لكن الدوافع الشعبوية والقومية تُـفضي على نحو شبه دائم إلى سياسة رديئة. فشعار "اشتر الأميركي" لن يخلق الوظائف؛ بل لن يؤدي إلا إلى زيادة التكاليف التي تواجه دافعي الضرائب وتقليل عدد مشاريع البنية الأساسية. كما أن فرض ضريبة على عمليات إعادة شراء الأسهم لن يؤدي إلى تحفيز الاستثمار...
بقلم: مايكل آر سترين
واشنطن، العاصمة ــ في الاستجابة للأزمة المالية التي اندلعت عام 2008، تصاعدت النزعة الشعبوية. على اليسار السياسي في الولايات المتحدة، أشارت حركة "احتلوا وال ستريت"، والمخاوف المبالغ فيها بشأن التفاوت في الدخل، وحملة بيرني ساندرز الرئاسية التمهيدية القوية على نحو غير متوقع في عام 2016، إلى تحول كبير بعيدا عن السياسات الأكثر وسطية من حقبة ما قبل الركود العظيم. وعلى اليمين بطبيعة الحال، امتطى دونالد ترمب موجة من المظالم الشعبوية، وكراهية الأجانب، والنزعة القومية للفوز بالبيت الأبيض.
على وعد بالعودة إلى الحالة الطبيعية، تغلب جو بايدن على منافسه ساندرز في انتخابات الحزب الديمقراطي الرئاسية التمهيدية في عام 2020، ثم تمكن من هزيمة دونالد ترامب في الانتخابات العامة. مع ذلك، في خطاب حالة الاتحاد لعام 2023 ــ الذي يجب أن يُـنـظَـر إليه على أنه خريطة الطريق لحملة إعادة انتخابه المحتملة ــ أبدى بايدن أيضا قدرا وافرا من الشعبوية. على الرغم من تمكنه من إلحاق الهزيمة بالرئيس الشاغل للمنصب في عام 2020 ــ وهو إنجاز غير مألوف في تاريخ الولايات المتحدة ــ يبدو أن بايدن يعتقد أن انتخابات 2024 ستنتهي إلى منافسة بين ترمب وساندرز.
لنتأمل هنا مواقف بايدن من أربع قضايا رئيسية.
أولا، دعا إلى سياسات "اشتر الأميركي" في إدارة العقود الحكومية، ودافع عن عمال التصنيع المحليين، وانتقد الإدارات السابقة لتقاعسها عن القيام بالقدر الكافي من العمل على هذه الجبهة. ثم أعلن عن "معايير جديدة تقضي بأن تكون كل مواد البناء المستخدمة في مشاريع البنية الأساسية الفيدرالية" ــ من الأخشاب، والزجاج، وألواح تغطية الجدران الداخلية، إلى كابلات الألياف الضوئية ــ "مصنوعة في أميركا"، قائلا: "طوال وجودي في السلطة، ستشيد الطرق الأميركية، والجسور الأميركية، والطرق السريعة الأميركية بمنتجات أميركية".
ثانيا، أيد بايدن "العدد غير المسبوق من الأفراد العاملين لتأمين الحدود، الذين اعتقلوا 8000 من مهربي البشر وصادروا أكثر من 23 ألف رطل من عقار الفينتانيل في غضون الأشهر القليلة الأخيرة فقط". ثم حث الكونجرس على إقرار "خطته لتوفير المعدات والضباط لتأمين الحدود".
ثالثا، استخدم بايدن لهجة متشددة في التعامل مع الصين، زاعما أن الولايات المتحدة أصبحت الآن "في أقوى وضع منذ عقود من المنافسة مع الصينيين". وأَكَّـدَ أن "الفوز بالمنافسة مع الصين يجب أن يوحدنا جميعا".
أخيرا، انتقد بايدن الجمهوريين بزعم أنهم يرغبون في خفض الإنفاق على برنامج المساعدة الطبية لكبار السِـن (Medicare) والضمان الاجتماعي، وبالتالي عَـرَضَ نفسه باعتباره حاميا لهذه البرامج، معلنا: "إذا حاول أي شخص قطع الضمان الاجتماعي، فسوف أمنعه. وإذا حاول أي شخص قطع برنامج المساعدة الطبية لكبار السن، فسوف أوقفه".
لن يجد بايدن أي معارضة من جانب ترمب بشأن أي من هذه القضايا.
بطبيعة الحال، سوف يعترض الرئيس وفريقه على أي مقارنة بينه وبين سلفه. وقد يشيرون إلى أن بايدن، إلى جانب الدعوة إلى زيادة الأمن على الحدود، دعا أيضا إلى إيجاد مسار لتمكين مهاجرين بعينهم من الحصول على الجنسية. أما ترمب فقد شيطن المهاجرين وقيد أعدادهم. قد يشيرون أيضا إلى أن الموقف السائد في دوائر الحزب الديمقراطي كان دوما تفضيل عدم خفض الإنفاق المتوقع في المستقبل على الضمان الاجتماعي وبرنامج المساعدة الطبية لكبار السن ــ حتى برغم أن الرئيس باراك أوباما كان منفتحا على مثل هذه التخفيضات.
ولكن حتى مع الاعتراف بمثل هذه الفوارق، فإن خريطة الطريق إلى إعادة انتخاب بايدن تتشابه كثيرا، في كل من محيطها ونبرتها، مع نهج القومية الاقتصادية الذي سلكه ترمب.
كما أنها تشترك في كثير مع شعبوية ساندرز اليسارية. لقد لاحَقَ بايدن الشركات الكبرى وأصحاب المليارات لأنهم لا يدفعون "نصيبهم العادل"، وأدان "شركات النفط الضخمة" بسبب أرباحها "الفاحشة". في تحريض "الناس" بشكل مباشر ضد "الـنُـخَـب"، قال بايدن: "أظن أن كثيرين منكم في بيوتهم يتفقون معي على أن نظامنا الضريبي الحالي ظالم ببساطة". ثم دعا إلى فرض "ضريبة الحد الأدنى على أصحاب المليارات" ومضاعفة الضريبة على إعادة شراء الأسهم إلى أربعة أمثالها.
من المؤكد أن قِـلة من السياسات التي سلط عليها بايدن الضوء منطقية. إن تزويد المهاجرين غير الشرعيين الذين دخلوا إلى الولايات المتحدة كأطفال (الذين يسمون بالحالمين) بمسار للحصول على الجنسية في مقابل المزيد من التدابير لتأمين الحدود يجب أن يكون قرارا سهلا لا يحتاج إلى تفكير. على نحو مماثل، أصبح الموقف المتشدد تجاه الصين منطقيا.
لكن الدوافع الشعبوية والقومية تُـفضي على نحو شبه دائم إلى سياسة رديئة. فشعار "اشتر الأميركي" لن يخلق الوظائف؛ بل لن يؤدي إلا إلى زيادة التكاليف التي تواجه دافعي الضرائب وتقليل عدد مشاريع البنية الأساسية. كما أن فرض ضريبة على عمليات إعادة شراء الأسهم لن يؤدي إلى تحفيز الاستثمار؛ بل سيدفع الشركات ببساطة إلى تحويل الأموال النقدية الزائدة نحو مدفوعات الأرباح. ويجب أن يشجع الرئيس المزيد من أصحاب المليارات، بدلا من تأجيج الصراع الطبقي من خلال شيطنة نجاحهم واستهدافهم بمعاملة ضريبية عقابية.
أخيرا، يعرف كل من اطلع على البيانات أن الإنفاق المتوقع في المستقبل على برنامج المساعدة الطبية لكبار السن والضمان الاجتماعي يجب أن يُـخَـفَّـض للإبقاء على استمرار هذه البرامج لصالح كبار السن من ذوي الدخل المنخفض والثروة المنخفضة الذين سيعتمدون على هذه البرامج أكثر من غيرهم. فإذا استمرت الاتجاهات الحالية، سوف يلتهم البرنامجان ــ وأقساط الفائدة على الديون ــ الميزانية الفيدرالية ويتسببان في إبطاء نمو الإنتاجية.
ينبغي للولايات المتحدة أن تتجاوز الشعبوية، والنزعة القومية، و"اقتصاد الشكاية والمظالم". إن توزيع الامتيازات والمحاباة على صناعات وشركات منتقاة، وإنكار الواقع المالي، والانسحاب من العالَـم، وشيطنة الشركات الناجحة والأفراد الناجحين لن يساعد العمال العاديين والأسر النمطية.
ينبغي للحزبين أن يتنافسا على ابتكار أفضل السبل لتعزيز الاقتصاد وزيادة المشاركة في الحياة الاقتصادية. يجب أن ينطلقا من موقف التفاؤل بالمستقبل. ينبغي لهما أن يتقبلا الحقيقة التجريبية التي تؤكد أن العمل الجاد يؤتي ثماره، وأن الأميركيين يملكون القوة والإرادة. يجب على الحزبين أن يرفضا الـفِـكر القائم على الصراع الذي يقود إلى محصلة صفرية والذي تستند إليه أشكال الشعبوية والقومية الاقتصادية كافة.
بايدن ليست ترمب أو ساندرز. لكن تصرفاته تؤذن بحملة إعادة انتخاب ستكون أشبه بهما إلى حد كبير. كان المفترض أن يعمل بايدن على إخراجنا من فصل مثبط بدأ بأزمة 2008. اقلب الصفحة الآن يا سيدي الرئيس.
اضف تعليق