حزب الله إلى دخول الصراع، الأمر الذي سيحوِّل حرب غزة إلى صراع شرق أوسطي أوسع. ولذلك ينبغي على الجهات الفاعلة الخارجية التي يمكن أن يصغي حزب الله إليها أن تقنع الحزب، وأن تقنع الدول الغربية إسرائيل، بأن فتح جبهة ثانية ليس في مصلحة أحد. في المحصلة، فإن السبيل الوحيد إلى تجنب الانزلاق إلى حرب إقليمية يتمثل في وقف لإطلاق النار في قطاع غزة، مهما بدا ذلك الاحتمال غير مرجح في الوقت الراهن.
حتى الآن، ظل تبادل إطلاق النار ضمن الحدود التي وضعها حزب الله وإسرائيل على مدى سنوات. لم تنشأ قواعد الاشتباك غير المحكمة هذه من خلال نقاشات مفتوحة، بل ترسخت ضمناً من خلال كثير من المناوشات بين الطرفين منذ صراعهما الكبير الأخير في عام 2006. ونظراً لحرص الطرفين على عدم تكرار أهوال تلك الحرب، فإن كليهما بذلا ما في وسعهما على نحو متكرر لتجنب مواجهة مماثلة. إذ يذكر أن إسرائيل بذلت جهوداً لتجنب قتل عناصر من حزب الله عبر الاتصال بهم على هواتفهم المحمولة لتحذرهم من قصف وشيك. ويُزعم أنها مثَّلت وقوع ضحايا بين قواتها لإقناع قوات كوماندوس تابعة لحزب الله بأنها نجحت في تحقيق مهمتها وبات بوسعها الانسحاب. كما أنها تجاهلت ادعاءات أطلقها مراقبون إسرائيليون ودوليون بأن مجموعات فلسطينية تطلق الصواريخ من لبنان تعمل بإيعاز من حزب الله. وقلل حزب الله، من جهته، أحياناً من شدة الضربات الإسرائيلية بحيث لا يشعر بأنه ملزم بالرد؛ وقصر هجماته وهجماته المضادة على مزارع شبعا غير المأهولة، وهي منطقة حدودية تحتلها إسرائيل؛ ولجأ إلى اللغة الخطابية بدلاً من الرد الفعليِ؛ وادعى أنه تلقى “اعتذارات” إسرائيلية على مقتل مقاتليه الذي كان ظاهرياً غير متعمّد.
وقد كان سبب هذه الالتفافات دائماً هو نفسه؛ أي خشية كلا الطرفين من أن حرباً لبنانية أخرى كتلك التي اندلعت عام 2006 ستكون مدمرة جداً، دون آفاق تحقيق مكاسب ملموسة يمكن أن تقترب من تبرير تلك الكلفة. في عام 2006، كانت الخسائر كبيرة – في لبنان، أكثر من ألف قتيل، ونزوح مئات الآلاف وأضرار مادية جسيمة وفي إسرائيل، أكثر من مئة قتيل – وكانت الإنجازات ضئيلة. ويمكن لحرب جديدة أن تكون أسوأ بكثير. فإسرائيل تمتلك القدرة العسكرية على حرق لبنان كله، لكن ترسانة حزب الله التي تحتوي عدة آلاف من الطائرات المسيَّرة و150 ألف صاروخ، هائلة هي الأخرى. في آب/أغسطس، قال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إن الحزب يمتلك أيضاً مخزوناً من صواريخ موجهة بدقة مبرمجة لضرب جميع المراكز الرئيسية للبنية التحتية المتطورة جداً في إسرائيل. كان ذلك جزءاً من مبارزة خطابية قال فيها وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت أن إسرائيل ستقصف لبنان حتى تعيده “إلى العصر الحجري” في حالة وقوع صراع آخر. وكان الغرض من هذه البيانات واضحاً؛ فكل طرف كان يحذّر الطرف الآخر من عدم التفكير بتكرار ما حدث في عام 2006.
تشير الأحداث منذ بداية حرب غزة إلى أن نمط الردع المتبادل مستمر. ففي 8 تشرين الأول/أكتوبر، أطلق حزب الله رشقة صواريخ على قاعدة عسكرية إسرائيلية في مزارع شبعا، فيما وصفه رئيس المجلس التنفيذي لحزب الله هاشم صفي الدين بأنه “رسالة تحية، وشكر وتقدير” لحماس على هجومها المميت في إسرائيل. كما دعا إسرائيل “للتفكير بعمق في رسالة المقاومة“. إحدى قواعد الاشتباك الجوهرية بين إسرائيل ولبنان هي أن ما يحدث في مزارع شبعا يبقى فيها – أي إنها ساحة مقبولة لتبادل إطلاق النار. فالمنطقة غير مأهولة، الأمر الذي يلغي احتمال وقوع ضحايا مدنيين. علاوة على ذلك، فبتأجيل “تحيته“، في هذه الحالة لـ 24 ساعة كاملة بعد هجوم حماس، ضَمِن حزب الله بشكل معقول أن يكون جميع الجنود الإسرائيليين الذين يخدمون في القاعدة يجلسون محميين جيداً في ملاجئهم. وثبت أن ذلك صحيح؛ إذ ذكرت إسرائيل عدم إصابة أحد.
كان الحادث الثاني مقلقاً أكثر، لكن يبدو أن تداعياته احتُويت أيضاً. ففي 9 تشرين الأول/أكتوبر، دفعت سلسلة من محاولات التسلل عبر الحدود إسرائيل إلى إطلاق وابل من نيران المدفعية على مناطق مجاورة على الجانب اللبناني من الحدود. أنكر حزب الله صراحة ضلوعه في هذه المحاولات، في حين اعترف مسلحون فلسطينيون بالمشاركة ببعضها. امتنعت إسرائيل عن اتهام حزب الله بالمشاركة في أي منها. لكنها قصفت برج مراقبة يستعمله مقاتلو حزب الله، فقتلت ثلاثة منهم – وهو استفزاز قد يعدُّه الحزب انتهاكاً لخطوطه الحمر في ظروف معينة.
بعد ذلك، وطبقاً لوسائل إعلام حليفة لحزب الله، نقلت إسرائيل رسالة إلى الحزب، عبر اليونيفيل، بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان، تقول إنها اعتقدت أن حزب الله كان قد نقل مقاتليه من المواقع الحدودية. رغم أن من المستحيل تأكيد هذا الادعاء، فإنه يشبه ادعاءات أخرى أطلقتها وسائل إعلام مرتبطة بالحزب بشأن اشتباكات حدودية سابقة. إذا كان الادعاء صحيحاً، فإنه يشير إلى جهد إسرائيلي جاد لخفض التصعيد، يبدو أن حزب الله استقبله جيداً؛ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإنه يُظهر أن حزب الله قادر على صياغة سرديات تسمح له بتقييد رده العسكري دون فقدان ماء الوجه.
في كلتا الحالتين، كان رد حزب الله محدوداً فعلاً، حيث قصف قاعدتين إسرائيليتين قرب الحدود بعد هبوط الظلام بوقت قصير وعربات عسكرية إسرائيلية في اليوم التالي. هذه المرة، كان هناك ضحاياً، حيث قتل جندي إسرائيلي وأصيب آخر. مع تساوي عدد القتلى والجرحى تقريباً، يبدو أن الطرفين قرَّرا اعتبار المواجهة منتهية. المهم في الأمر أنه في كلتا الحالتين أعلن حزب الله أنه كان قد استعمل صواريخ موجهة، في إشارة إلى أنه كان يحاول تجنب وقوع أضرار جانبية. محاولة تسلل أخرى في 13 تشرين الأول/أكتوبر تسببت مرة أخرى بردٍ بنيران المدفعية الإسرائيلية، حيث أصابت بعض القذائف مجموعة من الصحفيين، فقتلت واحداً وجرحت اثنين. مرة أخرى، اقتصر رد حزب الله على قصف مواقع عسكرية قرب الحدود.
رغم ذلك، فإن الوضع على الحدود خطير جداً. إذ يمكن للمزيد من عمليات التسلل من قبل مجموعات فلسطينية أن تحدث تصعيداً عالي المخاطرة. قد يحاول حزب الله النأي بنفسه عن مثل تلك العمليات، إلا أن الحزب يتمتع بعلاقات موثَّقة بشكل جيد مع حركتي حماس والجهاد الإسلامي، اللتان أعلنتا مسؤوليتهما عن محاولات التسلل في تشرين الأول/أكتوبر حتى الآن. خلال حرب غزة عام 2021، أنشأت المجموعات غرفة عمليات مشتركة، سمحت للمجموعات الفلسطينية بالاستفادة من المعلومات الاستخبارية التي يجمعها حزب الله، وكذلك خبرته اللوجستية والتكتيكية. في مطلع أيلول/سبتمبر، اجتمع نصر الله مع نائب قائد حماس صالح العاروري وقائد الجهاد الإسلامي زياد النخالة، وتعهدا بالدعم المشترك والتنسيق اليومي. من منظور تكتيكي، قد تعتبر إسرائيل أبراج المراقبة التي يشغلها عناصر من حماس تهديداً عسكرياً، في وقت يحاول فيه حلفاء حزب الله المقربون التسلل إلى إسرائيل. لكن من منظور إستراتيجي، إذا دمرت إسرائيل مثل تلك الأبراج أو منشآت أخرى لحزب الله في كل مرة تحدث محاولة تسلل، فإن الحزب قد يقرر أن إبلاغ حلفائه بالتوقف سيكون في مصلحته.
تحمل الصواريخ التي تطلقها مجموعات فلسطينية إلى شمال إسرائيل مخاطرة تصعيد كبير آخر. على عكس حزب الله، تستعمل هذه المجموعات قذائف غير موجهة، دون سيطرة تقريباً على مكان وقوعها. في نيسان/أبريل، سقطت صليات مكونة من 34 صاروخاً من هذا الطراز قرب مركز تسوُّق وروضة أطفال في شمال إسرائيل. لحسن الحظ، كانت هاتان المنشأتان مقفلتين بسبب عطلة يهودية؛ في حين أن الفنادق والمطاعم الموجودة على بعد مسافة قصيرة – والتي كانت محجوزة بالكامل بسبب نفس العطلة – لم تُصَب. إلا أن مثل هذا الحظ الجيد قد لا يستمر في النهاية. إذا ضرب صاروخ هدفاً حساساً – لنقل روضة أطفال – فإن الحكومة الإسرائيلية ستتعرض لضغط كثيف للرد بقوة. في هذه الظروف، قد تقرر توجيه ضربة إلى ما ترى فيه الطرف الذي يمكِّن هذه المجموعات من العمل، أي حزب الله، إضافة إلى المنفذين الفعليين للعمل. وكلما ارتفع عدد القذائف التي يتم إطلاقها، كلما ارتفع احتمال وقوع كارثة.
هناك أيضاً مخاطرة أن يقرر حزب الله نفسه فتح جبهة ثانية. يذكر أشخاص مقربون من الحزب “خطين أحمرين” يمكن أن يؤدي تجاوزهما إلى مثل ذلك التحرك: الأول، إذا قامت إسرائيل بالتهجير القسري لعدد كبير من سكان غزة إلى مكان آخر خارج القطاع – وتبدو مصر المقصد الوحيد المحتمل – والثاني، إذا مضت إسرائيل قُدماً في غزو بري يهدف إلى تدمير حماس على نحو كامل.
الخط الأحمر الأول قد يتعرض للاختبار قريباً. ففي الساعات الأولى من 13 تشرين الأول/أكتوبر، ألقت إسرائيل مناشير في قطاع غزة تبلغ السكان في جزئه الشمالي، الذي يشكل نحو 40 بالمئة من القطاع ويقطنه 1.1 مليون نسمة، بضرورة إخلائه والهرب جنوباً. من المرجح أن تؤدي مثل هذه الحركة الهائلة للسكان، وسط عمليات قصف وهجوم بري محتمل، وحصار يمنع دخول أية إمدادات، وانهيار كامل للخدمات، إلى خلق كارثة إنسانية ذات أبعاد هائلة. طُلب من مصر فتح حدودها أمام هذا السيل الجديد من اللاجئين، وهو طلب ترفض حتى الآن قطعياً النظر فيه. وقد يعتبر حزب الله وحلفاؤه هذه الأحداث دليلاً على أن هدف إسرائيل هو طرد أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين. أما بالنسبة للخط الأحمر الثاني الذي وضعه حزب الله، فإن تدمير حماس هو الهدف الرسمي للمجهود الحربي الإسرائيلي – وفي هذا الوقت يبدو أنه يحظى بمصادقة الولايات المتحدة.
في هذه الحالة، ما الذي ينبغي على المرء استنتاجه من هذه الخطوط الحمر المعلنة؟ من المرجح أن المقصود من الإشارات الصادرة عن حزب الله بأن أياً من السيناريوهين يمكن أن يفضي إلى حرب تهدف إلى ردع إسرائيل عن المضي على هذا الطريق، وتضيف درجة من الإلحاح إلى جهود الوساطة الجارية من خلال قطر. لكن لا ينبغي تجاهلها على أنها مجرد كلام؛ فمن الواضح أن حزب الله وإيران استثمرا كثيراً من الوقت والمال في تعزيز قدرات حماس، بهدف تحويلها إلى عضو فعال في التحالف الذي شكلاه، أو ما يسميانه “محور المقاومة”. ستكون خسارة هذا الاستثمار انتكاسة وسابقة سيسعى الطرفان إلى تجنب حدوثها. إن التراجع في الوقت الذي يتم فيه إخراج جزء آخر من سكان فلسطين التاريخية من البلاد سيفرغ شعارات “المحور” من محتواها، بالنظر إلى أن الأجندة الأيديولوجية للتحالف قائمة جزئياً على الالتزام بالقضية الفلسطينية. ويمكن أن يوهن ذلك ولاء القاعدة السياسية لأعضاء “المحور“.
إن فتح جبهة ثانية لن يؤدي مباشرة بالضرورة إلى حرب شاملة يحاول حزب الله وإسرائيل عدم إشعالها منذ عام 2006. بدلاً من ذلك، قد يقرر حزب الله أن يرفع درجة الحرارة تدريجياً لرفع تكاليف الصراع على إسرائيل. قد يحسب أن إسرائيل، مع انشغالها في غزة، ستتساهل مع استفزازات صارخة أكثر مما حدث حتى الآن لمنع حدوث تكرار لحرب عام 2006. لقد جادل حزب الله منذ وقت طويل بأن حرباً شاملة مع إسرائيل من المرجح أن تتسع إلى صراع إقليمي لا يستطيع أحد تحمّله، ولا حتى الولايات المتحدة. قد يتخيل قادة الحزب – عن حق أو غير حق – أن أي تحرك في ذلك الاتجاه سيدفع قوى أخرى، بما في ذلك روسيا أو الصين، لبذل جهود أكثر حزماً لمنع حدوث مزيد من التصعيد، الأمر الذي سيحرج واشنطن.
من الواضح أن مثل هذا المسار ينطوي على مخاطرة، إلا أن الثقة التي أظهرها حزب الله في السنوات الأخيرة تجعل الأمر يبدو وكأن من الممكن أن يتخلى الحزب عن “قواعد اللعبة” ويغامر في الدخول إلى المجهول. حتى الآن، تبدو آفاق خفض التصعيد في غزة ضئيلة. في حين أن لإسرائيل الحق بالرد عسكرياً على هجمات حماس، فإن المهمة الأكثر إلحاحاً بالنسبة للساعين إلى منع تدهور الوضع أكثر تتمثل في الدفاع بقوة أكبر عن مبادئ القانون الدولي الإنساني.
ثم، وفي أقرب وقت ممكن، ستتمثل الطريقة الأكثر فعالية لمنع الحرب من إشعال مواجهة إقليمية أوسع في تعزيز جهود الوساطة الرامية إلى التوصّل إلى شكل من وقف إطلاق النار وتـأمين إطلاق سراح الرهائن والسجناء الإسرائيليين الذين تحتجزهم حماس.
اضف تعليق