q
خلال الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفيتي حريصًا على عدم مهاجمة أوروبا الغربية والولايات المتحدة بصورة مباشرة (والعكس صحيح). وبدلاً من ذلك، استخدم كلا الجانبين الحروب بالوكالة وغيرها من أساليب الضغط. ولكن هذه المرة، يجب أن نتوقع المزيد من المواجهة المباشرة. إذ وضعت النخبة الروسية نفسها في مأزق...
بقلم: سيمون جونسون

واشنطن العاصمة- بعد عام من المفاجآت الكبرى، على رأسها الغزو الروسي لأوكرانيا، والارتفاع العالمي في معدلات التضخم، وانهيار مشاريع العملات المشفرة، كيف سيكون عام 2023؟ من الصعب الإجابة على هذا النوع من الأسئلة قصيرة المدى، لأن تداعيات الأحداث تنتشر بسرعة كبيرة وغير متوقعة في مختلف أرجاء عالمنا المعولم. ولكن الأشهر الـ12 الماضية أبرزت الاتجاه الرئيسي لما ستؤول إليه الأحداث لاحقا، سواء في عام 2023 أو ما بعده: تراجع روسيا.

إن العدوان الروسي ليس وليد اليوم. فقد بدأت موسكو تغزو دولًا أخرى منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين، واحتلت أجزاء من الأراضي الأوكرانية منذ عام 2014. ولكن وحشية الهجمات الروسية التي استمرت منذ أواخر شهر فبراير/ شباط الماضي تتجاوز بكثير ما هو مقبول لدى معظم الدول. وينظر الكثيرون إلى آخر مرحلة من العدوان، وهي تدمير البنية التحتية للطاقة المدنية، على أنها ترقى إلى مستوى جريمة حرب. ومن المستبعد أن تغير مسار الحرب التي تخسرها روسيا الآن.

وإذا أُخذت الصورة من منظور أكبر، دخلت روسيا مرة أخرى مرحلة من التدهور العلماني، حيث سيكون لديها وصول محدود إلى الاستثمار الغربي، أو التكنولوجيا، أو السلع الاستهلاكية. فقد سبق أن انهارت امبراطوريات روسيا في 1917-1918، ومرة أخرى عندما انهار الاتحاد السوفيتي خلال 1989-1991. وفي كلتا الحالتين، استغرق الأمر بعض الوقت قبل أن ينهار الاتحاد السوفياتي تماماً. ومن المؤكد أنه في الماضي، تمكنت روسيا من فرض سيطرتها باستخدام مواردها الخاصة خلال الحرب الأهلية التي دامت من 1917 حتى عام 1922، وبفضل الدعم الكبير الذي كانت تتلقاه من الشركات الغربية خلال تسعينيات القرن العشرين.

وهذه المرة أيضًا، يجب أن نتوقع صراعًا طويل الأمد على السلطة داخل روسيا، مما ينطوي على مخاطر وجودية تهدد العالم، بما في ذلك طرف الصراع الذي سيسيطر في النهاية على الأسلحة النووية الروسية. ولكن أكثر القطاعات الاقتصادية التي ستتأثر بصورة مباشرة هو سوق الطاقة العالمية.

إن الطلب على الوقود الأحفوري الروسي آخذ في الانخفاض. فقبل أن تغزو روسيا أوكرانيا عام 2022، كانت تنتج نحو 10.8 مليون برميل من النفط يوميًا، وتصدر نحو ثمانية ملايين من المنتوج (إما كمنتجات خام أو مكررة). وسيوفر الانخفاض الحاد في النشاط الاقتصادي الروسي المزيد من النفط الموجه نحو التصدير، لكن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلفاؤهما يشترون الخام الآن من موردين آخرين- وسينطبق الشيء نفسه على المنتجات المكررة ابتداء من شهر فبراير/شباط 2023. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية أن صادرات النفط الروسية ستتراجع إلى ما يناهز ستة ملايين برميل يوميًا خلال 2023-24. وعلى المدى المتوسط، قد تشتري الهند من مليون إلى مليونين برميل، ويمكن للصين أن تستهلك الباقي- على افتراض أن كلا البلدين يريدان أن يصبحا أكثر اعتمادًا على شريك خبيث وغير موثوق به.

ولا يزال ممكنا أن تؤدي عمليات الشراء التي تقوم بها الهند والصين وقلة قليلة من الدول الأخرى إلى الكثير من التدفق النقدي الحر والإيرادات الضريبية داخل روسيا. وأيا كان من يقود روسيا سيُستثمر جزء كبير من هذه العائدات في صنع الأسلحة وشرائها- بما في ذلك الصواريخ التي يمكن أن تضرب بها مجموعة واسعة من البلدان من مسافات طويلة. ويأمل المرء أن تكون الدول الأعضاء في حلف "الناتو" تحظى ببعض الحماية من التهديد بالانتقام؛ ولكن من المتوقع أن تشارك روسيا في أعمال تخريبية وهجمات أخرى يمكن أن تنكرها. وتستهدف هذه الهجمات البنية التحتية للطاقة للدول الغربية (والأهداف الاستراتيجية الهشة المماثلة). إن روسيا في طريقها لأن تصبح الدولة المنبوذة الأفضل تمويلاً على الإطلاق.

خلال الحرب الباردة، كان الاتحاد السوفيتي حريصًا على عدم مهاجمة أوروبا الغربية والولايات المتحدة بصورة مباشرة (والعكس صحيح). وبدلاً من ذلك، استخدم كلا الجانبين الحروب بالوكالة وغيرها من أساليب الضغط. ولكن هذه المرة، يجب أن نتوقع المزيد من المواجهة المباشرة. إذ وضعت النخبة الروسية نفسها في مأزق، من خلال تبنيها لمجموعة غريبة من المعتقدات- القومية اليمينية بشأن المنشطات- والأسلحة بعيدة المدى. إن تقديم التنازلات لهؤلاء المتطرفين لن يؤدي إلا إلى تشجيعهم على أخذ المزيد.

إن ضرورة تقييد حجم الأموال التي يمكن لروسيا إنفاقها على العدوان بمرور الوقت هو ما يجعل تحديد سقف أسعار صادرات النفط الروسية مسألة مهمة. والدليل حتى الآن هو أن هذه الإجراء يعمل على النحو المنشود، مما مكن الهند والصين من شراء النفط الروسي بخصم كبير مقارنة مع الأسعار العالمية.

ولكن يجب اتخاذ مزيد من الإجراءات، بما في ذلك تسريع الاستثمارات في الطاقة المتجددة لتقليل الطلب العالمي على النفط. وإذا واصلنا الاعتماد على روسيا وحلفائها في منظمة أوبك +، فإنهم سيكتسبون قدرة هائلة لعرقلة اقتصاداتنا. وهناك الآن بُعد أمني وطني ملح فيما يتعلق بالتحول الطاقي.

وكان للتضخم المرتفع في سبعينيات القرن العشرين أسباب متعددة، بدءًا من الاقتصادات المحدودة في ستينيات نفس القرن (وحرب فيتنام). ولكن المشاكل تفاقمت بسبب صدمتين في أسعار النفط حدثا في عامي 1973 و1979. ويدرك أعضاء أوبك + أن لديهم القدرة على إحداث هذه الصدمتين من جديد، في الوقت الذي يختارونه- أو في المرة القادمة التي تطلب فيها روسيا أن يسدوا خدمة لها.

ولا يستجيب العرض والطلب على النفط إلى حد كبير لأسعار النفط على المدى القصير، لكنهما كانا في الماضي يستجيبان تمامًا على مدى 5-10 سنوات. وفي عام 2023 وما بعده، يجب أن تركز الدول الغربية بصورة كبيرة على خفض الطلب على الوقود الأحفوري، وخاصة النفط، وزيادة المعروض من مصادر الطاقة البديلة (الخارجة عن سيطرة روسيا ومنظمة "أوبك").

* سيمون جونسون، كبير الاقتصاديين السابق في صندوق النقد الدولي، وأستاذ في كلية سلون للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ورئيس مشارك لتحالف سياسة COVID-19. ومؤلف مشارك (مع جوناثان جروبر) انطلاق أمريكا بسرعة: كيف يمكن للعلم الخارق أن ينعش النمو الاقتصادي والحلم الأمريكي، ومؤلف مشارك (مع جيمس كواك) لـ 13 مصرفيًا: استحواذ وول ستريت والانهيار المالي التالي.
https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق