q
يتعين على الأوروبيين أن يستغلوا العامين المقبلين للحد من اعتمادهم على الولايات المتحدة. وإذا خاض بايدن الانتخابات مرة أخرى وفاز، فسوف تكون أوروبا الأكثر اعتمادا على الذات قادرة على العمل كشريك أفضل كثيرا للولايات المتحدة. أما إذا انتُـخِـبَ ترمب أو شخصية أخرى من المشككين في أوروبا، فسوف يكون...
بقلم: مارك ليونارد

واشنطن، العاصمة ــ الآن فقط، يتنفس القادة الأوروبيون الصعداء بعد فشل الجمهوريين في تحقيق "الموجة الحمراء" في انتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة. ورغم أن التكوين النهائي لمجلس النواب لا يزال مجهولا، فقد تمكن الديمقراطيون من التمسك بمقاعدهم في مجلس الشيوخ، وبات من الواضح بالفعل أن الكونجرس الأميركي لن يكتسحه فيضان الأنصار الانعزاليين الذين يؤيدون دونالد ترمب وفلاديمير بوتن. ولكن بدلا من استغلال هذا الوقت للاحتفال، يحتاج الأوروبيون إلى الاستعداد للعاصفة المحتملة التالية.

على أية حال، استفادت أوروبا من لحظة غير عادية من الوحدة عبر الأطلسية على مدار العام الأخير. فقد استجابت الشراكة الأميركية الأوروبية بسلاسة لغزو روسيا لأوكرانيا من خلال فرض عقوبات منسقة، ومع استشارة الولايات المتحدة للحكومات الأوروبية قبل ملاحقة أية محادثات حول مستقبل الأمن الأوروبي مع الكرملين. أما حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التحالف الذي اعتبره الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في عام 2019 "ميتا دماغيا"، فإنه يزدهر الآن ويستعد للترحيب بفنلندا والسويد كعضوين جديدين. وأخيرا، يُـنـفِـق الأوروبيون قدرا أكبر من الأموال على الدفاع، وحتى ألمانيا بلغت الهدف الذي طالما وعدت به والذي يتمثل في تخصيص 2% من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع.

يتفق الأميركيون والأوروبيون في عموم الأمر أيضا على التحديات الاستراتيجية التي تفرضها الصين، وخاصة الآن بعد أن نجح الرئيس الصيني شي جين بينج، الذي حكم بالتهديدات الاقتصادية والسياسات الخارجية العدائية، في توسيع سلطته وتوطيدها. وفي الغرب يسود شعور قوي بأن "الغرب قد عاد". إذ تعمل الولايات المتحدة وأوروبا على توجيه الوحدة السياسية المكتشفة حديثا لدعم القيم المشتركة والرؤية المشتركة للهيئة التي يريدان العالم عليها.

لكن سُـحُـب العاصفة تتجمع بالفعل. في الأمد القريب، ربما يحاول مجلس النواب الذي يسيطر عليه الجمهوريون مقاومة فكرة أن أميركا يجب أن تغطي جزءا كبيرا بشكل غير متناسب من تكاليف الدفاع عن أوكرانيا. كما يلاحظ زميلي في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية جيريمي شابيرو في تعليق حديث، تعهدت الولايات المتحدة بتقديم 24 مليار دولار في هيئة مساعدات عسكرية لأوكرانيا، في حين التزمت أوروبا بنصف هذا المبلغ فقط. لماذا يدفع الأميركيون أكثر من جيران أوكرانيا أنفسهم؟

علاوة على ذلك، في الأمد الأبعد، قد تتسبب المناقشات حول كيفية تعريف الانتصار الأوكراني في خلق توترات جديدة. فبينما تشير إدارة بايدن وفرنسا وألمانيا إلى ضرورة إجراء مفاوضات سلام عند مرحلة ما، أوضحت بولندا ودول البلطيق أنها تريد أن ترى روسيا متواضعة ومهزومة. من ناحية أخرى، رشح ترمب نفسه للتوسط في اتفاق بين روسيا وأوكرانيا.

لا يخلو الأمر أيضا من توترات تختمر تحت السطح عندما يتعلق الأمر بالصين. ففي حين يتحرك جميع الحلفاء عبر الأطلسي في ذات الاتجاه، فإن هذا لا يعني أنهم يقصدون ذات الوجهة. على سبيل المثال، قام المستشار الألماني أولاف شولتز بزيارة إلى بكين، حيث أظهر قدرا ضئيلا من الاهتمام بالفصل بين الاقتصادات الأوروبية والاقتصاد الصيني (برغم أنه يدرك تمام الإدراك مخاطر الاتكالية المفرطة).

تَـمَـلَّـكَ الفزع من الأوروبيين أيضا إزاء اعتبارات الحماية التي يقوم عليها قانون الشرائح والعلوم الأميركي، وقانون خفض التضخم، والقرار الذي اتخذته وزارة التجارة بتقييد التعاون في قطاعات التكنولوجيا الفائقة. الواقع أن قانون خفض التضخم يغلق سوق الـمَـركَـبات الكهربائية الأميركية حتى أمام شركات من حلفاء مثل أوروبا، واليابان، وكوريا الجنوبية. والأوروبيون محقون في الشعور بالقلق والانزعاج من أن يتحولوا إلى أضرار جانبية في الحرب الاقتصادية التي تشنها أميركا على الصين ــ ومع ذلك يُـدّعَون إلى تقديم الدعم الدبلوماسي في ما يتصل بقضية تايوان.

لكن أكبر المخاطر لا تزال تأتي من السياسة الداخلية الأميركية. تساءل العديد من المعلقين حول ما إذا كان أداء الجمهوريين الضعيف نسبيا في انتخابات التجديد النصفي يشير إلى نهاية سيطرة ترمب على الحزب. لم يقتصر الأمر على فشل العديد من المرشحين الذين دعمهم ترمب، بل إن حاكم فلوريدا رون ديسانتيس، وهو أحد أبر المتنافسين على ترشيح الحزب الجمهوري لمنصب الرئاسة في عام 2024، فاز بإعادة انتخابه بأغلبية ساحقة. يتمتع ديسانتيس بقدر كبير من الشعبية، لكنه إذا تحدى ترمب فقد ينتهي به المطاف إلى ملاقاة ذات المصير الذي لاقاه جيب بوش والآخرون الذين رفضهم الناخبون الجمهوريون في الانتخابات التمهيدية في عام 2016.

الأمر الأكثر أهمية أن مذهب ترمب لم يمت. سوف يتسمر المرشحون الجمهوريون في خوض حروب تتغذى على ثقافة الأرض المحروقة واحتضان مواقف مماثلة لمواقف ترمب ضد التجارة الحرة، والهجرة، والتدخل الأجنبي، وأوروبا. ونظرا لحالة الاقتصاد العالمي المتدهورة، فقد تكون الظروف مواتية للجمهوريين لتقديم أداء أفضل في الانتخابات المقبلة، وخاصة إذا تعلموا من أخطائهم في عام 2022.

لكل هذه الأسباب، يتعين على الأوروبيين أن يستغلوا العامين المقبلين للحد من اعتمادهم على الولايات المتحدة. وإذا خاض بايدن الانتخابات مرة أخرى وفاز، فسوف تكون أوروبا الأكثر اعتمادا على الذات قادرة على العمل كشريك أفضل كثيرا للولايات المتحدة. أما إذا انتُـخِـبَ ترمب أو شخصية أخرى من المشككين في أوروبا، فسوف يكون الأوروبيون على الأقل في وضع أفضل لتحمل العاصفة. مع تبقي عامين فقط لإقامة دفاعات فَـعّـالة ضد أي "موجة حمراء" في المستقبل، فإن الوقت حان لكي يبادر الأوروبيون إلى بناء جدارهم بالطريقة التي تناسبهم.

* مارك ليونارد، مدير المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، مؤلف كتاب "عصر عدم السلام: كيف يتسبب الاتصال بالصراع"
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق