إعادة انتخاب أردوغان من المرجح أن تعني أنه لن يتغير الكثير في السياسة التركية حيال سورية. بالنسبة للسوريين الذين كانت تنتابهم مخاوف بشأن تبعات فوز المعارضة، فإن فوزه سيكون مصدر ارتياح. من جهة أخرى، فإن أولئك الذين يدعمون النظام أو قوات سورية الديمقراطية ليس لديهم كثير من مبررات...
منذ بدأت الانتفاضة السورية عام 2011، انجرّت أنقرة على نحو أعمق وأعمق إلى الأزمة. من المرجح أن تنزع مقاربتها الآن إلى الثبات. إلّا أن الخيارات التي تتبناها من الآن فصاعداً سيكون لها انعكاسات مهمة على مصير ملايين السوريين.
لقد هدّأت إعادة انتخاب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مخاوف كثير من السوريين من أن سياسة أنقرة حيال دمشق قد تتغير بشكل جذري على حسابهم. مع وجود القائد التركي القوي في السلطة لخمس سنوات أخرى، فإن أنقرة عازمة على إبقاء قواتها في أجزاء من شمال سورية. كما يبدو من المرجح أن أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ سوري في تركيا سيظلون على الأغلب موجودين هناك، على الأقل في الوقت الحاضر. لقد تحدثت أنقرة إلى دمشق بشأن استئناف العلاقات التي قُطعت عندما اندلعت الحرب، وستستمر في فعل ذلك، إلّا أن حكومة أردوغان الجديدة فيها كثير من المسؤولين الذين يرون وجود عدد من الهواجس الأمنية القومية منشؤها الجار الجنوبي، بحيث تصعب المخاطرة بتحوّل متهور في المقاربة.
بالنسبة للاجئين، إضافة إلى الملايين الذين جرى تهجيرهم في شمال سورية، فإن استمرار الوضع الراهن يمنع، أو على الأقل يؤجل، الاضطراب الذي يمكن أن يسببه تغيير في السياسة التركية. إلّا أنه يبقي أيضاً هؤلاء السوريين في وضع قلق وهش، ويتركهم عرضة لتقلبات حرب تسعى أطرافها، بما في ذلك تركيا، إلى تحقيق أهداف لا يمكن غالباً التوفيق فيما بينها، وتفتقر إلى إستراتيجيات واضحة لتحقيق تلك الأهداف.
يدخل أردوغان فترته الرئاسية الثالثة من موقع قوي، لكنه يواجه عدداً كبيراً من التحديات. إذ تواجه تركيا تراجعاً اقتصادياً يفرض قيوداً سياسية جديّة على مقاربة تركيا السخيّة حيال اللاجئين السوريين. وستساعد موافقة أنقرة في تموز/يوليو على التوقف عن معارضة انضمام السويد إلى حلف شمال الأطلسي على تحسين علاقاتها داخل الحلف. إلّا أن التوترات مع الولايات المتحدة ما تزال قائمة، بما في ذلك بشأن شراء تركيا لأنظمة دفاع صاروخية روسية، وأيضاً بشأن اختيار واشنطن لقوات سورية الديمقراطية ذات القيادة الكردية كشريك رئيسي لها في الحملة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سورية. كما أن علاقات تركيا الحرجة مع روسيا تتطلب أيضاً إعادة معايرة مستمرة، جزئياً بسبب الطريق المسدود الذي وصلت إليه أنقرة في علاقتها مع حليف موسكو في دمشق.
،، بصفتها جارة سورية، فإن رهانات تركيا أكبر بكثير من رهانات معظم الدول العربية التي تحركت لاستعادة علاقاتها مع دمشق ،،
تشكل الحرب في سورية على وجه الخصوص جملة معقدة من المخاطر والفرص بالنسبة لأنقرة. فتركيا تتشارك حدوداً طولها 900 كم مع سورية وتستضيف نحو 3.3 مليون لاجئ سوري. وعلى مدى أربعة عقود، كانت في حالة صراع مع حزب العمال الكردستاني، الذي قاتل فرعه في الشمال الشرقي، وقوات سورية الديمقراطية، تنظيم الدولة الإسلامية بدعم أميركي ويسيطر الآن على جزء من المنطقة؛ وإضافة إلى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، فإن تركيا تعتبر حزب العمال الكردستاني تنظيماً إرهابياً. واثنتان من دعائم سياستها في الأمن القومي تتمثلان في منع تدفق المزيد من اللاجئين من بين ما يقارب خمسة ملايين مهجَّر يعيشون في وضع قلق في شمال غرب سورية، وإضعاف سيطرة قوات سورية الديمقراطية (وبالتالي حزب العمال الكردستاني) على الشمال الشرقي، إن لم يكن وضع حد نهائي لها. بصفتها جارة سورية، فإن رهانات تركيا أكبر بكثير من رهانات معظم الدول العربية التي تحركت لاستعادة علاقاتها مع دمشق. وتبقى متشككة بعمق من أن نظام بشار الأسد سيكون مستعداً لمعالجة هذين الهاجسين، أو قادراً على معالجتهما بشكل يرضيها.
منذ بداية الانتفاضة الشعبية السورية في عام 2011، وعلى مدى الحرب الأهلية التي تبعتها، سارت تركيا على حافة سكين من السياسات قصيرة الأجل التي عمَّقت من انخراطها في الصراع. كحال العديد من القوى الغربية، فإن أنقرة تبنّت موقفاً حازماً ضد الأسد في البداية، فدعمت المتمردين في محاولة للإطاحة بالزعيم السوري. لكن لاحقاً، وعندما اتضح أن الأسد سيبقى، جعلت من الهدفين المذكورين آنفاً أولوية لها. فمن أجل كبح جماح قوات سورية الديمقراطية، شنت أنقرة أربعة توغلات في سورية منذ عام 2016. وتوجه ضربات منتظمة بالطائرات المسيَّرة على أهداف لقوات سورية الديمقراطية، وتهدد بشكل متكرر بالمزيد من التدخل لملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني في سورية، الذي تعتقد أن واشنطن وموسكو تجاهلته.
مع انتشار ما يقدر بـعشرة آلاف جندي في الأجزاء الثلاثة من الشمال السوري، فإن تركيا صعَّدت وجودها بحيث أصبحت لاعباً مؤثراً جداً وقادراً على تشكيل اتجاه الصراع. دمشق تَعدُّ تركيا قوة محتلة، وكذلك قوات سورية الديمقراطية، لأسبابها الخاصة، بينما يعتبر ملايين المهجَّرين السوريين الجيش التركي القوة العازلة الوحيدة بينهم وبين نظام وحشي. يسمح وجود القوات التركية في إدلب، وهي محافظة تقع في شمال غرب سورية، لأنقرة بالالتزام بوقف لإطلاق النار تفاوضت عليه مع روسيا عام 2020، وهو الذي حمى ملايين الناس وأوقف تدفق اللاجئين. كما أنه سمح لهيئة تحرير الشام، الفرع السابق للقاعدة والذي ما يزال مصنَّفاً تنظيماً إرهابياً من قبل الأمم المتحدة وكثير من الدول، بتعزيز سيطرتها على المنطقة. في شمال حلب، يشرف الجيش، والشرطة وأجهزة المخابرات التركية على مجموعة من الفصائل السورية تسمَّى الجيش الوطني السوري، الذي يُتَّهم على نطاق واسع بالفساد والإجرام. وإلى الشرق، تسيطر أنقرة على مناطق انتزعتها من قوات سورية الديمقراطية في عامي 2018 و 2019. وتنخرط على نحو متكرر بتبادل لإطلاق النار مع المجموعة.
لا يحظى الانتشار العسكري التركي في سورية ولا وجود ملايين اللاجئين السوريين بالشعبية في تركيا. فالاقتصاد المتردي للبلاد، إضافة إلى العداء المدفوع قومياً حيال اللاجئين، نجم عنه تضخم في الخطاب المعادي للسوريين خلال الحملات التي جرت في شهر أيار/مايو للانتخابات الرئاسية والبرلمانية. فأردوغان وخصمه الرئيسي، كمال كيلجدار أوغلو، تحدثا عن إعادة اللاجئين إلى سورية في حملاتهما الانتخابية ومضت أحزاب المعارضة التركية إلى حد الوعد بتطبيع العلاقات مع الأسد من أجل تسهيل عودة اللاجئين وتقليص الانخراط العسكري التركي في سورية. جزئياً من أجل إفراغ تلك الحجج من محتواها، بدأ أردوغان نفسه بإطلاق مبادرات علنية نحو دمشق في منتصف عام 2022، وشارك في سلسلة من النقاشات التي استضافتها روسيا، وحضرتها لاحقاً إيران. دقَّت محاولته المتصوَّرة لإصلاح العلاقات مع النظام السوري ناقوس الخطر وسط السوريين سواء في تركيا أو في شمال سورية، الذين شعروا بالخوف من أن يقعوا ضحية لصفقة بين أنقرة ودمشق.
يبدو أن إعادة انتخاب أردوغان قد ألغت مؤقتاً حاجته للمضي قدماً بمحادثاته الجوهرية مع دمشق. إلّا أن الانتخابات البلدية في عام 2024، التي يُتصوَّر أنها تحمل رهانات كبرى بالنسبة للرئيس ولخصومه، ستبقي سياسته حيال سورية تحت الأضواء على مدى الأشهر القادمة. إذ يبقي الوضع الراهن بعض الأسئلة الرئيسية بشأن انخراط تركيا في سورية دون رد، بما في ذلك مستقبل المتمردين الذين تدعمهم والمناطق التي تسيطر عليها. لقد ردع انتشار القوات التركية في شمال غرب سورية شن المزيد من هجمات النظام وبالتالي عزز – في الوقت الراهن على الأقل – استقلال هذه المناطق بحكم الأمر الواقع عن دمشق. باتت أنقرة مقتنعة الآن، وهي محقة، بأن إنهاء دورها الرادع وتمكين قوات النظام من العودة من المرجح أن يدفعا عدداً أكبر من اللاجئين إلى التوجه إلى تركيا، الأمر الذي ستترتب عليه تداعيات سياسية محلية هائلة. إن استمرار السيطرة على هذه المناطق إلى ما لا نهاية مكلف سياسياً ومالياً، لكن يمكن القول إنه أقل كلفة من البديل من وجهة نظر الحكومة التركية.
كما أن قتال تركيا ضد قوات سورية الديمقراطية اقتصر أيضاً على إجراءات مؤقتة. فقد قتلت الضربات بالطائرات المسيَّرة في شمال شرق سورية عدداً من كوادر قوات سورية الديمقراطية، يرتبط كثيرون منهم بعلاقات مع حزب العمال الكردستاني، الذي تلاحقه أنقرة منذ سنوات. إلّا أن أياً من عملياتها العسكرية لم تُضعف قبضة التنظيم على المنطقة أو تقلص وصولها إلى الموارد الإستراتيجية، والنفط أكثرها أهمية. نجم عن الضربات، أحياناً، وقوع ضحايا بين المدنيين، الأمر الذي يُحدث رد فعل دولي. علاوة على ذلك، فإن بعض الصواريخ سقطت وبشكل مثير للرعب بالقرب من القوات الأميركية في سورية والعراق، الأمر الذي فاقم توتر العلاقات بين أنقرة وواشنطن. إن عملية برية تركية محتملة هدد أردوغان بشكل متكرر بشنها، من المرجح ألّا تحقق أكثر من دفع مقاتلي قوات سورية الديمقراطية وحزب العمال الكردستاني بضعة كيلومترات أخرى بعيداً عن الحدود.
لقد تواصلت أنقرة بشكل متكرر مع دمشق، وتحدثت بهدوء مع المسؤولين الأمنيين في النظام جزئياً لاختبار وسائل معالجة ما ترى فيه أنقرة هواجسها الأمنية الرئيسية. ويقول المسؤولون الأتراك والسوريون إن المحادثات ركزت على وسائل منع تمدد قوات سورية الديمقراطية في شمال شرق سورية، وهي مسألة يمكن الافتراض أن بوسع الطرفين العثور على أرضية مشتركة حيالها. ثم، في منتصف عام 2022، بدأت القيادة التركية بإرسال إشارات علنية على أنها مستعدة للتصالح مع نظام الأسد، جزئياً لأسباب انتخابية، لكن أيضاً استجابة لطلبات من روسيا، وإيران والعراق. وأخيراً اجتمع كبار دبلوماسي البلدين في موسكو في مطلع أيار/مايو التالي، إضافة إلى نظرائهما الروس والإيرانيين، لكنهم أخفقوا في الاتفاق على خطوات ملموسة للتقدم إلى الأمام.
لكن حتى مع استمرارها في المشاركة في هذه الاجتماعات، فإن أنقرة أشارت إلى أنها تبقى متشككة من أن دمشق ستكون مستعدة – أو قادرة – على معالجة هواجسها الرئيسية. فهي ما تزال غير مقتنعة، على سبيل المثال، بأن النظام يستطيع استعادة المناطق في الشمال الواقعة حالياً تحت الحماية التركية دون التسبب بهروب ملايين السوريين عبر الحدود، ناهيك عن العودة الآمنة للاجئين الموجودين أصلاً في تركيا. مسؤول تركي رفيع أخبر مجموعة الأزمات في كانون الثاني/يناير أنه: “كل كيلو متر تستعيده دمشق يرسل آلاف اللاجئين باتجاهنا“. كما أن أنقرة متشككة أيضاً في أن دمشق قادرة على منع هجمات حزب العمال الكردستاني من شمال شرق سورية إذا سحبت تركيا قواتها ووضعت حداً لضرباتها الجوية. تشك القيادة التركية بقدرة دمشق على تأسيس أكثر من مظهر شكلي لوجود الدولة في الشمال الشرقي، الأمر الذي سيترك قوات سورية الديمقراطية في موقع السيطرة لمختلف الأهداف والغايات. ومن ثم فإن عودتها يمكن أن تعزز شرعية قوات سورية الديمقراطية بدلاً من كبح جماح التنظيم. ولهذا السبب، فإن أنقرة ترفض رفضاً قطعياً مناقشة الشرط المسبق الذي تضعه دمشق لتطبيع العلاقات – وهو انسحاب جميع القوات التركية من الأراضي السورية.
باختصار، فإن إعادة انتخاب أردوغان من المرجح أن تعني أنه لن يتغير الكثير في السياسة التركية حيال سورية. بالنسبة للسوريين الذين كانت تنتابهم مخاوف بشأن تبعات فوز المعارضة، فإن فوزه سيكون مصدر ارتياح. من جهة أخرى، فإن أولئك الذين يدعمون النظام أو قوات سورية الديمقراطية ليس لديهم كثير من مبررات الاحتفال. إذ ستبقى أولويات أنقرة في سورية، وهي معالجة التهديد الذي تتصوره من قوات سورية الديمقراطية ومنع هجوم للنظام في إدلب، الذي سيدفع المزيد من المهجرين نحو تركيا، هي نفسها. علاوة على ذلك، يبدو من غير المرجح أن أردوغان، حتى بعد إعادة انتخابه، سيضع رؤية بعيدة المدى للسياسة التركية حيال سورية، بالنظر إلى انعدام اليقين بشأن ما ستبدو عليه نهاية اللعبة في سورية ولأن تركيا، مهما بلغ نفوذها، ليست اللاعب الوحيد أو حتى الأكثر أهمية في تحديد ذلك. ومن ثم، فإن اللاجئين والمهجرين السوريين سيظلون، بشكل ما في وضع معلَّق.
رغم أن أنقرة لن تُظهر ربما ميلاً كبيراً إلى تغيير سياستها، فإنه سيكون من المهم اختبار ما إذا كانت تستطيع تحقيق بعض أهدافها، ولا سيما فيما يتعلق بقوات سورية الديمقراطية، من خلال الوسائل الدبلوماسية في سورية. كما تظهر التجربة الأميركية على مدى عقدين من “الحرب على الإرهاب“، فإن الوسائل العسكرية وحدها نادراً ما تحل المشاكل السياسية. ولذلك، لا تستطيع تركيا أن تأمل بحل مشكلتها في شمال شرق سورية بتوسيع المناطق التي تسيطر عليها دون رؤية بعيدة المدى وقابلة للتصديق بالنسبة لهذه المناطق. في الوقت الراهن، ستستفيد من وضع شروط للحد من التوترات، ولا سيما إذا اتخذت قوات سورية الديمقراطية أيضاً خطوات لخفض التصعيد، على سبيل المثال بتقليص وجود حزب العمال الكردستاني في شمال شرق سورية أو بوقف هجماتها على المناطق التي تسيطر عليها تركيا في الشمال السوري.
جدير بالذكر أن أردوغان ورئيس مخابراته حقان فيدان، وزير الخارجية في الحكومة الجديدة، هما اللذان جلسا أولاً مع حزب العمال الكردستاني في أواخر عام 2012 للتفاوض على طريقة سلمية لإنهاء الصراع. الآن، وبعد أن أصبحت حملة إعادة انتخابه وراءه وتراجع حزب العمال الكردستاني عسكرياً، فإن الرئيس التركي قد ينظر إلى اللحظة الراهنة على أنها مواتية لتحقيق شكل من أشكال التهدئة مع قوات سورية الديمقراطية.
لا بد من الانتظار لرؤية ما سيفعله أردوغان، لكن في جميع الأحوال، فإن الخيار الذي تتخذه أنقرة سيساعد في تحديد مسار الصراع السوري، وكذلك مصير ملايين السوريين الذين يعيشون في تركيا وفي الأجزاء من سورية التي يحميها الجنود الأتراك إلى هذه الدرجة أو تلك.
https://www.crisisgroup.org/
اضف تعليق